كليات التربية في خطر .. هذه العبارة ترددت بأشكال مختلفة خلال الفترة الماضية منذ صدور قرار وزير التعليم العالي؛ بشأن إصدار اللائحة الدراسية الموحدة لإعداد المعلم، إذ تفجرت كثيرٌ من المشكلات، والتساؤلات بفضل التغييرات الواسعة التي تضمنتها هذه اللائحة، وما يشوبها من متطلبات بشرية ومادية، ليست متوافرة حاليًا في كليات التربية، وما توحي به من أن هناك قوى خفية يهمها العمل على الإلغاء التدريجي لكليات التربية، و اعتبارها بداية "موت كليات التربية المصرية". وانطلاقًا من الإحساس العام لدى بعض الأساتذة بالخطر الذي يداهم كليات التربية، وحجم التغييرات التي لم تكن في حسبان أحد من قبل، بل ولا يمكن أن يصدقها عقل تربوي واعٍ، ومنضبط، والتهديد الذي يطال التقاليد الراسخة للبرامج، والمناهج، والمقررات، وأساليب العمل داخل الكليات، كذلك بالنظر إلى الأهمية القصوى لفكرة تطوير كليات التربية بوضع لائحة موحدة جديدة لها جميعًا، يتعين توضيح، وبيان النقائص، وجوانب العوار التي أفقدت اللائحة كثيرًا من قيمتها، وإمكانيات نجاحها في تحقيق أهدافها. ويأتي التوضيح في صورة بيان أبعاد مهمة لم تتطرق إليها اللائحة، أو تم التعامل معها بما لا يعكس أهميتها الحقيقية، وجميعها مر، ومهين لأساتذة كليات التربية. ويأتي التعليق الحالي على اللائحة الموحدة لكليات التربية في صورة توضيح لجانبين: يعرض أولهما، بعض الأبعاد المهمة التي تتعلق بمدى مشروعية إصدار اللائحة، وتداعياتها الوطنية، والمجتمعية، أما الثاني، فيحاول توضيح بعض الأبعاد التي غابت عن اللائحة، ولم تتطرق إليها، أو تم التعامل معها بما لا يعكس أهميتها الحقيقية. وقد تم حصر تسعة أبعاد تتعلق بمشروعية التقرير، وتداعيات تنفيذه، وتلك المتعلقة بغياب جوانب مهمة عن اللائحة، أفقدتها كثيرًا من قيمتها، نعرضها على النحو التالي: افتقاد اللائحة الموحدة الشرعية القانونية: إن اللائحة الجديدة تمثل انتهاكًا صارخًا، وصريحًا لقانون تنظيم الجامعات، ولا يتفق مضمونها – في أغلب الموضوعات – مع نصوص القانون الحالي في مجالات مثل: مجانية التعليم، وطبيعة الدراسة في كليات التربية، وسنوات الدراسة، والوزن النسبي للمقررات التربوية النظرية، والتطبيقية العملية، وتوزيع الدروس، وساعاتها، (وسوف نفصل في تحليل هذه الجوانب مستقبلًا). إن صدور قرار خاص بتنفيذ اللائحة الموحدة، والتي تخالف – في أغلب بنودها – قانون تنظيم الجامعات الذي صدر بعد مناقشة جميع مواده بالمجلس النيابي، وبعد عرضه على أساتذة الجامعات، وأخذ موافقتهم، وبعد الموافقة عليه من المجلس الأعلى للجامعات، ووزير التعليم العالي، وأخيرًا اعتماده من رئيس الجمهورية يُعدّ تجاوزًا غير مقبول، وغير مشروع، ولا يتفق مع ما يتعين القيام به من إجراءات في سبيل تحقيق مشروعية اللائحة الجديدة. والواقع أن سلطات الوزير، والمجلس الأعلى للجامعات لا يخوّل لها التعرض لمثل هذه الموضوعات، وحتى بفرض أن للوزير، والمجلس الأعلى للجامعات، ولجنة قطاع الدراسات التربوية هذا الحق فكان لا بد من مباشرة هذا الحق في ظل نصوص القانون القائم فعلًا، وليس في ظل مشروع قانون يتستر تحت اسم لائحة موحدة. ومن ثم، فإن اللائحة الموحدة تفتقد متطلبات الشرعية القانونية كافة. الغريب، والمريب هو سكوت بعض أساتذة التربية عن سلبهم حقهم في تقرير مصيرهم، وبناء مستقبل كلياتهم؛ وفقًا لرؤاهم العلمية التربوية، كما لم يملكوا شجاعة الغضب، والاحتجاج على جميع مشروعات هيئة المعونة الأمريكية؛ بموافقة، ومباركة الإدارات الأكاديمية، والسياسية التي سلبت الجامعات استقلالها، وأصبح الأمن فيها له الكلمة العليا. انتهاك مبدأ استقلال الجامعة: أحد الإشكاليات الجوهرية التي ترتبط بالملاحظة السابقة، وتتعلق بطبيعة اللائحة الموحدة التي تم اعتمادها، والبدء في تنفيذها خلال هذا العام الجامعي 2023 / 2024، هي: إشكالية استقلال الجامعة، وكلياتها، أو تقييد حريتها الأكاديمية في تسيير أمورها العلمية، والإدارية، والمالية. والسؤال الأساسي هنا هو: منْ يصنع القرار المتعلق بمستقبل كليات التربية؟ وكيف؟ هل يصدر القرار المتعلق بمستقبل كليات التربية من الفئة صاحبة المصلحة في مسيرة تطويرها؟ لا على الصعيد الإداري، والمالي فحسب، بل على صعيد ممارسة حقها القانوني، والعلمي، والأخلاقي في وضع لوائحها الجامعية، وتحديد أقسامها، والشُعب العلمية التي تتضمنها، والمواد الدراسية المقررة لكلٌ منها. وفي هذا المقام يشير بعض الأساتذة إلى أن رؤساء الجامعات، وبعض عمداء كليات التربية، وأساتذتها قد شاركوا بالفعل – من خلال لجنة قطاع الدراسات التربوية – في وضع لائحة كليات التربية، وتحديد مستقبلها، ويوجد بلائحة برنامج الليسانس، والبكالوريوس قائمة بأسماء هؤلاء الأساتذة، وبالمثل في لائحة الدبلوم العامة. كما أن المجلس الأعلى للجامعات الذي يضم جميع رؤساء الجامعات، بالإضافة إلى السيد الدكتور أمين المجلس الأعلى للجامعات قد تم عرض اللائحة عليهم، ووافقوا عليها. لكن الحقيقة المؤلمة، والمرة التي لا يمكن أن تغيب عن أذهان الجميع أن مجلس الجامعة يتكون من أعضاء – أغلبهم تقريبًا – معينون بواسطة رئيس الجامعة، وهم يمثلون عمداء الكليات الذين يصدر رئيس الجامعة قرارات تعيينهم؛ وفقًا لاختياراته الشخصية البحتة. وكذلك مجالس الكليات تتكون من أعضاء أغلبهم معينون بواسطة رئيس الجامعة، ومن بينهم رؤساء الأقسام العلمية الذين يعينون بقرارات من رئيس الجامعة في ضوء ترشيح العميد. ولقد بات تصريف أمور كليات التربية (والكليات الجامعية الأخرى كافة)، وإدارة الجامعة في ظل الأوضاع التنظيمية الراهنة في قبضة عميد الكلية، ورئيس الجامعة. وكل الشواهد، والدلائل الماثلة بالجامعة تؤكد بوضوح مطلق هيمنة رئيس الجامعة، وسيطرته، وانتفاء ديمقراطية الأقسام العلمية، وتركيز معظم السلطات الإدارية في عملية صنع القرار في مجلس الجامعة، وبالتالي في يد رئيس الجامعة. ومرة أخرى نؤكد أن مجلس الجامعة الذي يرسم سياسة الجامعة يتكون – في معظمه – من عمداء الكليات، وهم معينون، ويرأسه رئيس الجامعة. كذلك حال المجلس الأعلى للجامعات الذي يتكون من رؤساء الجامعات، وجميعهم معينون بواسطة السلطة التنفيذية، الأمر نفسه مع أمين المجلس الأعلى للجامعات، وجميع أعضاء لجنة قطاع الدراسات التربوية، ورئيسها. ويتم الاختيار في جميع هذه المناصب، والمجالس، ليس طبقًا لأي ضوابط، أو معايير شفافة، وواضحة، بل وفقًا لبعض الإجراءات الشكلية التي تنتهي بأن يكون المعيار الوحيد هو استعداده للتعاون مع الإدارات الجامعية، والأمنية العليا، ومع النظام السياسي السائد. الواضح إذن أن من شاركوا هيئة المعونة الأمريكية في وضع اللائحة، واعتمادها لا يمكن اعتبارهم ممثلين لجموع أساتذة التربية بقدر ولائهم للسلطات التنفيذية. ومن ثم، فإن صدور اللائحة الموحدة من جانب لجنة القطاع، والمجلس الأعلى للجامعات يُعدّ انتهاكًا صريحًا لمبدأ استقلال الجامعة الذي ينص عليه الدستور، وقانون تنظيم الجامعات الحالي. والخلاصة، أن اللائحة الموحدة تمثل ارتدادًا خطيرًا عن الديمقراطية، وتهديدًا بالغًا لاستقلال الجامعات، وتم إقرارها بصورة متعجلة لا تتناسب خطورتها، وأهميتها مع ما نص عليه الدستور المصري، وقانون تنظيم الجامعات من ضمان استقلال الجامعات. وقد فرضت هذه التعديلات على أساتذة الجامعات دون أن تعرض عليهم، كما لم يستشر فيها أحد، ولم تناقشها مجالس الأقسام، أو الكليات. الهيمنة الأمريكية، والتبعية التربوية: إن التبعية العلمية، والأكاديمية تعني هنا أن تعمل المعونات الأجنبية على إخضاع الدول، والمجتمعات النامية للعالم المتقدم، وتقليده في كثير من عناصر نظامه التعليمي، ومناهجه، ونظرياته، ومقرراته الدراسية، وأساليب، ومداخل إعداد المعلمين، حتى في الجوانب المتعلقة بإدارة المدارس، والجامعات، وتجسد البرامج الدراسية النظريات العلمية السائدة في هذه المجتمعات المتخلفة، أو النامية؛ وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالدول المتقدمة بدلًا من قيامها على أساس ما تتطلبه تلك المجتمعات من تطوير، وما تحتاجه مؤسساته، وأسواق العمل بها. والهدف الأسمى للإمبريالية الأمريكية يتمثل في فرض الهيمنة على العالم أجمع، وتحقيق تبعيته الاقتصادية، والقيمية، والعلمية، والثقافية للنُظم، والقيم الأمريكية، وغرضها السيطرة على رأس المال، وربط الاقتصاد العالمي بالاقتصاد الأمريكي، عن طريق آليات ومنظمات مثل الشركات متعددة الجنسيات، ومنظمة التجارة العالمية، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، واتفاقيات الجات، وغيرها. ولكن يبقى أن الآلية الأقوى تأثيرًا التي تستخدمها الإدارة الأمريكية هي آلية المعونات، وأهمها المعونات التعليمية، واستخدامها كوسيلة وحيدة؛ لتحقيق تدويل التعليم، وإخضاعه لقوانين السوق، والتجارة العالمية لصالح الرأسمالية الأمريكية، والتي تهتم اهتمامًا كبيرًا بمجال تجارة البرامج، والكتب المدرسية، والجامعية، وتبادل الخبراء، والتدريب، والتجارة في المؤهلات، والدرجات الجامعية، وغيرها. ويتم عن طريق المعونات التدخل في المناهج التعليمية، والبرامج الجامعية، وتغيير عقول الناشئة، وتذويب هوياتهم الوطنية، والعقائدية، ليسهل على البرامج التعليمية بث القيم الأمريكية البديلة. والواقع، أن الهيمنة الأمريكية، وشركاتها الرأسمالية على النظام التعليمي المصري قد بدأت بالسيطرة على مناهج التعليم العام عن طريق نظام 2.0، والذي شاركت فيه هيئة المعونة الأمريكية، والبنك الدولي في تصميمه من الألف إلى الياء مع استبعاد كامل لأساتذة كليات التربية، والخبرات الجامعية المصرية الأخرى. خصخصة كليات التربية، وإلغاء المجانية: اللائحة الموحدة لكليات التربية تؤرخ بداية خصخصة كليات التربية، ومن المتوقع بطبيعة الحال بداية خصخصة جميع الكليات الجامعية الأخرى، والخصخصة التي نقصدها هنا – بمفهومها الشامل – تعني التعامل في إطار الاقتصاد الحر، والاندماج مع قوى السوق، وإدخال آلياته في الأهداف، والأساليب الإدارية، والشروط التجارية الحاكمة للمشروع التعليمي، ومن أهمها المرونة، والربحية، والتنافسية، والجودة؛ للحصول على المخرجات (أو نواتج التعلم)، أو الخدمة المطلوبة للجمهور (أي الزبون). ويبدو من الواضح أن التوجه الحكومي العام نحو خصخصة التعليم العالي، والذي بدأ بإتاحة الفرص أمام القطاع الرأسمالي؛ لإنشاء مؤسسات جامعية مستقلة، وإدارتها؛ وفقًا للقوانين الجامعية، وقوانين الملكية الخاصة، والنُظم الإدارية في المجتمعات الرأسمالية. ثم خطت الإدارة السياسية خطوات أوسع نحو خصخصة التعليم الجامعي عن طريق إتاحة الفرص للجامعات الحكومية نفسها؛ لإقامة برامج جديدة باللغات الأجنبية، وبشهادات مشتركة مع الجامعات الغربية، ثم أكملتها بتأسيس جامعات، ومعاهد علمية (أهلية !!؟) بمصروفات باهظة، واللافت للانتباد في اللائحة الموحدة أنها تفرض نظام الساعات المعتمدة مقابل تكلفة لكل ساعة معتمدة يسددها الطالب، على جميع كليات التربية التي تعمل تحت لواء المجلس الأعلى للجامعات، أي التحول المعلن من نظام مجانية التعليم؛ بالمخالفة لما يفرضه قانون تنظيم الجامعات رقم (49) لسنة 1972، وهذا الأمر في حد ذاته ينفي عن اللائحة الجديدة مشروعيتها المتوهمة. إن اللائحة الموحدة بإلغائها مجانية التعليم في مرحلتي الليسانس، والبكالوريوس، والدبلومة العامة، وجعل التعليم بمصروفات، تُعدّ مخططًا معاديًا للنهضة الوطنية، بل وللحضارة الإنسانية، ذلك أن مسألة مجانية التعليم هي من الأُسس المهمة؛ لتحقيق النهضة الوطنية، وبناء الحضارة، والتقدم، وبدونها لا يمكن التغلب على التخلف، وتحقيق التنمية، ومن ثم فإن تمسك الرأي العام المصري، وفي مقدمته المعلمون، وأساتذة التربية، وأولياء الأمور بمجانية التعليم، هو في حقيقته رفض للتخلف، وانتصار للحضارة الإنسانية. غياب الرؤية الاستراتيجية الشاملة: والرؤية الاستراتيجية هنا تعني وضع الاستراتيجيات اللازمة للعلاج الشامل الذي يمس جميع مكونات منظومة إعداد المعلم، أي أن يكون الإصلاح شاملًا، ويبدأ الإصلاح من تصور مستقبلي يرسم صورة المعلم الذي نريده للعالم الجديد، والمتغير. تلك الرؤية الاستراتيجية الغائبة كان عليها أن تحدد الأهداف الاستراتيجية لجامعة المستقبل، وفي القلب منها كليات التربية المصرية، وأساتذتها، وطلابها، مع الأخذ في الاعتبار التطورات المجتمعية، والتقنية المتسارعة. كذلك من المفترض أن توفر تلك الرؤية الاستراتيجية، والمعايير الأساسية في المفاضلة بين سياسات، ومداخل تطوير عمليات إعداد المعلم المختلفة. كذلك فإن غياب تلك الرؤية الاستراتيجية جعل اللائحة تضم مجموعة من اللوائح المنعزلة (لائحة برنامج الليسانس، والبكالوريوس، ولائحة الدبلوم العامة، ومن المتوقع استكمال اللائحة مستقبلًا بوضع لائحة برنامج الدبلوم المهني، ولائحة برنامج الدبلوم الخاص، ولائحة برنامج الماجستير، والدكتوراه) مما يفقد اللائحة الرابط الذي يجمع أفكارها، وتوجهاتها، وينسق بينها في مشروع متكامل، ومتماسك إمكانية أن تكون بدون تناقضات. بل إن فريق العمل الذي أنجز لائحة برنامج الليسانس، والبكالوريوس يختلف عن فريق عمل لائحة الدبلوم العامة، وكلّ منها له قرار وزارى مستقل يختص به. كما أدى غياب الرؤية الشاملة المستقبلية إلى انحصار توجهات اللائحة بأقسامها المختلفة في محاولة سد الفجوات المتعلقة بالمستوى الحالي للمعلم من حيث عدم قدرته على مواكبة النظام الجديد للتعليم قبل الجامعي (نظام 2.0) حيث أنصب التطوير في هذا النظام على الانتقال من المناهج الدراسية المنفصلة إلى المناهج المتكاملة متعددة التخصصات. ومن ثم جاءت مقترحات اللائحة (بشقيها لبرنامج الليسانس، والبكالوريوس، وبرنامج الدبلوم العامة) أبعد ما تكون عن منطق التطوير، وأقرب إلى فكر الترميم، والعلاج الجزئي الذي يبنى – تقريبًا – على الهياكل، والأُطر التربوية، والتعليمية، والتقنية القائمة دون أن يخضعها للمناقشة والتقويم، لتبين مدى جدواها، وقدرتها على الصمود في مواجهة التحديات المستقبلية، ناهيك عن قدرتها على استيعاب محاولات العلاج، والترميم ذاتها. ومع ذلك، فإنه في سبيل تحقيق هذا الهدف الجزئي البسيط المتعلق بتدريب المعلم على مهارات التدريس؛ باستخدام مدخل التكامل متعدد التخصصات، لجأ واضعو اللائحة إلى قلب النظام الحالي رأسًا على عقب من حيث الإفراط الإنشائي المكرور للأهداف، والجدارات المطلوبة، وتطبيق نظام الساعات المعتمدة على جميع كليات التربية، وفرض مصروفات جديدة تقررها الكليات، والجامعات، وانظمة، وآليات كثيرة أخرى دون أي داعٍ لكل ذلك. غياب الجانب المتصل بالآليات، والإمكانيات اللازمة؛ لتحقيق أهداف اللائحة، وبرامجها: فقد تجنبت اللائحة الحديث عن واقع البنية البشرية، والمادية في كليات التربية، وصلاحية التكوينات القيادية، والعلمية القائمة؛ لاستيعاب متطلبات نظام التعليم 2.0 من استراتيجيات، وجدارات، وإمكانات مادية؛ فضلًا عن إرادة أعضاء هيئة التدريس خصوصًا في ظل عدم كفالة حق الاختيار، والمشاركة في صنع القرارات المتعلقة بكلياتهم، وقياداتها، وأنظمتها، ولوائحها. إن قضايا تطوير البنية التحتية – المادية، والبشرية – تقع في مكان القلب من أي مشروع؛ لتطوير كليات التربية، وبدونها تصبح محاولات التطوير في مجالات استخدام المدخل التكاملي، والتكيف مع المناهج الجديدة المُعدلة ببعض صفوف رياض الأطفال، والمدارس الابتدائية، فاقدة الإطار الصحي، والظروف الموضوعية التي تضمن تفعيلها، واستمرارها، وعدم الاعتداد بالآليات، والإمكانيات اللازمة لتنفيذ اللائحة ادى إلى اقتصار معدي اللائحة (من المصريين، والأمريكيين، وغيرهم) على سرد أفكار، وتوجهات رأوها مهمة للتكيف مع مناهج 2.0. لكنهم لم يقدموا الإجابات الواجبة عن أسئلة محورية تتعلق بكيف تتحقق الأهداف، وأساليب تكوين الجدارات المطلوبة؟ وهل يعتمد في الأساس على المبادرات الذاتية، أي من داخل الكليات نفسها؟ أم أن للمبادرات الخاصة بوزارتي التعليم العالي، والتربية، والتعليم، وكذلك هيئة المعونة الأمريكية، وخبراءها دورًا في ذلك التطوير. ولا شك أن محاولة التطوير التي تجسدها اللائحة تقتضي توفير موارد كثيرة، وتكلفة مالية عالية كان من المهم تقديرها، وبيان مصادر توفيرها، وتحديد من يتحمل أعباءها، وكان الأولى بها هيئة المعونة الأمريكية. وعلى سبيل المثال، لا يتوفر في أغلب كليات التربية في مصر مختبرات مجهزة بالمتطلبات التقنية الضرورية لتنفيذ دروس التدريس المصغر، والتدريب داخل الكلية، كما لا يوجد في المكتبات المصرية، ولا في كليات التربية مناهج جامعية معدّة للتدريس؛ وفقًا لمدخل التكامل متعدد التخصصات، واحتياجات تدريب أعضاء هيئات التدريس في هذا المجال واضحة، وجميعها، وغيرها يتطلب توفير ميزانيات متاحة قبل البدء في تنفيذ اللائحة، وعدم تحديد الموارد المالية، والتقنية، والبشرية اللازمة؛ لتنفيذ اللائحة قد يحوّل مشروع تطوير عمليات إعداد المعلم إلى مجرد تمنيات لا تجد طريقها للتنفيذ، أو يبدأ تنفيذ بنود اللائحة الجديدة – كلها، أو بعضها- ثم يتوقف قبل بلوغ أهدافها، أو تتعثر، أو تخفق في تحقيق أهدافها؛ لقصور الموارد المالية، والإمكانات التقنية، والبشرية، وغيرها من متطلبات التنفيذ التي تعتمد في نهاية الأمر على توافر الموارد المالية. والمدهش أن عدم تعرض اللائحة للآليات، والإمكانيات اللازمة لتنفيذ اللائحة الموحدة أقترن بخلو توجهات اللائحة من إتاحة فترة انتقالية للاستعداد لتنفيذها، وتوفير متطلبات تدريس المقررات النظرية، والتطبيقية، وإعداد توصيفات المقررات، والتدريب الكافي على الاستراتيجيات، وعلى استخدام المداخل المطلوبة. وكان لا بد من تحديد إطارًا زمنيًا انتقاليًا للبدء في تنفيذ اللائحة. وأخيرًا، لعلنا نتسائل هل اللائحة الموحدة، ومحاولة تنفيذها فورًا يأتي في الوقت المناسب قبل مناقشتها، وقبل إعداد المتطلبات المادية، والبشرية اللازمة لها، وما زالت الكليات (والجامعات بأسرها) تعاني من مشكلات صعبة تتعلق بطرائق تعيين القيادات الجامعية، والهيمنة الأمنية، ومعاناة الطلاب عن الظروف الاقتصادية الصعبة، وشكوى الأساتذة أنفسهم من قسوة الأحوال المادية، والاجتماعية؛ فضلًا عن الأمراض التي تعاني منها هذه الكليات سواء في الإمكانيات المادية من منشآت، ومعامل، ومناهج متخلفة مرورًا باختيار الطلاب للقبول، وانتهاءًا بالمحور الأساسي، وهو القصور في إعداد أعضاء هيئة التدريس أنفسهم. الواقع أن الوقت غير مناسب، ولا داعي للهرولة في تنفيذها. غياب دور الإدارة في تنفيذ اللائحة: لم تتعرض اللائحة إلى تلك القضية المحورية التي تتوقف عليها احتمالات النجاح، أو الفشل في الوصول إلى الغايات المستهدفة من مشروع اللائحة. إن عملية التطوير الشاملة، هي عملية متعددة الأبعاد، ومتشابكة الأطراف، ويعتبر مستوى التطوير المتحقق محصلة تعامل، وجهود مجموعات كبيرة من الأفراد، والأقسام العلمية داخل كليات التربية. وبذلك تصبح مسألة قيادة، وتوجيه عمليات التطوير، وتنفيذ اللائحة مسألة حيوية على المستويات كافة بدءًا من قيادة القسم، والكلية، والجامعة. وتكشف الخبرات السابقة في مجال تطوير عمليات التعليم التي فشلت في تحقيق معدلات مناسبة من التقدم التربوي، وأحدثها تجربة تنفيذ نظام 2.0 عن أهمية، وحيوية قيادة فكرية، وتنظيمية واعية تستطيع جمع، وتوحيد جميع العاملين في الكلية على أهداف اللائحة، وتنسيق الجهود، واتخاذ القرارات اللازمة. غياب الربط، والترابط بين كليات التربية، ووزارة التعليم: وليس من شك أن هذا الترابط ضروري جدًا؛ لتحقيق أهداف اللائحة؛ إذ يتطلب تنفيذها تحقيق تكامل بين كليات التربية، وأساتذتها، ووزارة التربية والتعليم، وبما يعني أن الوزارة تدعو كليات التربية إلى مائدة التنسيق، والتكامل. وتبدو الحاجة أكثر إلحاحًا في مجالات تخطيط المناهج، والكتب المدرسية، والإمتحانات، والبحوث التربوية، وتدريب المعلمين، وغير ذلك. وقد تجاهلت وزارة التربية والتعليم – ولا تزال- أساتذة التربية في مشروعاتها، واعتمدت كلية خلال العقد الماضي على الخبرة الأمريكية، والأجنبية خصوصًا في تطوير المناهج الذي انفردت به الشركات الأمريكية، ولا زالت ماضية في تطوير كتب المرحلة الإعدادية، والثانوية؛ وفقًا لتعاقدات سارية حتى الآن. إن تحقيق التنسيق، والتكامل بين وزارة التربية والتعليم، وكليات التربية من أجل تحقيق أهداف اللائحة الجديدة يعني أيضًا إشراك بعض أساتذة التربية في بعض لجان وزارة التربية والتعليم، وإشراكهم في لجان تأليف الكتب المدرسية الخاصة بنظام 2.0، وغيرها. ولا مناص – سواء في ضوء اللائحة الجديدة، أو غيرها – من الربط بين كليات التربية، ووزارة التربية والتعليم؛ للاتفاق بينهما على أساليب، وإجراءات تنفيذ المناهج التعليمية، وتدريب المعلمين عليها. غياب الدور المحوري للتكنولوجيا الرقمية: ارتبط غياب الرؤية الشاملة عن اللائحة الموحدة إلى عدم الالتفات إلى أهمية دور التكنولوجيا الرقمية في عمليات تحديث إعداد المعلم، وانحصر الحديث عن التكنولوجيا في جانبها المحدود؛ كمقرر دراسي، وحصره – غالبًا- في أقسام تكنولوجيا التعليم بصفة أساسية. ولكن ما لم تلمسه اللائحة هو البُعد الأعمق، والأهم للتكنولوجيا الرقمية، وكونها محرك التطوير الشامل لعمليات التربية والتعليم في عالم اليوم، ووسيلة الانتقال بالتعليم في كليات التربية – وفي الجامعة بصفة عامة- من حالة تتسم بالتخلف التعليمي، والاعتماد على الوسائل، والأساليب التقليدية إلى مستوى كليات، وجامعات مجتمع المعرفة، والثورة الرقمية. إن التطوير التقني الرقمي الشامل لمؤسسات إعداد المعلم، وتبني تقنيات العصر في المعلومات والاتصالات، وغيرها تؤدي إلى تغييرات هيكلية شاملة في كليات التربية، وأنماط الاتصال، والتواصل التعليمي بها، وعلاقاته، الأمر الذي يرشح التكنولوجيا الرقمية أن تكون هي محور تطوير الجامعة، وأساس إعادة هيكلة مؤسساتها، وكلياتها، وفي القلب منها كليات التربية. خاتمة … لقد كان غرض المعونة الأمريكية، وقطاع الدراسات التربوية – المعلن – تطوير عملية إعداد معلم التعليم العام؛ ليواكب النظام الجديد للتعليم 2.0 حيث تم تطوير مناهجها الدراسية، من مناهج المواد المنفصلة إلى مناهج متكاملة متعددة التخصصات، وفرض هذا الأمر – وفقًا للائحة الموحدة – ضرورة تطوير جدارات إعداد المعلم العلمية، والمهنية، وإعداده تربويًا، وثقافيًا بكليات التربية؛ بما يتواكب مع تطبيق المنظومة الجديدة في التعليم، ومن ثم فإن هيئة المعونة الأمريكية، وقطاع الدراسات التربوية يستهدفان من هذه اللائحة النهوض بكليات التربية، وأساتذتها، وطلبتها؛ لتلحق بعمليات إعداد المعلم في المجتمعات الأمريكية، والأوروبية؛ لكنها لم تجد من الوسائل إلَّا تخريب كليات التربية، وقلب نظام التدريس بها، ومقرراتها رأسًا على عقب، وتوحيد نظام العمل بها (لأن التنوع رزيلة؟)، والرجوع بها إلى مصاف المدارس الابتدائية. وهذا هو فحوى اللائحة الموحدة المشئومة الذي تحمست له وزارة التعليم العالي، والمجلس الأعلى للجامعات تحمسًا غريبًا لدرجة أن السيد الوزير لم ينتظر رأي كليات التربية، وأساتذتها، وتخطي قانون تنظيم الجامعات الحالي، وقرر تنفيذه من العام القادم. وهذا هو ما أسمته اللائحة تطوير إعداد المعلم، ومسايرة النُظم العالمية لكليات التربية؛ فكأن اللائحة الجديدة تمثل كارثة على كليات التربية، ورجوعًا بها إلى الوراء. وباختصار، فإن الرؤية الجزئية التي تطرحها اللائحة الأمريكية الموحدة لا تحقق أي تطوير، بل تستهدف أولًا، وقبل كل شىء تحويل كليات التربية إلى مؤسسات اقتصادية تخضع لقوانين السوق، وسلطة، ونفوذ رجال الأعمال المصريين، والمستثمرين الأجانب، ويتناقض هذا المفهوم بالمطلق مع مفهوم استقلال الجامعات الذي يتطلع إلى تحقيقه جميع الأساتذة، والطلاب ليس في كليات التربية فحسب، وإنما في الجامعة على اتساعها. إن تطوير كليات التربية لا يتأتى إلَّا بتطبيق مبدأ استقلال الجامعة فعلًا، وعملًا، وباحترام شديد، ويبدأ الاستقلال الجامعي من القسم العلمي مرورًا بمجالس الكليات، ومجلس الجامعة، وانتهاءًا برئيسها. والحقيقة أنه لا يوجد مجتمع يؤمن بالديمقراطية إيمانًا حقيقيًا، وتكون الجامعة فيه فاقدة للاستقلال، وحرية البحث، والتفكير، والحق في تحديد أقسامها العلمية، و مناهجها، ومقرراتها الدراسية، وسُبل تقويم طلابها؛ وفقًا لرؤى أساتذتها، وخبراتهم. *د. كمال نجيب الجندي أستاذ المناهج وطرق التدريس كلية التربية – جامعة الإسكندرية