ما أضيق الفارق بين كلمة تعمير وكلمة تدمير من حيث الشكل. ولكن ما أخطر الفارق بينهما من حيث المضمون. أقول ذلك بمناسبة ما يقام في المحروسة من مشروعات وأعمال. على سبيل المثال، أنظر الى المشروعات التي تمت لتطوير العشوائيات وتحسين نوعية الحياة للسكان الفقراء فى الأسمرات وغيط العنب. أو أنظر إلى ما يتم في إطار مشروع حياة كريمة في القرى. كل ذلك هو في الواقع تعمير نقدره ونثمنه. وفى المقابل، فإن ما حدث فى منطقة مصر الجديدة في القاهرة أو في منطقة المنتزه في الاسكندرية لا يمكن اعتباره تعميرا بالمعنى الصحيح لكلمة تعمير. هو أقرب إلى التدمير منه إلى التعمير. وهذا لا نقدره ولا نثمنه، ونطالب بألا يتكرر. أقول ذلك على خلفية إعلان وزارة الزراعة منذ أيام إغلاق حديقة الحيوان (التي تعمل منذ افتتاحها عام 1891) لمدة عام ونصف مع بدء تنفيذ خطة تطوير حديقتى الحيوان والأورمان معا، بتكلفة مبدئية مليار جنيه. ويقوم بأعمال التطوير الهيئة القومية للإنتاج الحربى مع جهات أخرى، مقابل حصولها على حق انتفاع للحديقتين لمدة 25 عاما. وطبقا للمتاح من معلومات، فإن شركة الإنتاج الحربي للمشروعات والاستشارات الهندسية والتوريدات العامة هي المطوّر الرئيسي للمشروع بالتحالف والشراكة مع القطاع الخاص. وسوف يتمّ الاستعانة بخبرات شركات عالمية للتطوير وفقا لعدد من المحددات، منها رجوع حديقة الحيوان للإدراج ضمن الاتحاد العالمى لحدائق الحيوان، وعدم المساس بالمساحات الخضراء، والحفاظ على الأشجار والنباتات النادرة بالحديقتين، مع عدم المساس بالمبانى الأثرية والتاريخية، وألا تتجاوز المباني 1٪ من المساحة. ورغم أن هذا الكلام مطمئن إلى حد ما، إلا أن التجارب السابقة في "تطوير" أماكن ذات قيمة تاريخية كبيرة انتهت في الواقع الى عكس ما تم الإعلان عنه. ولعل "تطوير" منطقة المنتزه في الإسكندرية مثال حى على ذلك. وهذا يجعلنا ندق ناقوس الخطر ونعبر عن قلقنا على مصير حديقتى الحيوان والأورمان. فلننظر إلى ما حدث للمنتزه بعد ما سُمِّىِ التطوير والتعمير. طبقا لتجارب الأصدقاء ممن زاروه بعد "التطوير"، فإن كثيرا من الأشجار النادرة التي كانت موجودة هناك تم قطعها. وأغلب المساحات الخضراء تم رصفها ببلاط أسمنتى، أو تحولت الى مبان لغرض أو لآخر. حتى الداخل إلى فندق فلسطين يعانى الأمَرِّين ويطلب منه رسم دخول، حتى ولو لزيارة صديق من نزلاء الفندق. تم القضاء على البيئة المميزة للمنتزه بتدمير الحدائق وبإقامة مبان ومنشآت تتناقض مع الطابع التاريخى للقصور الملكية الموجودة فيه وملحقاتها. وفضلا عن ذلك، ساد منطق الجباية و"حَلْب" كل من يفكر في قضاء وقت للترويح عن نفسه في هذا المكان. خذ عندك: رسم الدخول (25) جنيها للفرد، تدخل مباشرة بعربيتك فى اتجاه إجباري على البارك و تدفع (50) جنيها للسيارة، للوصول إلى الشاطئ تنتظر عربة الجولف في طابور طويل وتدفع تذكرة 20 جنيها للفرد، لدخول الشاطئ تدفع 125 جنيها للفرد لاستخدام كرسى تحت شمسية. وأسعار الطلبات "أوفر"- كوب شاي مثلا ب (40) جنيها، فنجان قهوة تركي (50) جنيها، علبة كانز مياه غازية (40) جنيها. والسؤال: من هو الذى يدير المنتزه بعد "التطوير"؟ هل هي شركة المنتزه أم أنها جهات أخرى لا نعرفها؟. مشروع تطوير حديقتى الحيوان والأورمان يطرح الكثير من الأسئلة. أنا شخصيا لست ضد التطوير والتعمير، لكنى أخاف عليهما من داء "التطوير" والتدمير. وأخشى أنه إذا طُبِّقَت فلسفة التطوير المنتزهية على الحديقتين، سنصحو يوما لنقول: كان يا ما كان، في سالف العصر والأوان. كان عندنا هنا في الجيزة زمان حديقة نباتات وحديقة حيوان.