بقلم: أسامة عبد الحميد تقع على نهري ” شبريه” و “هافل” هي أكبر مدن ألمانيا وعاصمتها والأكثر خضرة، ولا يعود الفضل لذلك إلى الكم الهائل من المتنزهات والحدائق العامة والغابات فقط، بل أيضاً إلى الوعي البيئي ومقومات الاستدامة، مهما سمعنا أو قرأنا عنها لا يمكن أن يغني عن زيارتها، فهي مدينة تزخر بالكثر ممن يسعد الرؤية، والأكثر مما يغري اكتشافه، وصلناها قادمين من مدينة مبن بعد مسافة قطعنها بالقطار مدة أربع ساعات، تجولنا في شوارعها وزرنا معالمها التي تحكي قصت مدينة صنعت من رموز انقسامها معالم تذكارية تعكس نهوضها من تحت الأنقاض. تزخر برلين بالمقاهي والمطاعم العالمية والعربية، كما تزخر بشوارع تسوق ذات شهرة واسعة، وتعتبر مدينة عالمية للموضة والتسوق، تحولت إلى مغناطيس يجتذب أشهر المصممين العالميين، إضافة إلى احتضانها إبداعات جيل الشباب الذي يجد الفرصة لعرض ابتكاراته، وتطورت كثيراً بحيث تحولت إلى مدينة عالمية للمعارض التي تقدم آخر خطوط وصيحات الموضة، ويقصدها الكثير من مشاهير هوليود ليشاركوا في فعاليتها المتنوعة، كمعارض “فاشن ويك” و “بريد أند باتر” و “أسبوع مرسيدس بنز للأزياء” وغيرها من الفعاليات المبتكرة. - الإعلانات - أكثر ما لفت انتباهنا في برلين، أن لها خصوصية ونكهة خاصة، هي قدرتها الفائقة على الجمع بين العراقة والحداثة، ففي الوقت الذي تذخر به المدينة بالمعالم التاريخية الشهيرة والتنوع الثقافي، فإنها تنبض بحب الحياة والحداثة والسهر، حيث يتيح ليل برلين الكثير من الفرص لعشاق السهر والسمر فهي مدينة لا تنام، وعلى الرغم من هذا الزخم الفريد، تتصف بالمزج بين حياة المدينة وحياة الواحات الهادئة، فبينما تقدم لزوارها وضيوفها أجواء مفعمة بالإثارة، فهي في الوقت نفسه تحتضنهم في مساحاتها الخضراء الشاسعة. للمتاحف نصيباً كبيراً في برلين التي تعتبر مدينة ثقافية وفنية بامتياز، وتضم في جنباتها العديد من المتاحف والمعارض الفنية والعروض والحفلات الموسيقية ودور الأوبرا والمسارح، وهذا ما جعلنا نشعر خلال جولتنا وكأننا نسير على طرقات مرصوفة بالثقافة ومفعمة بالفن، إلا أن وسط المدينة هو أكثر ما أدهشنا بكنوزه التاريخية، ومن يرغب في القيام برحلة عبر العصور القديمة، ما عليه سوا التوجه لجزيرة المتاحف، التي تم إدراجها على قائمة التراث العالمي لليونسكو منذ عام 1999. جزيرة المتاحف: جزيرة يحيطها نهر “شبريه” من كل جانب، حين وصلناها أدركنا أننا أمام سمفونية رائعة مؤلفة من من خمسة متاحف تزخر بالمقتنيات الثمينة. متحف برلين القديم هو متحف تاريخي بني ما بين عامي 1823 و1830 بناء ضخم ومستدير يغري الزوار بما يحتويه، حيث يضم المتحف تشكيلة كبيرة من التحف والآثار الكلاسيكية، منها تشكيلة يونانية تضم الدروع والخوذ القديمة وغيرها. متحف برلين الجديد يعرض متحف برلين الجديد آثاراً قديمة من حضارات عريقة سكنت الأرض في قديم الزمان مثل الحضارة المصرية الفرعونية.
متحف بيرغامون يعود تاريخ افتتاح هذا المتحف الى عام 1899 حيث يعرض الكثير من التحف الاثرية القديمة التي تعود إلى حضارات مختلفة من العالم كالحضارة البابلية والآشورية، ومنها مذبح بيرغامون. متحف بوده يعكس سطح مياه نهر شبريه صورة متحف بوده، الذي يذخر بالكثير من كنوز الفن العائدة إلى مختلف العصور، إلا أن المعروضات الأكثر شهرة فيه، هي مجموعة من القطع النقدية التي تعتبر واحدة من أثمن نظيراتها في العالم. متحف الآلات الموسيقية يعرض هذا المتحف أكثر من 3500 آلة موسيقية يعود تاريخ معظمها إلى القرن 16 وهي تشكيلة فريدة من نوعها تعرض آلات موسيقية من حقبات زمنية متفاوتة. بوابة براندنبورغ: هي بوابة تاريخية لا يمكن لأي قادم إلى برلين إغفال زيارتها، فهي تلقي الضوء على مرحلة تاريخية يزيد عمرها عن 200 عام، وعلى الرغم من أنها كانت تعد رمزاً من رموز عهد الانقسام، إلا أنها تمثل اليوم رمزاً للوحدة ومحطة مهمة لجذب السياح، حيث تنتصب أمامها كاميرات المصورين وزوار المدينة الذين يحرصون على إلتقاط الصور التذكارية معها، كما تظهر صورة البوابة على عدة عملات المانية. عمود النصر: أحد رموز مدينة برلين بني عام 1873 احتفالاً بالنصر في الحرب الفرنسية الالمانية، يعتبر من أشهر الأماكن السياحية في برلين، برج برلين: برج التلفريون والمعروف باسم برج برلين، يتميز بهندسته المعمارية الفريدة التي جعلت منه مزاراً سياحياً مهماً، يبلغ ارتفاعه 368 متراً ويتكون من 147 طابقاً حيث يشكل أطول بناء في المانيا كلها، وثاني أطول برج في الاتحاد الاوروبي والرابع في قارة أوروبا. حديقة تريبتاور: حديقة عامة تقع بجانب نهر سبري في حي ألت تريبتو، تعتبر وجهة من والجهات المميزة ومتنفساً شعبياً لسكان العاصمة الذين يأتون إليها بهدف الترويج عن النفس، وممارسة رياضة المشي وركوب الدراجات أو الجلوس بجانب النهر، وهناك العديد من الدروب الطويلة الممهدة المناسبة لرياضة التجول والمشي وركوب الدرجات، فبرلين مدينة خضراء تضم الغابات الواسعة والحدائق العامة والمتنزهات والعديد من البحيرات والأنهار، ومن يتجول في أمسيات الصيف الجميلة عبر غاباتها الخضراء سينسى أنه في مدينة كبيرة، فهذه المتنزهات التي بمثابة الرئة الخضراء للمدينة، جعلت برلين عاصمة الخضرة والمناظر الخلابة. وكما ذكرنا تعتبر مدينة برلين من أهم المدن الثقافية والسياحية في أوروبا والعالم، حيث تذخر بالمواقع التاريخية والأثرية التي تستحق الزيارة والاهتمام، ومن أهمها سور برلين. جدار برلين: منذ وصولنا إليها أدركنا أنه لا يمكن الحديث عن برلين من دون التوقف أمام جدارها، فخلال الحرب الباردة وتحديداً في 13 أغسطس عام 1961 قامت حكومة ألمانياالشرقية بتشييد ما يعرف بجدار برلين، لتصبح المدينة مقسمة إلى جزئين، جزء يتبع ألمانياالغربية، وآخر يتبع ألمانياالشرقية، وبقى الحال على هذا حتى عام 1989 شهدت المدينة حدثاً تمثل في سقوط “حائط العار” أو “سور صد الفاشية” بحسب تسميته المتضادتين وقتها وفق وجهة نظر كل جانب، ليتحول إلى لحظة تاريخية لا يمكن للألمان أو العالم نسيانها، عدا التداعيات الاستراتيجية، ترك انهيار الجدار أثراً عمرانياً غير معالمها. ففي ذلك اليوم المشهود 9 نوفمبر 1989 هاجمت الجماهير السور المنيع الذي كان شطر مدينتهم إلى شطرين متعاديين طوال 28 عاماً، وكرس انهيار الجدار تفتت امبراطورية الاتحاد السوفيتي السابق، وتهشم أفلاكه في المعسكر الشرقي، وما تبعه من احتكار القوة من جانب واحد ونهاية توازن الإرهاب. وبعيداً عن قلب الخارطة السياسية الدولية، أدى سقوط جدار برلين إلى تغييرات ملموسة ومرئية على الصعيدين المدني والعمراني، كأي سور تحصين كان يفتقر إلى الجمال، وكيف يكون جميلاً والغاية منه العزل والصد، وحرمان الناس من التلاقي، حاله حال جدار العزل العنصري في الضفة الغربية، إذ أتاح سقوط حائط برلين إعادة تخطيط ما حوله، وتعمير مبان أو ترميمها، وشق شوارع وشتل حدائق وزراعة متنزهات، فهو لم يكن مجرد حائط، إذ كان تحصيناً عسكرياً معقداً بطول 1394 كيلومتراً، يتضمن حائطين متوازيين، وحاجزين معدنيين متوازيين، بينهما فسحة كبيرة وممرات مراقبة، وصفارات إنذار، وقاذفات نارية تلقائية الإطلاق، وأسلاك شائكة مكهربة، فقد كان السور بين حائطيه المتوازيين مزوداً بأكثر من 300 برج مراقبة و 14 ألف عسكري و 600 كلب حراسة، وهذا ما يفسر أن مئات من مواطني برلينالشرقية لقوا حتفهم أثناء محاولاتهم الفرار، ويوم تداعى الحصن تم فتح تلك المساحة المحصورة بين جداريه المتوازيين، وتسويتها بالأرض، لكن تم الإبقاء على مساري خطي الجدارين ظاهرين للعيان في مواضع عديدة إنما في مستوى الأرض، إذ تم تبليط آثار الحائطين ببلاط خاص مختلف عن أرضية الشارع الإسفلتية لتميزه عنها، والهدف إبقاء أثر السور كذكرى تاريخية كأنها من أطلال الماضي وللتذكير بانهيار رمز قديم، وتمجيد انتصار نهج أيدولوجي “الليبرالية” على منحى معاد “الشيوعية” إثر حرب باردة استغرقت بينهما أكثر من 7 عقود من الزمن. وتم تمديد خطوط وسائط النقل العمومية، وربطها ببعضها، لكي تغطي الجانبين بعد ما ظلت تلك الخطوط مبتورة، فخطوط شبكة المترو وخطوط القطارات الإقليمية كانت مبتورة عند الجدار، وتطلب الأمر إعادة ربطها وتمديد مساراتها وتطويرها، وفتح محطات جديدة وترميم المحطات القديمة، كما تم تطوير المساحات الخضراء والحدائق والمتنزهات والبحيرات والمسارات النهرية، بحيث أصبحت برلين مدينة منفتحة، غير مكتظة ولا خانقة ولا مزدحمة السير على عكس مدن أخرى، كما أنه بعد توحيد الألمانيتين واستعادة برلين منزلتها كعاصمة موحدة لألمانيا الموحدة، تطلب الأمر إنشاء بنى تحتية حكومية، ومقار وزارات وإدارات للدولة، وكان لذلك كله كلفة كبيرة، أدت إلى خلخلة الموازنة المالية بشكل كبير. زرنا عدة مواقع للجدار واستشعرنا في كل موقع ومكان وجزء منه بأجواء الحرب الباردة، وعلى الرغم من أن الجدار سيطر على مصائر الناس لسنوات طويلة، إلا أن سقوطه شكل شرارة انطلاقة اسطورة مدينة منعمة بالحيوية والحراك والفن، حيث لم تعد للجدار مهمة حدودية، بل تحول جزء منه إلى أطول معرض فني في العالم، وبات اليوم جدار برلين جدار العار في خبر كان، فماذا عن جدران عار مشابهة في أماكن أخرى من العالم، في الضفة الغربيةالمحتلة، وفي قبرص وكشمير، وبعض أحياء بغداد، فهل سيأتي يوم يسوى بهم في الأرض؟