« يسقط بس » كان ذلك هو جواب الشابة السودانية الحسناء التي تقود المظاهرة فى قلب العاصمة السودانية الخرطوم، ردا على سؤال الإعلام الفضائي لها، ما الذي تبغيه من المشاركة فى الحراك الشعبي، بل قيادة عدد من تحركاته. لم تكن الإشارة التي أصبحت شعارا للحراك الشعبي السوداني، الممتد نحو 120 يوما حتى الآن، تعني فقط رئيس الجمهورية عمر البشير، بل كل رموز وسياسات حكم الإنقاذ الذي جاء بانقلاب عسكري، أطاح بحكومة ديموقراطية منتخبة، فى يونيو عام 1989، وحكم السودان الذي زعم أنه جاء لإنقاذه، بالحديد والنار طوال ثلاثين عاماً. وكان جعفر نميري الذي تخلص من معارضيه اليساريين، بإعدام قادة الحزب الشيوعي السوداني، وفتح السجون لبقية أعضائه فى أعقاب محاولة إنقلابية فاشلة لضباط يساريين فى الجيش، هو من أسس لسيطرة الحركة الإسلامية على مفاصل الدولة السودانية. ومقتديا بحليفه المصري «أنور السادات» تحالف مع الإسلاميين، وعلى رأسهم الدكتور حسن الترابي زعيم جبهة الميثاق الإسلامي الخارجة من رحم جماعة الإخوان، الذي عينه وزيراً للعدل، فصاغ له ما سمى بقوانين الشريعة، التي أسقطت العمل بالدستور، وألغت اتفاقية أديس أبابا، التي كانت قد أوقفت الحرب بين الشمال والجنوب. وحين اعترض المفكر الإسلامي وزعيم الحزب الجمهوري الشيخ محمود محمد طه على تلك القوانين التي وصفها بأنها مخالفة للشريعة، وشوهتها، كما شوهت الإسلام وتم استغلالها لإرهاب الشعب السوداني ودفعه إلى الإستكانة وإذلاله، وتهديد وحدته الوطنية، وأطلق عليها قوانين سبتمبر، شرع الترابي لمحاكمته بتهمة الردة ثم إعدامه، عقب أن نصب نميري إماماً على المسلمين !. وكما توقع المفكر الشهيد محمود طه، فقد استخدمت قوانين سبتمبر لمواجهة معارضي نظام نميري، فطاحت فى فقراء السودان تقطيعاً للأوصال وجلدا وصلبا بزعم تطبيق الحدود. وأتخذ نميري وشريكه الترابي من تلك القوانين الشاذة، ذريعة لملاحقة النساء وتعقبهن فى المصالح الحكومية والجامعات والمدارس والطرقات، لإجبارهن على إرتداء الزي الإيراني، برغم الوقار الذي يتسم به زي المرأة السودانية. وقدمت الثورة الإيرانية دعماً للحركة الإسلامية السودانية وعززت نزوعها للهيمنة والسيطرة والإقصاء للخصوم السياسيين، إلى أن أطاح بحكمها الشعب السوداني فى انتفاضة إبريل 1985، لكن شره الإخوان الدائم للسلطة، هو من دفع الترابي لتغيير جلده، فتخلى عن اسم جبهة الميثاق الإسلامي ليصبح زعيماً للجبهة القومية الإسلامية التي قادت إلى انقلاب يونيو 1989، بعد أن رفض المجلس العسكري برئاسة المشير سوار الذهب، العضو المؤسس فى الجبهة الإسلامية القومية إلغاء قوانين سبتمبر، وظل النزاع بشأنها على امتداد السنوات الأربع للحكم المنتخب فى انتفاضة أبريل التي أطاحت بحكم نميرى، ولتبقى حجر عثرة أمام أي تطور ديمقراطي محتمل. فى كل بيت فى السودان شهيد أو أكثر من معارضي أنظمة الحكم الاستبدادية، التي تمارس قمع مواطنيها باسم الله. فى كل بيت أرملة وأم ثكلي وأطفال يتامى لمناضلين ضحوا من أجل بناء السودان دولة وطنية حديثة يسودها السلام والحرية والعدالة. لذلك ولغيره، لم يكن غريبا أن تكون المرأة السودانية، كما هي العادة دائماً، هي أيقونة الحراك الشعبي وقلبه النابض على امتداد نحو أربعة أشهر متواصلة، تقف على خطوط المواجهة الأمامية، تحمي المتظاهرين، وتصوغ شعارات الانتفاضة، وتقودها وتقود حراكها فى مختلف أقاليم السودان ليلاً ونهارا، من أجل الاقتلاع النهائي لنظام الإخوان فى السودان، والتأسيس لحكم مدني يفصل بين الدين والسياسة، ويعيد بناء مؤسسات الدولة على أسس الأهلية والكفاءة والجدارة، ويوظف ثروات البلاد لتنمية تلغي التهميش والتفاوت الاجتماعي بين المواطنين وتحيل شعار الحراك الشعبي الحرية والسلام والكرامة والعدالة إلى سياسات راسخة تنبض بالحياة.