الفصل الثانى الصاعقة – بورفؤاد أول مرة جاءت لحظة الصدق. وقع الإختيار على ستين ضابطا من تخصص المشاه من الدفعة 51 لينضموا للخدمة بوحدات الصاعقة وكان يسرى واحدا منهم. جاء توزيعه مع ثلاثة من الدفعة على الكتيبة 123 صاعقة فى بورفؤاد. كان ذلك فى النصف الأخير من شهر رمضان. فى الثامنة صباح 15.12.67 توجه لقيادة وحدات الصاعقة ومعه مهماته ومستلزماته الشخصية فى صندوق حديدى كبير وحقيبة متوسطة الحجم. قبل إسبوعين تخرج من الكلية الحربية وحصل على إجازة أسبوع لتجهيز نفسه ومهماته حتى يتم توزيعه على الوحدات المختلفة. كان سعيدا برغم الظروف القاسية التى أطبقت على لجام الوطن وعمله المحفوف بالمخاطر فى جبهة مشتعلة. ترك نفسه فى هذا الأسبوع يذوب فى طوفان البشر الذين عرفهم من قريب أو بعيد وكأنه يسجل لكل منهم فرحته بالإنتماء لوطن وجيش لن يهزم. إشترى ملابس جديدة وذهب لإستوديو التصوير القريب لأخذ صور تذكارية وذهب إلى جدته وطلب منها أصنافا معينة من الطعام فأمرت بإعدادها على الفور. قبل رأسها وهى تودعه – عينى عليك باردة… والله كبرت بسرعة ياحبيب نينتك. طيب وفين بقى شعرك الحلو المسبسب بتاع زمان؟ لوح لها وهى تردد – إللهم إنا نجعلك فى نحور أعداءنا ونعوذ بك من شرورهم ياسميع يامجيب رده لنا بفضلك سالما من كل سوء. ركب الأتوبيس ومعه 35 من الضباط الجدد يرافقهم ضابط من القيادة برتبة رائد يحمل معه الخطابات الخاصة بتوزيعهم ويوصلهم كل إلى وحدته فى قطاع الجيش الثانى وماحوله. يتوقف الأتوبيس عند كل منطقة من الجبهة بها كتيبة من الصاعقة أو وحدة منها وتنزل المجموعة التى تنضم عليها. على إمتداد الطريق شاهدوا نشاط قوات العدو على ضفة القناة الشرقية كما ربض جنودنا فى خنادقهم وسط الرمال وهم صائمون. أشرف النهار على نهايته وإحمر قرص الشمس حين تخطى الأتوبيس مدينة القنطرة متجها إلى بورسعيد. لم يتبق سوى 12 ضابطا نزل منهم 4 فى منطقة التينة جنوب بورسعيد ب 25 كم ثم 4 فى بورسعيد على ساحل البحر ثم آخر مجموعة ألحقت بكتيبة 123 صاعقة فى بورفؤاد. فى حوالى الخامسة عبر يسرى ورفاقه المعدية ووصلوا لموقع الكتيبة فى شرق المدينة حيث تمركزت فى مشتل كبير به الكثير من النباتات والأشجار والطيورتابع لهيئة قناة السويس. على مقربة من المشتل تقوم عمارتان سكنيتان من الإسكان الحكومى تستخدم الشقق فيها كمكاتب لبعض القادة والأجهزة الإدارية وبعض أماكن للمبيت تخص قيادة الكتيبة. لحظات صمت حين وقف الضباط الجدد وأمامهم مهماتهم صائمون متعبون بعد أن مكثوا فى الأتوبيس حوالى 8 ساعات. يدور فى ذاكرة كل منهم شريط طويل عن الأهل والإخوة الصغار والصعاب التى يعانى منها الناس فى القرى والمدن وجرح الوطن الدامى أمام أعينهم فى سيناء. إستقبلهم قائد الكتيبة بقوامه الفارع النحيل وبشرته شديدة السمرة. كان خلوقا مهذبا حازما ولهجته أقرب إلى لهجة أهل جنوب الصعيد- النوبة. تعرف على كل ضابط وفحص الأوراق التى وصلت معهم من القيادة. فى الصباح قابلهم رئيس العمليات وهو نقيب بورسعيدى وقام بتوزيعهم على السرايا المختلفة. بعد قليل حمل يسرى مهماته حيث أنزلته العربة فى موقع سريته. هاهو على الجبهة فى مواجهة العدو قائدا لفصيلة فى كتيبة من 20 ضابط و400 جندى. علم الضباط الجدد أن الأجازات ستكون كل حوالى 20 يوم لمدة 5 أيام على 5 دفعات وستتوقف عند أى حالة من حالات التوتر أو رفع درجة الإستعداد. كانت مهمة الكتيبة 123 هى التمسك بالمدينة والدفاع عنها وفى نفس الوقت دفع داوريات فى إتجاه الشرق والجنوب فى مواجهة نقاط العدو الموجود حول المدينة. تقع مدينة بورفؤاد على الشاطئ الشرقى لقناة السويس. وهى عبارة عن مثلث ضلع منه على ساحل البحر المتوسط من مدخل قناة السويس ويمتد شرقا إتجاه العريش لمسافة حوالى 2كم. الضلع الثانى هو الشاطئ الشرقى للقناة من مدخل القناة على البحر المتوسط ويمتد جنوبا حوالى 2كم. أما الوتر فى إتجاه الشرق على إمتداد منطقة ملاحات شرق بورفؤاد من البحر المتوسط شمالا وفى إتجاه الجنوب الغربى. حول المدينة تمركزت قوات العدو فى موقعين: الأول جنوب بورفؤاد بحوالى 10كم على الشاطئ الشرقى لقناة السويس مباشرة وأطلق عليه موقع كم 10. والثانى على ساحل البحر الأبيض المتوسط شرق المدينة بحوالى 10 كم أيضا. ويقع على شريط ساحلى عرضه حوالى 500 متر وتحيط به مياه البحر من جهة الشمال ومياه الملاحات من جهة الجنوب. فيما بعد تصبح هذه النقاط من المواقع الحصينة للعدو حيث قام ببناء بعض مصاطب للدبابات وملاجئ للعربات والأفراد وتجهيزها بكافة الأسلحة والمعدات لشن الهجوم على المدينة. وأيضا فيما بعد تتمركز قواتنا بسرية فى الشرق على الساحل أمام موقع العدو(نقطة قطع بورفؤاد) وعلى مسافة حوالى 6 كم للشرق من المدينة بفاصل مايقرب من 2كم عن نقطة العدو. وسرية آخرى فى إتجاه الجنوب بجوار الشاطئ الشرقى للقناة على مسافة حوالى 8 كم من المدينة (على لسان رأس العش) وبفاصل حوالى 1 كم من نقطة العدو (نقطة كم 10) بالإضافة إلى سرية ثالثة تعمل كإحتياطى جاهز فى أى وقت. بالمدينة أيضا وحدات من المدفعية والإستطلاع وفصائل دبابات وأسلحة معاونة كإحتياطيات. تحت ستر الليل خرج يسرى ورفاقه فى داوريات على ساحل البحر يوميا. كل داورية تتكون من ضابط ومجموعة من الأفراد بتسليحهم الشخصى وجهاز لاسلكى لعمل كمائن على مسافة 1 كم من العدو. روتين يتم فى معظم الليالى حتى لاتفاجأ قواتنا بتقدم العدو من هذا الإتجاه لأقرب من هذه المسافة فى أى لحظة. أما أعمال المراقبة فلا تتوقف ثانية واحدة فى كل الخنادق. العدو غادر وجبان وخسيس. ويراقبهم أيضا. فى أوقات الراحة القليلة يخرج أفراد الصاعقة (يرتدون أوفرول الصاعقة المموه) للتجول فى بورفؤاد أو يعبرون المعدية لبورسعيد. يشترون مستلزماتهم الشخصية أو يحتسوا المشروبات فى كافتيريا جيانولا السياحى. فى تلك الأيام بعد هزيمة يونيو بقى أهالى مدينى بورفؤاد وبورسعيد كما هم يمارسون حياتهم بصورة طبيعية تماما ويقومون بأعمالهم كباقى الناس فى ربوع البلاد. كان واضحا أنهم يكنون حبا شديدا للقوات المسلحة ويحملون تقديرا وإعزازا خاصا إذا كانوا من رجال الصاعقة. وربما كان ذلك من آثار معركة 1956. فى إحدى نوبات الراحة خرج يسرى وزميل له إلى بورفؤاد للتجول. إتجه ناحيتهما شاب فى مثل عمرهما صائحا : – لامؤاخذة فى السؤال… إنت صحيح ضابط وإلا واحد بيمثل صاعقة؟ رد يسرى ضاحكا – ممثل إزاى بس…هو فى بنى أدم ييجى يمثل فى الظروف دى!؟ هتف الشاب – يعنى ممكن شوية تمثيل على خفيف لما الدنيا تروق لأنك تشبه عبد الحليم حافظ. ضحك يسرى ورفيقه وجرت على فمه إبتسامة – الله يكرمك… عبد الحليم حتة واحدة!؟ قال الشاب فى شئ من الإندفاع -لكن إنت يعنى….شكلك صغير…قصدى عمرك. تجاهل يسرى الإشارة ومد يده مصافحا – إطمئن …رجالة الصاعقة جامدين قوى. صافحه الشاب بتأثر – أنا إسمى أحمد راضى من بورفؤاد ولنا بيت هنا جنب الجامع. أشار إلى نهاية الشارع العريض وتابع – أنا منتسب لكلية التجارة بالقاهرة. – أهلا وسهلا تشرفنا. أكمل راضى – إحنا أسرة كبيرة ووالدى متوفى من سنوات ونحب رجالة القوات المسلحة زى عنينا. ودى فرصة علشان أحييكم وأكون فى خدمتكم. مد يده بورقة مدون بها رقم تليفون – ياريت تعتبرونى صديق لكم ويبقى شرف لنا لو تتفضلوا تشربوا شاى عندنا فى البيت. والدتى هاتفرح قوى. إعتذر يسرى وزميله بأسلوب مهذب لكن الشاب أصر على دعوتهما بإصرار شديد. فى المنزل المكون من عدة طوابق علت صيحات الترحيب. كان أحمد -أصغر الأبناء- يقيم مع والدته فى شقة. أخوه الأكبر متزوج ويعمل بهيئة قناة السويس ويقيم فى شقة. وهناك أختان متزوجتان كل منهما بأولادها فى شقة وباقى المنزل مؤجر لسكان آخرين. أدخل أحمد ضيفيه إلى والدته الحاجة وقد أنهت صلاة العصر. سلمت عليهما وهى فى مكانها فوق سجادة الصلاة لم تتحرك. تأملتهما قليلا. تأملها الرجلان بفضول وترقب. سيدة بيضاء ممتلئة الجسم ذات وجه مشرب بالحمرة وعينان خضروان تشع من قسماتها السماحة والبشر.