لقطات يَحْيَا أبو سويلم ويسقط ديلِسِبْس د. جودة عبد الخالق ديلسبس هو الدبلوماسى الفرنسي صاحب فكرة حفر قناة السويس. أما أبوسويلم فهو بطل فيلم "الأرض" ليوسف شاهين. ذلك الفلاح (محمد أبوسويلم تمثيل محمود المليجى) الذى وقف بصلابة مع زملائه دفاعا عن أرضهم ضد طمع الإقطاعى في قريتهم. والذى استدعى ذكر ديلسبس وأبوسويلم هنا هو زيارتى مؤخرا إلى قناة السويس، ضمن وفد مؤسسة الصالون البحرى. فأثناء الزيارة أخبرنى صديقى الدكتور خلف الميرى أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس، أنه عقب محاضرة عن الجوانب التاريخية للقناة ضمن فعاليات الاحتفال بعيد محافظة بورسعيد (الذى يوافق 23 ديسمبر كل عام، وهو تاريخ رحيل آخر جنود العدوان الثلاثى عام 1956)، حدث جدل شديد وحادّ بين مؤيد ومعارض حول إعادة تمثال ديلسبس الى مكانه السابق فوق قاعدته. ومعلوم ان أهل بورسعيد أثناء العدوان الثلاثى كانوا قد طرحوه أرضا احتجاجا على اشتراك فرنسا مع بريطانيا وإسرائيل فى العدوان على مصر. وكانت بداية الحديث عن عودة تمثال ديلسبس إلى قاعدته في 2009. وقتها أعلن رئيس لجنة السياحة والإعلام بالمجلس الشعبي المحلي لبورسعيد أمام لجنة الثقافة والسياحة والإعلام بمجلس الشعب عرض "جمعية محبي فرديناند ديلسبس" الفرنسية دفع مبلغ 50 مليون يورو سنويًا مقابل إعادة التمثال لقاعدته، وإقامة حفل سنوي يحضره آلاف السياح من مختلف أنحاء أوروبا. يعنى بالاضافة الى الموالد الكثيرة التي لدينا مثل مولد السيدة زينب والسيدة نفيسة والسيد البدوى … ألخ، يضاف مولد أخر هو مولد سيدى ديلسبس! وما زالت الجمعية تضغط لإعادة التمثال الى مكانه، ومع استمرار الضغط نجحت في استقطاب الأنصار والمؤيدين، حتى من أولاد أبوالعربى وكبار المسئولين. ففى 2014 اقترح محافظ بورسعيد وقتها إعادة التمثال لمكانه مع وضع تمثال للفلاح المصري الذي حفر القناة، بالإضافة إلى تمثال لجمال عبد الناصر صاحب قرار تأميم الشركة واستعادة القناة الى السيادة المصرية. والبقية تأتى. وانطلاقا من أرضية وطنية أقول أن إعادة تمثال ديلسبس الى مكانه يرقى الى مستوى الجريمة النكراء. أولا: أن حفر القناة تم بطريق السخرة، وقام به حوالى مليون فلاح (من أصل 4 ملايين هم سكان مصر وقتها) اقتُلِعوا عُنوة من قراهم. وسالت دماؤهم في القناة قبل أن تجرى فيها مياه البحرين، ومات منهم قرابة 120 ألفا أثناء الحفر- يعنى واحد من بين كل ثمانية. (وبالمناسبة، فإن عددا من أفراد عائلتى فرُّوا أثناء الحفر من ميت العز في ريف الدقهلية واستقروا فى إحدى قرى المنوفية هربا من جحيم السخرة). ثانيا: أن الخواجة ديلسبس كان رئيس لجنة التحقيق الأوروبية التي شكلتها القوى الاستعمارية عام 1878، والتى هيمنت على مالية مصر وقوضت كيانها السياسي والمالي ومهدت للاحتلال البريطاني عام 1882. ثالثا: أن ديلسبس هو الذي خدع عرابي وأبعده عن القناة، ثم فتحها للإنجليز وتسبب في مأساة التل الكبير. رابعا: أن تاريخنا ليس للبيع مهما غلا الثمن، وأن أرضنا (قاعدة التمثال) ليست للإيجار أيا كانت القيمة. وإذا كان دعاة عودة التمثال الى مكانه الأصلى يُحَاجُّون بضرورة احترام التاريخ، فأنا أُذَكِّرُهُم بأن التاريخ مسارٌ طويل. فوضع التمثال على قاعدته لم يتم إلا في نوفمبر 1899، أي بعد ثلاثين عاما من افتتاح القناة للملاحة. لكن مسار تاريخ القناة بدأ بالحصول على امتياز المشروع عام 1854. ثم جرى تشغيل الفلاحين المصريين بالسخرة حوالى عشر سنوات بتكلفة بشرية هائلة. ثم كان افتتاح القناة للملاحة عام 1869. ثم تأميم الشركة في 1956، والذى تلاه مباشرة العدوان الثلاثى، مما دفع الجماهير الغاضبة الى إسقاط التمثال. إن احترام التاريخ يتطلب استيعاب حركته وفهم منطقه، وليس التوقف عند نقطة بعينها على مساره. وبناء على ما تقدم، فأنا أفضل وضع تمثال ديلسبس في متحف يحكى تاريخ القناة للأجيال يقام في الإسماعيلية حيث مركز إدارة القناة. وأطالب بوضع تمثال أو مجسم عند المدخل الشمالى للقناة يتم اختياره في مسابقة دولية بحيث يُجَسِّد نضالنا وتضحياتنا من أجل قناتنا. ختاما، أسأل كل من يطالب بإعادة ديلسبس الى قاعدته: أتُرى حين أفقأُ عينيك ثم أَثبِّتُ جوهرتين مكانهما.. هل ترى؟ .. هي أشياء لا تُشتَرَى!