هكذا امتدت التصريحات السياسية الإعلامية، لمسئولين رسميين من كلا الجانبين، الجانب السودانى والجانب الأثيوبي، فحينما صرّحت وزارة الخارجية السودانية بأن "اتهام أثيوبيا لها بالعمالة لطرف آخر، إهانة لن تُغتفر، وأن هذا البيان الصادر بيان سخيف"، لم يكن على سبيل التهديد بقدر ما كان رد فعل تلقائى لتصريحات سياسية إعلامية على الجبهة القتالية الأخرى. فالسياسيون الأثيوبيون والمسئولون الرسميون من خلال وسائل ومنصات إعلامية، قامت بدور مُشعِل الفتيل، الذى أوقد نار الصراع الأزلى والتاريخى بين الطرفين، ووضع أزمة الحدود السودانية الأثيوبية على الطاولة السياسية الدولية مرةً ثانية. حيث أكد " آبى أحمد" رئيس الوزراء الأثيوبى أكثر من مرة فى تصريحات إعلامية، على أن الأراضى الحدودية فى السودان هى أراض أثيوبية. فجاء رد رئيس الوزراء السودانى "عبدالله حمدوك"، فى أكثر من تصريح إعلامى بالتأكيد على أن أرض سد النهضة سودانية، وأن السد يُهدد حياة ملايين السودانيين، وأعلن رئيس المجلس السيادى السودانى "البرهان"، جاهزية الجيش السودانى لأى تهديد أثيوبى. على الجانب الآخر، هناك ميليشيات مسلحة تهدد أمن واستقرار الحدود الشرقية السودانية "عصابات الشِفتة الأثيوبية"، التى تسرق المحاصيل الزراعية من المزارعين السودانيين وتهدد أمنهم، وذلك فى ولاية القضار فخصوصاً منطقة الفشقة التى يُعانى سكانها السودانيون الحرمان من خيراتها. فى نفس الإطار تم تقديم العديد من المقترحات لتأمين هذه المنطقة، وذلك من خلال تنميتها وتعظيم المشروعات التنموية والاستثمارات المباشرة المحلية وغير المحلية فى تلك الأراضى السودانية، وتوطين السكان السودانيين هناك وتأمينهم. على الصعيد الإقليمى والدولى، رهنت واشنطن عودة المساعدات المُخصصة لأثيوبيا والمُقدّرة ب 272 مليون دولار، بمدى تطورات الصراع الدامى فى إقليم تيجراى الأثيوبى وحل أزمة اللاجئين على الحدود السودانية، حيث وصل عدد اللاجئين الأثيوبيين على الحدود الشرقية السودانية 62 ألف لاجئ يعيشون أوضاعا مأساوية، وذلك حسبما أكد الوفد الأمريكي الذى وصل مؤخراً إلى ولاية كسلا فى السودان، لمتابعة أحوال اللاجئين ورؤية المشهد عن كثب. وبدوره قام الاتحاد الأفريقي بحثّ كلٍ من الجانبين السودانى والأثيوبي على خفض التوتر وفتح قنوات حوار واتصال، وهناك دول عربية خليجية أيضاً بدأت فى الدخول على خط الأزمة لمحاولة منع تفاقمها، كالمملكة العربية السعودية التى حاولت من خلال وزيرها المسئول عن الملف الأفريقي "أحمد القطان"، احتواء الأزمة. لكن يبدو أن الأزمة تزداد وتتفاقم وليس العكس، وأحد أبرز أسباب تفاقمها، هو التصريحات السياسية الإعلامية غير المنضبطة والنبرات التصعيدية، ويبقى السؤال الأهم فى تلك الدائرة المفرغة هو الحلقة المفقودة فى حل الأزمة، هل هذه الأزمة السودانية الأثيوبية صراع سيادة أم نزاع حدودى؟! من الزاوية التاريخية تمتد جذور الخلاف الحدودي بين السودان وإثيوبيا إلى الدولة المهدية في نهاية القرن التاسع عشر، إذ تنازلت عن بعض الأراضي لإثيوبيا شملت إقليم بني شنقول، الذي أُنشئ عليه الآن سد النهضة، فيما يرى أبناء قومية الأمهرا أن أراضيهم التاريخية تمتد إلى ولاية الجزيرة وسط السودان. وهذا على ما يبدو وعد قطعته الدولة المهدية للحبشة بعد حرب قصيرة بينهما، قام بها عبدالله التعايشي خليفة المهدي، ومكن الأثيوبيين من هذه المنطقة بغرض استمالتهم للتعاون معه في محاولته غزو مصر. وبعدما انتهى حكمه في عام 1899 بغزو الإنجليز السودان وهزيمة جيوشه في "كرري" وقتله في معركة أمدبيكرات، قامت الإدارة البريطانية في الخرطوم بالوصول إلى اتفاقية "أديس أبابا" عام 1902 لترسيم الحدود مع إمبراطور الحبشة منليك الثاني، وأطلقت يد التيغراي على حساب الأمهرا في المناطق المُتبادلة بين البلدين، وظلت منطقة بني شنقول مصدر قلق واهتمام بالنسبة إلى الإمبراطور منليك الثاني، وأرجعت الوثائق البريطانية ذلك إلى موارد الذهب الموجودة فيها وموقعها الاستراتيجي إذ يمكنها السيطرة على منطقة النيل الأزرق بسهولة. وبعد رفض الإدارة البريطانية الاعتراف للحبشة بأي حقوق في بني شنقول، توصّلت إلى اتفاق مع الإمبراطور منليك الثاني يقضي بضمها إلى الحبشة مقابل منحها امتيازات التنقيب عن الذهب في بني شنقول للشركات الإنجليزية". أما في عهد الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري والإمبراطور الإثيوبي هيلاسيلاسي تم تأكيد ترسيم الحدود والاعتراف بها عام 1972، وصولاً إلى إعادة الترسيم عام 2014، ثم تكوين لجنة مشتركة عام 2018 لحماية الحدود من هجوم الميليشيات والحد من الجرائم العابرة للحدود. وعلى الرغم من استمرار المناوشات على الحدود الإثيوبية منذ سنوات، إلا أن تعتيم النظام السابق الحاكم في الخرطوم عليها، جعل تجاوز الحدود الشرعية أمراً عادياً بالنسبة إلى إثيوبيا. ومن مظاهر التعتيم أنه بعد توغل ميليشيا "الشفتة" في السودان إلى نقاط أبعد في عام 1995. وبعد انتشار الجيش السوداني هناك فترة من الزمن، فوجئ السودانيون بانسحاب جيشهم من المنطقة، نتيجة خوف الرئيس السابق "عمر البشير" من سوء العلاقة بينهما بعد تصاعد الأصوات المنادية بمحاسبته، بسبب محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك عام 1995 في أديس أبابا. فهل تتدخل الأممالمتحدة ومجلس الأمن لحل تلك الأزمة، أم ستظل القوى الدولية الكبرى تزيد من تفاقم الأزمة لتتحول التصريحات الإعلامية بين الطرفين إلى ساحة حرب عسكرية دامية، ربما تطول لعقود وعقود دون حل جذرى، فى ظل ظروف اقتصادية بائسة تمر بها البلدان وأوضاع داخلية غير مستقرة.