رضا حجازي: التعليم قضية أمن قومي وخط الدفاع الأول عن الوطن    تعزيزات عسكرية مصرية تزامنا مع اجتياح الاحتلال لمدينة رفح    حماية المنافسة: تحديد التجار لأسعار ثابتة يرفع السلعة بنسبة تصل 50%    رئيس «مصر العليا»: يجب مواجهة النمو المتزايد في الطلب على الطاقة الكهربائية    نشرة منتصف الليل| الحكومة تسعى لخفض التضخم.. وموعد إعلان نتيجة الصف الخامس الابتدائي    محافظ بني سويف: الرئيس السيسي حول المحافظة لمدينة صناعية كبيرة وطاقة نور    بعد الانخفاض الكبير في عز.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد بالمصانع والأسواق    شهداء وجرحى في غارة إسرائيلية على منزلين برفح ومخيم البريج (فيديو)    حزب الله يستهدف عدة مواقع لجيش الاحتلال الإسرائيلي.. ماذا حدث؟    «قطع في وتر اكيليس».. التشخيص المبدئي لإصابة علي معلول    فيريرا يدعم الزمالك: بالروح والعزيمة سنفوز بكأس الكونفدرالية لإسعاد الجماهير    اسكواش - وأخيرا خضع اللقب.. نوران جوهر تتوج ببطولة العالم للسيدات    عماد النحاس: وسام أبو علي قدم مجهود متميز.. ولم نشعر بغياب علي معلول    محمود أبو الدهب: الأهلي حقق نتيجة جيدة أمام الترجي    باقي كام يوم على الإجازة؟.. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    الأرصاد الجوية تحذر من أعلى درجات حرارة تتعرض لها مصر (فيديو)    حقيقة تعريض حياة المواطنين للخطر في موكب زفاف بالإسماعيلية    شافها في مقطع إباحي.. تفاصيل اتهام سائق لزوجته بالزنا مع عاطل بكرداسة    مصطفى قمر يشعل حفل زفاف ابنة سامح يسري (صور)    حظك اليوم برج العذراء الأحد 19-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    أصل الحكاية.. «مدينة تانيس» مركز الحكم والديانة في مصر القديمة    باسم سمرة يكشف عن صور من كواليس شخصيته في فيلم «اللعب مع العيال»    "التصنيع الدوائي" تكشف سبب أزمة اختفاء الأدوية في مصر    بعد ارتفاعه.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 19 مايو 2024    وظائف خالية ب وزارة المالية (المستندات والشروط)    إجراء من «كاف» ضد اثنين من لاعبي الأهلي عقب مباراة الترجي    قفزة جديدة ب160 جنيهًا.. سعر الذهب اليوم الأحد 19 مايو 2024 بالصاغة (آخر تحديث)    أوكرانيا تُسقط طائرة هجومية روسية من طراز "سوخوى - 25"    رئيس الموساد السابق: نتنياهو يتعمد منع إعادة المحتجزين فى غزة    رقصة على ضفاف النيل تنتهي بجثة طالب في المياه بالجيزة    نقيب الصحفيين: قرار الأوقاف بمنع تصوير الجنازات يعتدي على الدستور والقانون    مدافع الترجي: حظوظنا قائمة في التتويج بدوري أبطال أفريقيا أمام الأهلي    دييجو إلياس يتوج ببطولة العالم للاسكواش بعد الفوز على مصطفى عسل    صرف 90 % من المقررات التموينية لأصحاب البطاقات خلال مايو    اليوم السابع يحتفى بفيلم رفعت عينى للسما وصناعه المشارك فى مهرجان كان    ماجد منير: موقف مصر واضح من القضية الفلسطينية وأهداف نتنياهو لن تتحقق    أخذتُ ابني الصبي معي في الحج فهل يصح حجُّه؟.. الإفتاء تُجيب    رغم تعمق الانقسام فى إسرائيل.. لماذا لم تسقط حكومة نتنياهو حتى الآن؟    تزامناً مع الموجة الحارة.. نصائح من الصحة للمواطنين لمواجهة ارتفاع الحرارة    بذور للأكل للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    الهبوط والعصب الحائر.. جمال شعبان يتحدث عن الضغط المنخفض    حريق بالمحور المركزي في 6 أكتوبر    مصرع شخص في انقلاب سيارته داخل مصرف بالمنوفية    مسلم يطرح أحدث أغاني ألبومه الجديد «اتقابلنا» (تعرف على كلماتها)    «فايزة» سيدة صناعة «الأكياب» تكشف أسرار المهنة: «المغزل» أهم أداة فى العمل    إعادة محاكمة المتهمين في قضية "أحداث مجلس الوزراء" اليوم    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    تعرف علي حكم وشروط الأضحية 2024.. تفاصيل    وزير روسي: التبادلات السياحية مع كوريا الشمالية تكتسب شعبية أكبر    البيت الأبيض: مستشار الأمن القومي الأمريكي سيبحث مع ولي العهد السعودي الحرب في غزة    على متنها اثنين مصريين.. غرق سفينة شحن في البحر الأسود    هل يعني قرار محكمة النقض براءة «أبوتريكة» من دعم الإرهاب؟ (فيديو)    نقص أوميغا 6 و3 يعرضك لخطر الوفاة    أدعية مستحبة خلال مناسك الحج.. تعرف عليها    وزير التعليم: التكنولوجيا يجب أن تساعد وتتكامل مع البرنامج التعليمي    نموذج إجابة امتحان اللغة العربية للصف الثالث الإعدادي محافظة الجيزة    إطلاق أول صندوق للطوارئ للمصريين بالخارج قريبًا    مفتي الجمهورية: يجوز التبرع للمشروعات الوطنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وجوه طه حسين .. بين الإبداع والفكر
نشر في الأهالي يوم 18 - 03 - 2023

صاحب نظرة مستقبلية تعمل على بناء أجيال تؤمن بحرية العقل والتفكير
أول من نادى بدخول المرأة إلى الجامعة وشجعها على العمل الأكاديمي
الإصلاح الثقافي الحقيقي يبدأ بالاهتمام باللغة كأداة للتعبير

تنوعت كتابات عميد الأدب العربي طه حسين ما بين الفكر والإبداع، وكان له في كلا المجالين جهود واضحة وإسهامات فارقة، أثرت في جيله والأجيال التالية، حيث كان صاحب "مستقبل الثقافة في مصر" يمتلك رؤية مستقبلية للعقل العربي، مؤكدًا أهمية الفكر الجاد في تطوير مستقبل الأمة، لذا ظلت أفكاره وإبداعاته خالدة تزداد أهميتها مع مرور السنوات.
شكلت الجهود الفكرية لطه حسين، أحد ملامح مشروع التنوير العربي في القرن العشرين، وبعد هذه السنوات الطويلة على رحيله ما زالت أعماله الأدبية والفكرية تمثل قاعدة يمكن البناء عليها لتأسيس ذائقة ثقافية جديدة، خاصة في ظل الحالة الثورية التي تعيشها بعض البلدان العربية.
لم تكن أفكار طه حسين منفصلة عن الواقع، بل متماسة معه، ونابعة من القضايا والإشكاليات التي يمر بها، لذا جاءت أفكاره في إطار تقدمي تهدف إلى نهضة حقيقية تقوم على علاقة جدلية بين الإنسان ومحيطه الاجتماعي، ولم يأت ذلك من فراغ، بل نتيجة تراكم معرفي عميق، وثقافات متلاطمة، غاص فيها العميد حتى أصبح موسوعة في العلوم والفنون والآداب الفرنسية واللاتينية والعربية بالتأكيد .
تجديد الفكر
التجديد في الفكر والرؤى كان السمة البارزة لتجربته الشاسعة والممتدة، لأكثر من ستين عاماً من الدراسة والبحث، والتنقيب، والكشف والرصد لأبعاد المكونات الذاتية التاريخية والاجتماعية والسياسية للثقافة العربية .
لذا كانت معظم أعمال طه حسين مثيرة للجدل، ومدعاة للتأويل نظرا لقدرته العالية على رسم الشخصيات الإبداعية، كما في رواياته دعاء الكروان، والأيام وهي واحدة من أجمل السير الذاتية التي كتبت على مدار تاريخ الأدب العربي بشكل عام.
ولعل أهم ما ميز العميد أنه كان يمتلك نظرة مستقبلية، تقوم على أسس عقلية تربط بين الماضي والحاضر، باعتبار أن كلا منهما مكمل للآخر ومبني عليه، وهذا ما نراه في كتابه مستقبل الثقافة في مصر والذي وضع فيه خطة لتطوير التعليم في مصر من خلال آليات عدة: من أهمها الاهتمام باللغة العربية، خاصة في ظل لحظة التغريب الشديدة التي أصبحت تعاني منها، ولذلك يقول طه حسين وأنا من أجل هذا أدعو إلى أن تتولى الدولة إعداد المعلمين لها، يقصد اللغة العربية، وأنا من أجل هذا أدعو إلى أن تتولى الدولة بواسطة العلماء القادرين إصلاح علومها وتيسيرها والملاءمة بينها وبين الحياة الحديثة والعقل الحديث .
فالإصلاح الثقافي الحقيقي من وجهة نظره يبدأ بالاهتمام باللغة كأداة للتعبير ولو صلحت اللغة لصلح حال التعليم: وأعتقد أن هذا الإصلاح شرط أساسي لإصلاح التعليم كله، فإنك حين تعلم في لغة من اللغات لن تبلغ من التعليم شيئا إذا لم تكن لغة هذا التعليم واضحة سهلة قريبة إلى العقول والقلوب، وأنا أريد كما يريد كثير من الناس أن يشدد على المعلمين في أن يصطنعوا اللغة الفصحى فيما يلقون على تلاميذهم من الدروس مهما تكن مادتها، ولكني أشفق أولا من أن يعجز المعلمون عن تحقيق هذه الأمنية لأنهم لا يحسنون اللغة العربية .
وإذا كان الحفاظ على اللغة العربية وعلومها كأساس لأي منهج تعليمي عربي، هو نوع من الحفاظ على التراث العربي العريق، فإن صاحب دعاء الكروان يطالب بالمثل بالاهتمام بالفنون العصرية وضرورة تعلمها مثل المسرح والسينما والتي يقول عنها: هذا الفن الطارئ على لغتنا العربية من أقوم الفنون الأدبية وأرقاها وأبلغها أثرا في إمتاع النفوس وتصفية الأذواق، وهو لا يتجه إلى النظارة وحدهم وإنما يتجه إليهم وإلى القراء أيضاً .
ومن النقاط التي كان يرى طه حسين أنها عامل مهم في أي إصلاح ثقافي إطلاق حريات الرأي والتعبير، وكذلك دور الدولة في تشجيع المواهب، وتقديم الجوائز للنابغين، وعلى حسب قوله: فلتشعر الدولة بواجبها ولتنظم للآدباء من الجوائز وألوان التشجيع ما هم في حاجة إليه، وليس هذا كل ما ينبغي أن يظفر به الأدب والأدباء من تشجيع الدولة والشعب، بل هناك شيء آخر لعله أعظم خطراً من المال وهو الحرية، فالأدباء عندنا ليسوا أحراراً لا بالقياس إلى الدولة ولا بالقياس إلى القراء ..
وإن مشروع طه حسين الفكري قد تحققت منه أجزاء كثيرة خاصة فيما يتعلق بمسألة التعليم، حيث كان يرى أن التعليم العام يكون هدفاً إذا ساعد على تكوين وجدان مشترك بين الجماعة المصرية، وكذلك دعوته بأن يتلقى المصريون تعليمًا موحدًا، وكذلك مشروع مجانية التعليم وربما تحقق ذلك في عهده حين تولى وزارة المعارف في مصر في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات .
ومن الجهود الفكرية التي تحسب له أيضا موقفه من قضية المرأة، حيث إنه عندما كان أول عميد لكلية الآداب نادى بإدخال الفتيات إلى الجامعة وقد عانى من ذلك، شخصياً، فقد عزل من منصبه بسبب هذه الفكرة، لكن بفضله وبفضل فكره التقدمي دخلت المرأة المصرية الجامعة، ووجدنا في دفعاتها الأولى، في هذا الصدد، أسماء برزت بعد ذلك في حقل الأدب والصحافة والعلم أمثال د . سهير القلماوي ودرية شفيق وسميرة موسى وغيرهن.
وما ذهب إليه كان اتجاهاً إصلاحياً اجتماعياً نابعاً من أرض الواقع المصري، رغم ثقافته الفرنسية العميقة، إلا أن هدفه كان البحث عن سبيل لوحدة الثقافة الوطنية المصرية.
وعلى حد تعبير د.عبدالمنعم تليمة، فالبيان النهضوي لدى طه حسين قد انتظم مفردات واستخلاصات ومقولات ارتبطت بملابسات وقتية في زمانها، كما انتظم رؤى إستراتيجية عامة تظل ما ظلت مرحلة النهوض العربي ساعية إلى تحقيق غايتها التاريخية.
الإصلاح السياسي
هذا عن الإصلاح الثقافي، أما عن الإصلاح السياسي فقد كان لعميد الأدب العربي حديث مطول عنه من خلال مجموعة من المقالات حول فكرة الديمقراطية، أكد فيها أن الديمقراطية هي السبيل الوحيد، إلى تحديث المجتمع وتحرير الوطن وتوحيد الأمة.
ورغم أن هذه المقالات كتبت في فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، إلا أنها تمتلك بعداً مستقبلياً تجعلها صالحة لكل زمان ومكان، فالديمقراطية والحرية عنصران أساسيان ومتلازمان لأي وجود إنساني، وهنا نجد أن اللغة التي صاغ بها العميد عباراته واسعة الدلالة وعابرة للأزمنة، مما يجعل صوته التنويري باقيا، ويظل رهين الدرس والتحليل .
الوجه الإبداعي
ولعل الوجه الإبداعي للعميد لم يلق عليه الضوء بالقدر الذي ألقي به على البعد الفكري لديه، مع أن هذا الجانب مهم للغاية، بما فيه من تنوع ما بين السيرة الذاتية كما في "الأيام" والرواية كما في "دعاء الكروان" والمساجلات الإبداعية والرسائل.
وقد حققت هذه الأعمال انتشارا ملحوظا، خاصة مع تحويلها لأعمال درامية، فكتاب "الأيام" وهو ينتمي إلى رواية السيرة الذاتية، حيث تغطي مراحل البدايات في شخصية طه حسين، وأهم المؤثرات الاجتماعية في تكوين شخصيته، وقد كتبها بصيغة الراوي العليم، وبلغة أدبية كاشفة وموجعة في الآن ذاته.
دعاء الكروان
تعد رواية "دعاء الكروان" لطه حسين إحدى أهم الروايات العربية في القرن العشرين بما تحمله من مضمون أدبي وفكري، ينم عن وعي كامل بتطور الحياة، وتطور الشخصية الإنسانية، وهذا الجانب ميز معظم أعمال عميد الأدب العربي.
"فقد كانت تجربة طه حسين مع الكتابة بشتى تجلياتها وأشكالها الفكرية والتراثية والأدبية تحتوي على هذا الهم الإشكالي، مما جعل من نتاجه تعبيراً مكثفاً لجميع وجوه وصنع الفكر النهضوي، بما أحدثه من نثر عربي بسيط مؤثر، فرض أسلوباً لا يرضخ للتزمت ولا للحشو".
وإذا كان طه حسين قد طرح قضية المرأة في روايته "دعاء الكروان" فإن هذا الطرح لم يكن جديداً عليه، بل ظهر قبل هذه الرواية التي صدرت عام 1941، وإن كان كتبها قبل ذلك بسنوات قليلة، ففي سنة 1911، دار سجال بين طه حسين والشيخ عبد العزيز جاويش وكان موضوع "السفور والحجاب"، وكان يعني ذلك أن يسافر "حسين" إلى فرنسا ليتفاعل مع مكان وثقافة مغايرة، فنراه يؤكد في هذا السجال الذي دار على صفحات جريدة "اللواء" أنه لا فرق بين المرأة والرجل في الحرية، فلها أن تطرح النقاب وترفع الحجاب، وتتمتع بملذات الحياة كما يتمتع الرجل، وليس عليها إلا أن تقوم بملذات الحياة كما يتمتع الرجل، وليس عليها إلا ان تقوم بما أخذت به من الواجب لنفسها وزوجها والنوع الإنساني كافة، هذا هو حكم الإسلام وهو رأينا الذي لا نحيد عنه، ولا تعدل به رأيا آخر".
هنا نرى طه حسين يؤكد فكرة "العدالة" بمعناها الأشمل بعيداً عن التميز الجنسي، ضرورة العدالة في اقتسام الأدوار في الحياة .
فنراه يكشف هيمنة المجتمع الذكوري، وسطوة الرجل على الحياة في مقابل تهميش المرأة والغاء دورها، والهيمنة الذكورية التي تفرضها المجتمعات التقليدية، تجيء وفق نظرة دونية للمرأة،
ويكشف طه حسين في روايته ذلك الخطاب الذكوري المهيمن، والذي يفرض سطوته على بطلات الرواية الثلاث من النساء وهن الأم زهرة والأخت الكبرى هنادي والأخت الصغرى "آمنة"، والأخيرة وهي البطلة الرئيسية للرواية ستحاول مواجهة هذه السطوة وكشفها والتصدي لها، عبر طرق مختلفة.
يمكن أن نقول أن التباين بين الشخصيات النسائية في رواية "دعاء الكروان" هو تباين نسبي، بمعنى أن "الأم زهرة " يقع عليها قهر ذكوري، بداية من زوجها صاحب الخيانات المتكررة، والتي يقتل جراء إحداها، فتقرر القبيلة "القرية" ممثلة في أخيها "ناصر" طردها هي وابنتيها من القرية، ليدفعن ثمن جريمة قام بها الأب/ الذكر.
مما يضطرها للعمل كخادمة في بيت أحد الموظفين الكبار في قرية أخرى، وتعمل ابنتها "آمنة" في بيت المأمور كخادمة، وكذلك "هنادي" التي تعمل في بيت مهندس الري كخادمة أيضاً، بعد أن كن سيدات في بيتهن في القرية.
لكن الغريب أنه في ظل هذا المجتمع الذكوري القاتل لرغبات المرأة ولكينونتها، في محاولة لإلغاء وجودها، وتحويلها إلى مجرد شيء لا قيمة له، نجد أن "الأم زهرة" تمارس نفس القهر الأبوي والذكوري على ابنتها هنادي " بعد أن وقعت في غرام وعشق المهندس مما أفقدها عذريتها، حين أرسلت إلى أخيها "ناصر" ليأتي كي يقتل "هنادي" ورغم أن "آمنة" اقترحت عليها بعد خروجهن من المدينة أن يعملن في قرية أخرى عند أغنيائها، وينسين ما حدث، إلا أن الأم – التي تعمل ذهنيتها وفق رؤية ذكورية متوارثة ترد عليها قائلة :
لقد فكرت في هذا الأمر، ولكني أرى أن ليس إليه من سبيل! فإن المرأة لا تستطيع أن تعيش ولا أن تأمن، ولا أن تستقيم أمورها إذا لم يحمها أب أو أخ أو زوج، قلت: فليس لنا أب ولا أخ ولا زوج! قالت : بل لنا من يحمينا، وقريتنا التي نفينا عنها أحق بنا ونحن أجدر أن نعود إليها، ولئن بلغناها ليعلمن الذين جفونا ونفونا أن من العار أن تنفي الأسر نساءها وكرائمها ! فالمرأة عورة يجب أن تستر، وحرمة يجب أن ترعي، وعرض يجب أن يصان " ص32
هذا الحوار بين آمنة وأمها يكشف لنا عن مسألة هامة عن وضعية المرأة في المجتمع الذكوري، فهي إن كانت تحمل صفات الاختلاف والسمات المميزة لها حين تولد، إلا أن المجتمع بآلياتها القامعة لحريتها يحولها وفق التقاليد الاجتماعية المتوارثة، إلى مجرد تابع لسلطة الرجل، فالرجل وفق هذه النظرة هو "الحاكم المطلق" من حيث هو الفاعل المطلق الذي يشترط فيه الذكورة، وتتحول الأنثى بالتالي إلى المحكوم الذي يطيع هذا الحاكم طاعة الإكبار والتصديق والاتباع .
وربما هذا ما أشارت إليه سيمون دوبوفوار في كتابها "الجنس الثاني" حين قالت "المرأة لا تولد امرأة وإنما تصبح امرأة" .
فالرجال وفق النظرة الذكورية هم صناع العادات والتقاليد وسلم القيم، وتقسيم الأدوار وتحديد ما يجوز وما لا يجوز، وما هو خير، وما هو شر، وقد أوصلتنا هذه الثقافة إلى كثير من الأزمات والمغالطات التاريخية ليس في مجتمعنا الشرقي فقط بل في المجتمع الأوروبي الذي رأى الكثير من مفكريه وفلاسفته القدامى أن المرأة كائن ناقص خاصة في الفكر اليوناني القديم.
والذكورة في التراث العربي تعني الفحولة أي القوة " فكلمة الفحل دال تصل مدلولاته بين الإنسان والحيوان والنبات وظواهر الطبيعة على السواء في رمزية المعنى المقترن بتأكيد صفات الذكورة، التي انتقلت من مجال الحيوان إلى الإنسان، ومنه إلى النبات والطبيعة، وقد جاء في لسان العرب" وغيره من المعاجم القديمة، أن الفحل هو "الذكر" من كل حيوان، وقيل رجل فحيل، أي فحل ظاهر الفحولة، والفحيل هو فحل الإبل، إذا كان كريماً منجباً في ضرابة، وفحل إبله فحلاً كريماً، اختار لها، وافتحل لدوابه فحلاً كذلك، وأفحله فحلاً، أعاره إياه يضرب في إبله، والعرب تسمى النجم "سهيلاً" في السماء "الفحل" تشبيهاً له بفحل الإبل، وذلك لاعتزاله عن النجوم وعظمه، وقيل لأن الفحل إذا قرع الإبل وأصابها اعتزلها، ويقال للفحل الذكر الذي تلقح به حوائل النخل فحال، والواحدة فحالة، فيما يقول صاحب اللسان، والعهدة عليه، إذا رأوا رجلاً جسيماً من العرب خلوا بينه وبين نسائهم رجاء ان يولد مثله " فالام ؟ زهرة " منساقة تماماً لهذا المفهوم الذي رسخته العادات والتقاليد والموروث الشعبي، من أن الرجل هو الحماية والملجأ والسند، لأنه يمتلك القوة، وعنده قدرة أعلى للتحمل، بينما المرأة ضعيفة مستكينة .
كما أن " هنادي " كان بإمكانها أن تهرب، قبل أن تعلم أمها بما فعلت، وحتى لا تقع في هذا المصير البائس بان يقتلها " الخال " في فضاء الصحراء، إلا أنها سلمت نفسها مباشرة لأمها، والتي بالتالي سلمتها إلى خالها .
لم تستطع " هنادي أن تدافع عن حبها للمهندس، وعن نتيجة هذا الحب أيضا، لأن هذا هو موروثها التي ترتب عليه " هذه الفتاة البريئة لم تعرف بؤس النفس قبل الآن، وهي تستقبل الشقاء الآن مظلماً قاتماً ثقيلاً ملحاً، لم تدعه ولم تسع إليه، وإنما أكرهت عليه إكراهاً وأغريت به إغراء، ثم دفعت إليه دفعاً، وهي الآن غريق مشرفة على الموت، تريد أن تقاوم وتجاهد الموج ماوسعها الجهاد لا تجد ما تعتمد عليه أو تتعلق به " الرواية ص 28 .
والأم " زهرة " امرأة بائسة راضية بقدرها، لا تمتلك الطاقة على الحلم، من جراء ما عانته منذ طفولتها في مجتمعها القبلي . هذه المراة التي لم تبلغ الشيخوخة بعد ولكنها قد فرضت على نفسها حياة الشيوخ، حرمان متصل، وانصراف عن كل ما في الحياة من لذة، وإعراض عن كل ما في الحياة من قناع واكتفاء بما يقيم الأود، ولا يدني من الموت " الرواية ص 30 .
نموذج " زهرة " و" هنادي " نموذج للمراة الجاهلة التي لم تتلق التعليم فظل وعيها قاصراً بامور الحياة المختلفة، مما جعلها تحيل كل شئ إلى الرجل، الذي من وجهة نظر المجتمع الذي تعيشان فيه هو الوحيد الذي يمتلك المعرفة والحقيقة، لانه يمتلك القوة، والقدرة على الفعل، لأنه يمتلك " القضيب " .
أما نموذج " آمنة " فيختلف كثيراً، فآمنة حين التحقت بالعمل في بيت " المأمور" اقتربت من أبنته " خديجة " التي كانت تقرأ الروايات وتتعلم اللغة الفرنسية ن وتستمع إلى الإذاعة بما تبثه من أغان وبرامج، هذه الأبنة علمت آمنة بعض الأشياء التي تعرفها، وعلمتها القراءة والكتابة، فحصلت " آمنة " الكثير من المعارف، مما جعلها تمتلك طاقة من الوعي .
" وكنت أحسن الثلاث حظا وأيمنهن طالعاً، فقد قدر أن أخدم في بيت مأمور المركز، وكانت خدمتي غريبة أول الأمر ثقيلة على نفسي، ولكنني لم ألبث أن أحببتها ووجدت فيها لذة ومتاعاً، كلفت أن أصحب صبية من بنات المأمور كانت تقاربني في السن، ولعلها كانت أكبر مني قليلاً، كنت أرافقها في اللعب " الرواية ص18 .
وحين أحست " آمنة " بان شخصيتها بدأت في النمو والاختلاف عن شخصية أمها وأختها " هنادي " بدأت تتململ وفي وقت زيارتهما الدورية، لأنها عاشت في اماكن أخرى وتعرفت على مجتمع آخر، ويعطي للبنت بعض حقوقها ويمنحها التعلم والقراءة وتعلم الموسيقى كما في بيت المأمور .
" وفي ذات يوم التقينا آخر النهار في حجرتنا تلك الحقيرة القذرة، وكنت قد أخذت أكره هذا اللقاء، وأضيق بهذه الحجرة، وأود لو أعفيت من هذا الاختلاف إليها كل أسبوع " الرواية ص 20 .
شخصية " آمنة " شخصية متمردة على الواقع الذكوري الذي استلب شخصية أختها وأمها، بدعاوي من قبيل التفوق الذكوري، " وقد لاحظ النسويون أنه قد جرى استخدام الاعتقاد بان الرجال متفوقون على النساء لتبرير استحواذ الذكور على مراكز القوة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمحافظة عليها، أي المحافظة على إضعاف النساء بحرمانهن من وسائل الحصول على القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية عن طريق التعليم أو العمل، فالمكانة المتدنية التي احتلتها النساء في المجتمع الذكوري، قد تكونت ثقافيا وليس بيولوجيا " .
فحين حصلت " أمنة " على جزء من التعليم والثقافة ومع تغير نمط الحياة بالنسبة لها أصبحت حانقة ورافضة، للمجتمع الذي نشأت فيه، فنراها تهرب بعد مقتل هنادي " لتثأر لها من " المهندس " الذي أغواها، من ناحية، ومن ناحية أخرى من وجهة نظري حتى لا ترى خالها، الصورة الأخرى لسلطة الذكر، ولذلك نراها تقول : " نعم إني لأراني في هذه الطريق وحيدة شريدة لا أملك إلا نفسي الضعيفة البائسة، وإلا جسمي النحيل الضئيل، وإلا ثياباً بالية أو كالبالية، وأنا مع ذلك لا أحفل بما تركت ولا بمن تركت، ولا أسأل عما أنا مقدمه عليه من الأمر، ولا عمن أنا مقبلة عليهم من الناس، أنما هو الهيام في الأرض والسكر بهذا الشراب الخطير الذي نسميه حب الحربة " الرواية ص 79 .
ففي هذا " الشراب الخطير / حب الحرية " تكمن الحياة بالنسبة لها ولذلك نراها تقول : " كنت أطمئن إلى أني لن أرى أمي ولن أسمع صوتها، ولن أرى أهل الدار وأشاركهم في شئ، ولن ألقي ذلك الرجل المجرم ذا النفس الفاجرة والقلب الغليظ، ولن أخضع لغلظته ولن أحتمل تقربه إلى وترضية لي، فيمتلئ قلبي أمناً وهدوءاً وتبسم لي الحياة " الرواية ص 80


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.