عقدت تركيا مؤتمرا للدول الناطقة باللغة التركية شمل خمس جمهوريات من وسط آسيا هى أذربيجان وكازاخستان وكيرجيزستان وأوزبيكستان وتركمنستان، وكل من كازاخستان وكيرجيزستان تعتبران من الدول الحليفة لروسيا عسكرياً وهما أعضاء فيما يعرف بمنظمة الأمن الجماعى، ومع الدول الأخرى لروسيا علاقات وطيدة ومتينة تقترب من التحالف. لم يحظ المؤتمر الذى دعا له الرئيس التركى بتغطية إعلامية واسعة من وسائل الإعلام الروسية المرئية والمسموعة رغم خطورة هذا المؤتمر على روسيا نفسها نظراً لوجود أعداد ليست قليلة من مواطنى روسيا الاتحادية نفسها من أصول تركية. فهل يؤثر الوجود التركى فى وسط آسيا على علاقات ونفوذ روسيا فى وسط آسيا؟ بدأت تركيا تهتم بدول العالم التركى بعد انهيار الاتحاد السوفيتى مباشرة وبالتحديد عام 1992، حيث عقد أول مؤتمر للدول الناطقة باللغة التركية، حضرته أذربيجان وكازاخستان وأوزبيكستان وكيرجيزستان، بينما حضرت تركمنستان بصفة مراقب حينها مثل المجر، وشرح الرئيس التركى سبب تغيير اسم المنظمة التى تجمع الدول الناطقة بالتركية إلى "منظمة الدول الناطقة بالتركية" بدلاً من "العالم التركى" والإعلان عن رؤية هذا العالم فى عام 2040، بأن هذا يسمح بتقوية المنظمة وفق أهدافها المعلنة والمتمثلة فى إزالة الحواجز التجارية بين دولها وتناغم السياسة الثقافية والتعليمية الشبابية وحتى إنشاء ممرات عابرة للقارات من الصين إلى أوروبا، حيث تمثل دول وسط آسيا حلقة مهمة فى طريق الحرير. دار الحديث كذلك عن سماء معلوماتية مشتركة بهدف تعميق التضامن السياسى ودعم القضايا الحياتية التى تمثل المصالح القومية للدول الناطقة بالتركية. روابط تاريخية الرئيس التركى أكد على أن منظمة الدول الناطقة بالتركية لا يجب أن تكون مصدر قلق لأى من الدول، بل وحسب قوله يجب السعى للانضمام إلى هذه المنظمة المشرقة والمبنية على روابط تاريخية مشتركة، ووصف المنظمة بأنها قاعدة لتطوير العلاقات بين الدول. ومن خلال دعوة الرئيس التركى لدول أخرى للانضمام لمنظمة أو عالم الدول الناطقة بالتركية، نجد أنه يلمح لأوكرانيا (تركيا كانت تلعب دورا ثقافيا مهما مع تتار القرم، الناطقين بالتركية، قبل استعادة روسيا له)، التى كما قيل منذ فترة تريد الانضمام كعضو مراقب، بل إن الدعوة من الممكن أن تكون لروسيا، التى يعتبر عدد كبير من مواطنيها من أصول أو ناطقين بالتركية بداية من التتار الذين يتمتعون بالحكم الذاتى فى جمهورية تتارستان الروسية وحتى بعض سكان ياكوتيا فى قلب سيبيريا، ولا ننسى أن عددا كبيرا من دول وسط آسيا لديهم الجنسية الروسية وهم فى الأصل من العالم التركى، وأعداد أخرى أيضاً ليست قليلة تعيش فى روسيا بشكل مؤقت للعمل. الاتحاد "الأوروآسيوى" وكما هو العالم الروسى، الناطق بالروسية على مدى تاريخ الإمبراطورية الروسية نجد أن رغبة العالم التركى لها مشروعية، كما يؤكد الرئيس التركى، فمنذ مائة عام فقط كانت الكثير من الدول خاضعة لدولة الخلافة العثمانية، وهم أى الأتراك لديهم رغبة فى تقوية تأثيرهم من خلال الاعتماد على الدول القريبة لغوياً وثقافياً، خاصة أن انهيار الاتحاد السوفيتى أعطى لتركيا فرصة فريدة من نوعها، فالشعوب التى كانت ضمن الإمبراطورية الروسية وجدت نفسها فجأة دولاً مستقلة ذات سيادة، واستخدام كلمة "فجأة" لأن دول وسط آسيا الناطقة بالتركية لم تسع لهدم الاتحاد السوفيتى بل وجدت نفسها على قارعة الطريق بدون أى شيء، وليس صدفة أن تنطلق فكرة الاتحاد "الأوروآسيوى" من وسط آسيا وكان المبادر بها رئيس كازاخستان السابق نورسلطان نازاربايف. مخاطر النزعة التركية فى رد فعلهم على التحركات التركية أكد المسئولون الروس أن موسكو تحترم المصالح التركية وتتفهم أهدافها، ولن تقف موسكو ضد أى تقارب بين الشعوب التركية، لكنها ستقف بحزم ضد أى تهديد لمصالحها، وتنظر روسيا للمواطنين الأتراك المقيمين فى روسيا ليس فقط على أنهم مواطنون فقط ولكنهم جزء أصيل من الشعب الروسى. مخاطر النزعة التركية الجديدة تكمن فى أن تركيا من الممكن أن تستخدم الإسلام كدين عابر للقارات من خلال تحالفها مع منظمة إرهابية مثل "الإخوان المسلمين" وهو ما يثير مخاوف روسية حقيقية لإدراك موسكو لمدى الدعم الذى قدمته هذه المنظمة لإرهابى الشيشان، ويقول خبراء روس إن بلادهم ليست معترضة على أن تسعى تركيا لتقوية تأثيرها السياسى بل والدينى فى أى مكان فى العالم لكن ليس فى روسيا من خلال النزعة الدينية (عدد السكان المسلمين فى روسيا يقارب 30 مليون). استخدام الدين فى السياسة روسيا لديها حساسية خاصة من استخدام الدين فى السياسة، وهى أول من اتهم الأمريكيين باستخدام الدين فى السياسة فى أفغانستان أثناء الوجود السوفيتى فيها، ولم تسلم هى نفسها من ذلك فى 11 سبتمبر، فشربت من نفس المعين، لكن هنا نجد أن الأتراك والروس كما يقول بعض الخبراء فى الشأن التركى تربطهم علاقات ممتدة لمئات السنين، فالحضارة التركية وفق الخبراء عاشت لمئات السنين كتفا بكتف مع الروسية حاربا بعضهما البعض وتاجرا وتحالفا وتقاربا واختلفا، كل شيء من الممكن أن يحدث بين الإمبراطوريات حدث بينهما، بما فى ذلك محاولات الأنجلوساكسون دق أسافين فى العلاقات بينهما. لكن فى فترة حكم إردوجان تخلت أنقرة تقريباً عن رغبتها فى الانضمام للاتحاد الأوروبى، ومن ثم بدأ يركز قوته على أن يعود ببلاده لقيادة العالم الإسلامى، مستخدماً فى ذلك العنصر التركى سواء اللغوى أو الدينى، ومن هنا جاءت فرصة سانحة لقوى خارجية من أجل تسميم العلاقات الروسية التركية. منافسة .. لا صدام المنافسة فى جنوب القوقاز ووسط آسيا، تحدث أحياناً بعض الخلاف بين روسياوتركيا، لكنها على أى حال لم ولن تصل إلى الصدام كما يقول بعض المتابعين للأحداث فى تلك المناطق، ورغم أن تركيا بعدائها مع الإمبراطورية الروسية على مدى 500 عام، ثم بعد الإمبراطورية أثناء الفترة السوفيتية، حيث كانت أنقرة على الجانب المعادى للسوفيت من خلال عضويتها فى الناتو، إلا أن السوفيت حرصوا على علاقات طيبة على الأقل للوصول إلى المياه الدافئة فى المتوسط أيام أن تربعت الإمبراطورية السوفيتية على عرش العلاقات العربية والأفريقية، وهاهى روسيا تتعاون مع تركيا فى الملف السورى والتنسيق بينهما هو جزء من التهدئة الحالية. جدير بالذكر أنه إذا كان لتركيا تأثير ثقافى فى وسط آسيا فإن روسيا لها من أدوات التأثير فى تلك المنطقة ما يجعل المنطقة تحت سيطرتها وخاصة الخلافات الحدودية بين عدد من الدول وعدم الاستقرار السياسى فى البعض الآخر، وكما يقول الخبراء ستظل دول وسط آسيا فى حاجة للتعاون الاقتصادى والعسكرى مع روسيا لفترة طويلة وإن كان البعض يحاول الإفلات إلا أن التأثير الروسى لا تخطئه العين، ولن تزاحم روسياتركيا فى تلك المنطقة بدعوى المنافسة. مخاوف روسيا العمل فى منطقة وسط آسيا مع محاولة التغلغل التركى من خلال الدول الناطقة بالتركية، يجب أن يعمل على تقوية العنصر الروسى، وتوهم تركيا بأن وجودها سيكون على حساب الوجود الروسى هو مجرد أحلام، ومن ثم فإنه إذا كانت تركيا ترغب بالفعل فى أن تسير مع روسيا فى هذه المنطقة فعليها أن تدعو روسيا للانضمام لمنظمة الدول الناطقة بالتركية، على الأقل كمراقب، ويمكن لتركيا أن تتقدم بطلب للانضمام للاتحاد الأوروآسيوى. وليس أدل على تعليق الرئيس التركى آمالاً عريضة على منظمة الدول الناطقة بالتركية ورغبته فى تطويرها لأبعد من ذلك إلا قوله فى مؤتمر اسطنبول "سيأتى الوقت الذى تشرق فيه الشمس من جديد من الشرق" وهو بذلك يعنى أن الدول الناطقة بالتركية على مدى آلاف السنين كانت مصدر إشعاع ثقافى وحضارى. المخاوف فى المحيط التركى تأتى من محاولات السيطرة والهيمنة التركية على منطقة هى حديقة خلفية للدب الروسى، من ناحية، كما أن تركيز الرئيس التركى على البعد الإسلامى فى العلاقة قد يؤدى إلى مخاوف بعض الدول المجاورة وعلى رأسها بالطبع روسيا ودول وسط آسيا نفسها، التى من الممكن أن تستخدم العنصر التركى لصالحها لصد تأثير طالبان على دول وسط آسيا، لكن المخاوف تأتى من أن تقوم تركيا بحماية دول وسط آسيا التى تخشى تسلل طالبان من ثم تحل محل روسيا فى أهم ملف لدول وسط آسيا الملف الأمنى ، فى كل الأحوال يوجد لدى روسيا وسائل كثيرة للتأثير على تركيا، ليس أخرها الملف السورى، وهناك أرمينيا (حليفة روسيا) التى لم تنس المذابح التى تعرض لها الأرمن، خاصة أن عدوها اللدود عضو فى منظمة الدول الناطقة بالتركية وهى أذربيجان. ويذكر الجميع الشعار الذى طرحه الرئيس التركى عام 2019، عندما قال "ست دول قومية واحدة". فهل تتواءم روسيا مع العنصر التركى فى وسط آسيا وجنوب القوقاز، خاصة بعد قيام أنقرة بتدخل فج فى نزاع كاراباخ، ما دعا الأوروبيين للتدخل لعقد اجتماع فى ديسمبر بين الفرقاء، فيما عقد الرئيس بوتين اجتماعا مع أذربيجانوأرمينيا فى سوتشى على خلفية الاشتباكات الأخيرة، فهل هى تركيا أم الاتحاد الأوروبى الأفضل، فى اعتقادى روسيا تفضل أنقرة.