آخر تطورات حادث طائرة الرئيس الإيراني.. جهود عالمية للوصول لموقع إبراهيم رئيسي.. انقطاع الاتصالات والظروف الجوية تعيق عمليات البحث    تسنيم: انقطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية والراديو في منطقة سقوط المروحية    تركيا: مسيرة «أكينجي» رصدت مصدر حرارة يعتقد أنه حطام مروحية رئيسي    بكاء زوجة ونجل شيكابالا بعد منعهم من النزول للملعب للاحتفال بالكونفدرالية (فيديو)    اتحاد الصناعات: وثيقة سياسة الملكية ستحول الدولة من مشغل ومنافس إلى منظم ومراقب للاقتصاد    تراجع جديد في سعر كيلو اللحم البقري قائم اليوم 2024    سوريا تعرب عن تضامنها مع إيران في حادث اختفاء طائرة «رئيسي»    الأميرة رشا يسري ل«بين السطور»: الضغط الأمريكي لا تأثير له على إسرائيل    غارة إسرائيلية عنيفة تستهدف مخيم البريج وسط قطاع غزة    بالاسم والرقم القومي.. رابط نتيجة الصف الخامس الابتدائي 2024 الترم الثاني (استعلم الآن)    أول تعليق من أحمد زيزو بعد تتويج الزمالك بالكونفدرالية.. ماذا قال؟    دونجا يوجه رسالة للاعب نهضة بركان بعد لقطته الرائعة في نهائي الكونفدرالية    مصدر أمنى ينفى الشائعة الإخوانية بوجود سرقات بالمطارات.. ويؤكد: كذبة مختلقة    سمير صبري ل قصواء الخلالي: مصر أنفقت 10 تريليونات جنيه على البنية التحتية منذ 2014    عمر الشناوي: «والدي لا يتابع أعمالي ولا يشعر بنجاحي»    الأميرة رشا يسري ل«بين السطور»: دور مصر بشأن السلام في المنطقة يثمنه العالم    دعاء الرياح مستحب ومستجاب.. «اللهم إني أسألك خيرها»    دعاء الحر الشديد كما ورد عن النبي.. اللهم أجرنا من النار    طريقة عمل الشكشوكة بالبيض، أسرع وأوفر عشاء    عبدالملك: المثلوثي وزيزو من نجوم الكونفدرالية.. وهدف الجزيري في الذهاب وراء التتويج    الشماريخ تعرض 6 لاعبين بالزمالك للمساءلة القانونية عقب نهائي الكونفدرالية    حسين لبيب: اليوم سنحتفل بالكونفدرالية وغدا نستعد لاستكمال الدوري    "علامة استفهام".. تعليق مهم ل أديب على سقوط مروحية الرئيس الإيراني    استعدادات عيد الأضحى في قطر 2024: تواريخ الإجازة وتقاليد الاحتفال    مصدر أمني يكشف حقيقة حدوث سرقات بالمطارات المصرية    انتداب المعمل الجنائي لمعاينة حريق داخل مدرسة في البدرشين    جريمة بشعة تهز المنيا.. العثور على جثة فتاة محروقة في مقابر الشيخ عطا ببني مزار    نشرة منتصف الليل| تحذير من الأرصاد بشأن الموجة الحارة.. وتحرك برلماني جديد بسبب قانون الإيجار القديم    الهلال الأحمر الإيراني: حددنا موقعا آخر للبحث وفرق الإنقاذ بشأن مروحية رئيسي    عيار 21 الآن بعد الارتفاع الكبير.. سعر الذهب بالمصنعية اليوم الإثنين 20 مايو بالصاغة    اليوم.. البنك المركزي يطرح سندات خزانة بقيمة 9 مليار    الإعلامية ريهام عياد تعلن طلاقها    د.حماد عبدالله يكتب: العودة إلى الماضى والنظر إلى المستقبل    قبل إغلاقها.. منح دراسية في الخارج للطلاب المصريين في اليابان وألمانيا 2024    استشهاد رائد الحوسبة العربية الحاج "صادق الشرقاوي "بمعتقله نتيجة القتل الطبي    ملف يلا كورة.. الكونفدرالية زملكاوية    تعرف على أهمية تناول الكالسيوم وفوائدة للصحة العامة    كلية التربية النوعية بطنطا تختتم فعاليات مشروعات التخرج للطلاب    الصحة: طبيب الأسرة ركيزة أساسية في نظام الرعاية الصحية الأولية    بعد الموافقة عليه.. ما أهداف قانون المنشآت الصحية الذي أقره مجلس النواب؟    تقرير رسمى يرصد 8 إيجابيات لتحرير سعر الصرف    ارتفاع كبير في سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الإثنين 20 مايو 2024    نقيب الأطباء: قانون إدارة المنشآت الصحية يتيح الاستغناء عن 75% من العاملين    خبيرة ل قصواء الخلالى: نأمل فى أن يكون الاقتصاد المصرى منتجا يقوم على نفسه    حظك اليوم برج الدلو الاثنين 20-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    منسق الجالية المصرية في قيرغيزستان يكشف حقيقة هجوم أكثر من 700 شخص على المصريين    حتى يكون لها ظهير صناعي.. "تعليم النواب" توصي بعدم إنشاء أي جامعات تكنولوجية جديدة    مسؤول بمبادرة ابدأ: تهيئة مناخ الاستثمار من أهم الأدوار وتسهيل الحصول على التراخيص    عالم بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذي الحجة    اليوم.. محاكمة طبيب وآخرين متهمين بإجراء عمليات إجهاض للسيدات في الجيزة    اليوم.. محاكمة 13 متهما بقتل شقيقين بمنطقة بولاق الدكرور    عواد بعد التتويج بالكونفدرالية: سأرحل بطلًا إذا لم أجدد مع الزمالك    أيمن محسب: قانون إدارة المنشآت الصحية لن يمس حقوق منتفعى التأمين الصحى الشامل    تقديم الخدمات الطبية ل1528مواطناً بقافلة مجانية بقلين فى كفر الشيخ    أتزوج أم أجعل أمى تحج؟.. وعالم بالأوقاف يجيب    هل يجوز الحج أو العمرة بالأمول المودعة بالبنوك؟.. أمينة الفتوى تُجيب    نائب رئيس جامعة الأزهر يتفقد امتحانات الدراسات العليا بقطاع كليات الطب    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إقرار سقوف للأجوروالسماح بارتفاع الأسعار.. منهج الصندوق فى مكافحة الفقر
نشر في الأهالي يوم 27 - 06 - 2018

حتي سبعينيات القرن العشرين، نادرا ما كان مواطنو الدول الصناعية يعيرون اهتماما لصندوق النقد الدولي- وعلي الرغم من التقارير والاخبار المسهبة التي تناقلتها وسائل الاعلام على خلفية الاحتجاجات التي رافقت اجتماع البنك الدولي فى برلين الغربية فى العام 1988، فإن من حقائق الامور ان الرأي العام قليلا ما كان يشغل باله بالصندوق وشئونه فى الثمانينيات من القرن نفسه، بيد أن الوضع تغير كلية فى التسعينيات، فمن ناحية كانت نشاطات الصندوق قد اقتربت، جغرافيا، من اوروبا كثيرا، فى سياق تدخله فى روسيا ودول الكتلة الشرقية، سابقا، ومن ناحية اخري لأن المنظمات غير الحكومية بدأت تنتقد بشدة النتائج المترتبة على سياسات الصندوق. وعلي نحو متزايد، اعلن الشباب، بخاصة، عن احتجاجهم الشديد على اكراه الصندوق افقر دول العالم على تسديد ما فى ذمتها من ديون الي مؤسسات مالية مثقلة بمليارات الدولارات الامريكية، متجاهلا انه من الاولي ان تنفق هذه الاموال على ما فى البلدان الفقيرة من مهمات ضرورية الي اقصي حد، من قبيل مكافحة الفقر والاوبئة والامية.
إلغاء الديون
وفى العام 1994 تكاتفت نحو 500 منظمة غير حكومية- بعد خمسين عاما من مؤتمر بريتون ووزد- لشن حملة شعواء ضد صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، شعارها "كفاية الخمسون عاما"، وفى غضون ذلك كانت التحضيرات جارية على قدم وساق لتنظيم "حركة الاحتفال الفضي 2000" jubilee- 2000-movement، أي الحركة، التي طالبت، فى نهاية الالفية الثانية ومطلع الالفية الثالثة بضرورة اطفاء كل الديون الموجودة بذمة افقر الدول، وبعد انقضاء بضعة اعوام على تأسيسها حظيت هذه الحركة بتأييد عالمي واسع الابعاد، اذ صار مؤيدوها ومريدوها ينتشرون فى 40 دولة، وفى عام 1996 خاطب صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الرأي العام، مشيرين الي انهما عزما على اجراء تغيير فى الاستراتيجية التي ينتهجانها حيال ما لهما من استحقاقات مالية لدي دول ضعيفة اقتصاديا، ومثقلة بديون لا قدرة لها على تسديدها مؤكدين انهما، لاسيما بعدما انتهيا فى الثمانينيات من معضلة مديونية الدول متوسطة الدخل، قد عقدا العزم على تسليط منظورهما على افقر دول العالم. وبحسب ما اعلنه الطرفان، فإنهما ارادا، من خلال تبنيهما "مبادرة معززة للبلدان الفقيرة" (هيبيك) ليس تمكين هذه البلدان من الافلات من فخ المديونية فقط من خلال بلوغ مستوي مديونية معقول يناسب قوة هذه البلدان على التحمل، بل تعبيد الطريق ايضا أمام الدول الافريقية وبخاصة الواقعة جنوب الصحراء الكبري لكي تمضي قدما متطلعة الي مستقبل اقل اعباء.
النوايا المعلنة
وفيما اشارت بضع منظمات- تطالب عادة بضرورة تخفيف اعباء الديون عن الدول الفقيرة او اطفاء هذه الديون كلية – الي ان التغييرالمعلن فى السياسات المنتهجة من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كان رد فعل على الضغط الذي مارسته فى اطار انشطتها الدولية المؤازرة للدول الفقيرة، وانها بالتالي ترحب بهذا "التغير فى تفكير" المؤسستين المختصتين بالشئون المالية الدولية، شككت منظمات اخري فى جدوي هذا التغيير المعلن- وكما تبين لاحقا، كانت هذه الاطراف على حق فى تشكيكها بالنوايا المعنلة. فما سمي ب "مبادرة هيبيك"، ليس، فى حقيقة الامر، مبادرة جديدة، بل نسخة معدلة فقط من المبادرة التي تبناها الصندوق فى العام 1987، فى اطار " التسهيل التمويلي المعزز للتصحيح الهيكلي" وتسهيل يناسب التحولات السائدة فى الاقتصاد العالمي. وبموجب هذا التسهيل يحق للدول الفقيرة والعاجزة عن خدمة ديونها الخارجية، والملتزمة بتنفيذ برنامج تكيف هيكلي، الحصول على قروض تعادل 140 فى المائة، وفى حالات استثنائية 185 فى المائة من حصتها لدي الصندوق- وبفائدة تبلغ 0.5 فى المائة وفترة سماح امدها 5 سنوات و6 شهور. وبأن يسدد القرض على شكل اقساط تستحق كل ستة شهور وعلي مدي عشر سنوات، ومنح الصندوق، فى اطار التسهيل التمويلي المعزز للتصحيح الهيكلي، قرضا بلغت قيمتها الاجمالية 10.1 مليار دولار امريكي، بيد ان الامر الذي يجب ملاحظته هو ان هذه القروض خصصت لتسديد قروض قديمة العهد فقط، وانما لم تساهم فى خفض عبء الديون المترتبة بذمة البلدان المعنية، بل هي، وبالرغم من الشروط الميسرة الممنوحة لفترة محددة، ادت إلى تحسين اوضاعها مرحليا لاغير، ففى الامد الطويل جعلت هذه القروض الاوضاع فى هذه الدول اشد صعوبة.
تفاوض الضعفاء
وتفاقمت الاوضاع فى الدول الفقيرة فى الزمن التالي، وذلك لان هيكل الديون قد تغير بشكل ملحوظ، ففيما كانت مصارف تجارية هي الطرف الدائن فى المقام الاول، صار الطرف الدائن فى اغلب الاحيان اما دولا او مؤسسات مالية دولية، وبما ان الدول والمؤسسات المالية الدولية المعنية هاهنا تتمتع بسلطان اعظم وامكانات اشد قدرة على ممارسة الضغط، مقارنة بما لدي هذا المصرف اوذاك، لذا امست البلدان الفقيرة تفاوض من مقوع اشد ضعفا.
ومقارنة سريعة بين شروط وتعليمات التسهيل المسمي "مبادرة معززة للبلدان الفقيرة" (هيبيك) اخذت بالاعتبار تلك البلدان فقط التي كان متوسط الدخل السنوي لمواطنيها ادين من المتوسط الذي تنطلق منه "مؤسسة التنمية الدولية" او "المؤسسة الدولية للتنمية": (كما تسمي ايضا. المترجم) والبالغ 925 دولارا امريكيا، والتي تزيد ديونها الخارجية على 150 فى المائة| من قيمة صادراتها السنوية، او تزيد على 250 فى المائة من ايرادات الدولة ونفذت فى السنوات الثلاث السابقة برنامج تكيف هيكلي بنجاح، وعلي النحو الذي ينشده الصندوق، وانطبقت هذه الشروط فى العام 1996 على نصف الدول فقط التي تأهلت للانتفاع بمزايا "التسهيل التمويل المعزز للتصحيح الهيكلي؛.
ووصف البنك العالمي الوضع المأساوي السائد فى هذه الدول فى إحدي وثائقه بالعبارات التالية : الستمائة مليون فرد من مواطني الدول المستفيدة من مبادرة "هيبيك"، يعيش اكثر من نصفهم فى فقر مدقع، اي انهم يعيشون باقل من دولار واحد فى اليوم، ويقل متوسط العمر المتوقع بنحو 13 سنة عن العمر المتوقع فى الدول الصناعية، وادني من متوسط العمر المتوقع فى الدول ذات الدخل الفردي الضعيف بسبعة اعوام. وما فتئت الدول النامية تسجل معدلات وفيات كبيرة بقدر تعلق الامر بوفيات اطفال حديثي الولادة او اطفال يموتون فى السنوات الخمس الاولي التالية على ولادتهم، ولايزال منخفضا عدد الاطفال المواظبين على الذهاب إلى المدرسة".
عبء الديون
وكان استراتيجيو صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قد تولوا، بعد قيامهم بفحص دقيق لوضع زبائنهم الفقراء، الي نتيجة تفيد بأن 39 بلدا- هذا هو عدد البلدان التي تنطبق عليها مبادرة "هيبيك" – يعيشون فى ظروف اجتماعية مأساوية، وانهم بالتالي سيعجزون عن خدمة ما بذمتهم من ديون ان عاجلا اواجلا. وللحيلولة دون ان تصبح هذه البلدان عاجزة كلية عن تسديد ما بذمتها من قروض، رأي الصندوق انه ينبغي مد يد العون الي تلك البلدان التي تبدي تجاوبا مع شروطه، ومنحها التسهيلات إلى أن تقف على قدميها :وتكون قد وصلت الي مستوي مديونية مستدامة":- أي: إلى أن تكون فى وضع يسمح لها بتسديد الديون القديمة والفوائد المركبة، وخدمة الدين، وعلاوات التأخير، وعلاوات جدولة الديون، بنفس الشروط السائدة إلى الآن. بهذا المعني فإن الامر ما كان يدور حول انقاذ افقر الدول مغبة ما بذمتها من ديون خارجية، بل كان يدور اولا واخيرا حول منع تعرضها الي عجز تام فى الوفاء بالتزاماتها المالية، وذلك بغية مطالبتها بعد ذلك بدفع المال الذي حصلت عليه من الصندوق، ومن اجل بلوغ هذا الهدف، حدد خبراء الصندوق قيمة لا لبس فيها ابدا: "مستوي المديونية المستدامة": يتحقق حين ينخفض عبء الديون الخارجية لدولة معينة الي ما هو ادني بمرة ونصف المرة من قيمة صادرات البلد المعني.
ثراء الأغنياء
وكان مؤشر التنمية البشرية السنوي، اعني المؤشر الذي اتبكرته هيئة الامم المتحدة، قد اكد فى العام 1999 ان التفاوت بين متوسط دخل اغني خمس سكان العالم وافقر خمس قد بلغ انطلاقا من متوسط نصيب الفرد الواحد من الدخل القومي 30 إلى 1 فى العام 1960، وانها ارتفعت الي 74 الي 1 فى العام 1997، ويمضي التقرير، مبينا انه فى حين تعين على نصف سكان العالم الذين بلغ تعدادهم وقتذاك 3 مليارات نسمة ان يعيشوا بدخل اقل من دولارين فى اليوم، ارتفعت ثروة اغني ثلاثة افراد من سكان العالم الي ما يزيد على اجمالي الثروة التي يمتلكها 600 مليون فرد من سكان البلدان الاقل تطورا اقتصاديا.
ومهما كان الحال، فالامر الواضح هو ان شروط مبادرة الهيبيك لا تنطوي على اي مؤشر يبين ان التطور الاقتصادي العام قد صار يصب فى مصلحة الفقراء، من هنا، فلا عجب ان تنتشر الاحتجاجات فى كل ربوع المعمورة، وتزداد اتساعا واصرارا وتنتقل الي الولايات المتحدة الامريكية، متصفة بدينامية اثارت الرعب لدي اولي السلطة وتنظمياتهم المختلفة، ففى يونيو العام 1999 وعلي خلفية مؤتمر القمة الخاص بالاتحاد الاوروبي ومؤتمر القمة الخاص بمجموعة الدول الصناعية الثماني الكبري G8 اللذين عقدا فى مدينة كولونيا، اندلعت اعظم موجة احتجاجات سجلت منذ اندلاع الاحتجاجات المناوئة لصندوق النقد الدولي فى العام1988، وبفعل الضغط الذي مارسه الشارع عليهم وخوفا من اندلاع احتجاجات اشد صخبا، طالبت مجموعة الدول الصناعية الثماني الكبري صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بضرورة اعادة النظر فى مبادرتهما المسماة هيبيك، وبعد ثلاثة شهور من ذلك اعلنت المنظمتان تبنيهما مبادرة جديدة معدلة وموسعة، "هيبيك" 2" وذلك فى اطار "تسهيل النمو والحد من الفقر".
عن الحد من الفقر
وجري الترويج للتوجه الجديد باسلوب اعلامي محكم واعتراف صريح بقصور الاهتمام بالشفافية، و"بممارسة الوصاية" على افقر بلدان العالم حتي الان، وكما لو كان مذنبا، ندم على ما اقترف سابقا، زعم صندوق النقد الدولي بأنه عقد العزم على التخلي عن الاسلوب الذي انتهجه حتي الآن، والمتمثل فى اكراه هذه الدول على تنفيذ الاجراءات التي يحددها الصندوق بمفرده، اي من جانب واحد فقط، وهكذا، وبدلا من ذلك زعم الصندوق انه سيعتمد مستقبلا الاطار المحدد فى استراتيجية جديدة تتضمنها "ورقات استراتيجية الحد من الفقر" وان هذه الاستراتيجية ستتيح الفرصة للحكومات والمنظمات الحزبية والبرلمانات والنقابات العمالية وهيئات الكنائس والمنظمات غير الحكومية والجمعيات التعاونية واتحادات الصناعيين فى البلدان المعنية لأن يشاركوا فى صياغة هذه الاستراتيجية التي يفترض بها أن تتضمن ايضا خصائص الادارة الرشيدة (الحوكمة) واستراتيجية مكافحة الفقر. وفى هذا السياق كان المرء يراهن على "مشاركة" هذه البلدان بصورة فعالة وعلي تمتعها "باستقلالية" تتيح لها اتخاذ القرارات الصائبة، علما أن الصندوق قد اشار الي هذه البلدان، بأن تنفيذها ما جاء فى ورقات الاستراتيجية سيضمن لها توقع خفض ملموس فى خدمة ديونها الخارجية (وخفض جزئي للفوائد والفوائد المركبة التي عليها الوفاء بها)، وأن من حقها أن تأمل، إذا ما نفذت بنود الورقة بصورة تامة وناجحة، ان جزءا من ديونها سيتم اطفاؤها.
أسباب الفقر
إن ما يبدو للمراقب، للوهلة الاولي، تغير صادق فى طرق التفكير، وتحول فى السياسات المنتهجة من المؤسستين الماليتين الدوليتين، اعني صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، هو فى واقع الحال ليس سوي تضليل اخر للرأي العام، كان من بنات افكار "صناع الرأي" العاملين فى الصندوق والبنك الدولي: فحينما طالب الصندوق والبنك الدولي حكومات البلدان الاكثر فقرا بضرورة العمل مع المنظمات الوطنية معا بغية تطوير استراتيجية مناسبة لمكافحة الفقر، فإنهما كان فى الواقع قد أثار انطباعا يوحي بأن المشكلة القائمة هي مشكلة داخلية بحتة، وأن حلها يتوقف على الجهود المبذولة من قبل الحكومة والسكان، وان المؤسسات المالية الدولية تبذل، من ناحيتها، قصاري جهدها للمساعدة على تطوير الحل الناجع، وبهذا المعني فإن هذا كله يتجاهل حقيقة بينة تؤكد ان استنزاف هاتين المؤسستين على وجه التحديد موارد هذه البلدان هو الامر الذي عزز فى السنوات المنصرمة اسباب الفقر وحال بشكل حاسم دون مكافحته.
تعزيز التبعية
وفيما كانت اغلبية وسائل الاعلام الدولية تضلل الرأي العام، حيث كانت تزعم ان النواحي الانسانية هي التي حتمت اعتماد توجهات جديدة تراعي مصالح افقر البلدان، كانت حقائق الامور تبين بجلاء ان الاوضاع المأساوية لم يطرأ عليها أي تغير يذكر، فورقات استراتيجية الحد من الفقر ظلت، مثلها فى ذلك مثل برامج التكيف الهيكلي القديمة، تخضع الي مشروطية صارمة، اي، وبعبارة اخري: كانت الاجراءات الخاصة بمكافحة الفقر مدرجة ضمن مجموعة تلك الاجراءات على وجه التحديد، التي ادت، فى سبعينيات القرن العشرين، الي تعميق الفقر والمجاعات، وتفاقم مستوي المديونية الخارجية، وتصعيد تبعية البلدان المعنية لمانحي القروض الدوليين.
علي صعيد اخر، فإن الزعم بأن ورقات استراتيجية الحد من الفقر يجري تصميمها من قبل حكومة البلد المعني، وأن دور الصندوق فى هذا السياق لايزيد على تقويم الورقة اولا والموافقة عليها او رفضها من بعد، هذا الزعم تضليل متعمد حقا و حقيقة، فمن حقائق الامور أن اغلبية الدول الفقيرة اكتسبت خلال العقود المنصرمة تجارب مهمة لكيفية التعامل مع صندوق النقد الدولي، وان حكوماتها- التي هي فاسدة ومرتشية فى اغلب الحالات- استطاعت، بيسر، أن تحاكي الصندوق، رياء، وتقدم له الورقات الاستراتيجية التي تمناها هو نفسه، من هنا، فلا عجب أن تحظي هذه الورقات بموافقته السريعة، وبهذا المعني، فإن الحديث عن علمية ديموقراطية، فضلا عن الحديث عن "استقلالية" هذه البلدان، لم يكن له وجود على ارض الواقع، ان ما تحقق فعلا كان عملية اكراه اريد منها تعميق التعاون بين حكومات الدول الفقيرة وصندوق النقد الدولي.
خدمة الدين
ونظرة سريعة على مقدار الديون، التي تم اطفاؤها فعلا، تبين بجلاء، أن الامر كان يدور ها هنا حول ديون قديمة فى المقام الاول، التي كانت الدول المدينة قد عجزت عن تسديدها اصلا، وبالتالي فإن اطفاءها لم يكن، فى الواقع سوي اجراء من اجراءات اطفاء الديون، التي ليس من المتوقع استردادها ابدا، اي ان شطبها كان من الاجراءات العادية التي تنتهجها المصارف فى مثل هذه الحالات، فالحقيقة البينة هي ان خدمة الدين انخفضت بمقدار كان ادني من الانخفاض الذي طرأ على حجم الديون. وكانت الحسابات التي اجرتها منظمة schuldenerlassjajr.de قد اثبتت ان خدمة الدين انخفضت بالنسبة الي 29 بلدا- بعد بلوغ نقطة اتخاذ القرار من 3.7 إلى 2.7 مليار دولار امريكي فى السنة الالوي، غير انها ارتفعت من ثم إلى 3 مليارات، وظلت تراوح عند هذا المستوي طوال السنوات الخمس التالية. وبحسب ما توصلت اليه المنظمة المذكورة، كان سبب هذا التطور يكمن فى ان هذه الدول كانت ملتزمة بمواصلة خدمة الدين واستدانة قروض جديدة، بحسب الشروط الدارجة فى الاسواق العادية فى جل الحالات تقريبا.
من ناحية اخري، كان الدائنون متعددو الاطراف، اي المؤسسات المالية الدولية، هم الطرف الوحيد، الذي تعهد بتحقيق اطفاء جزئي للديون، وذلك فى اطار هيبيك وهيبيك 2. بالفعل جرت مناشدة الدول والمصارف التجارية ان تقوم هي ايضا باطفاء جزء كبير مما لها من ديون، غير ان الاستجابة لهذه المناشدة كانت متواضعة فعلا، وهكذا، ففى حين تعهد فى اغسطس 54 دولة بخفض ديونها بنحو تناسبى ونفذت هذا التعهد فعلا، اذ تنازلت عن استحقاقات بلغت قيمتها 2 مليار دولار، امتنعت فى المقابل 46 دولة عن اطفاء ديون بلغت قيمتها 1.8 مليار دولار امريكي.
الاصرار الكبير
واتخذ الدائنون التجاريون موقفا اشد صرامة، فاكثر من 90 فى المائة منهم ظلوا متمسكين بحقهم باسترداد ما لهم من مستحقات مالية، علما بان البعض منهم كان يعزز حقه باسترداد مستحقاته بعبارات تنم عن اصرار كبير. حتي اغسطس من العام 2006 تقدمت 44 دولة من هذه الدول بشكوي لدي المحاكم المختلفة، بهدف تمكينها من استرداد مستحقاتها المالية، وكمثال على هؤلاء الدائنين، نود الاستشهاد بالشركة الالمانية كلوكنر هومبولدت دويتش، فهذه الشركة رفعت، وبمساعدة قدمتها لها الحكومة الالمانية، دعوي على جمهورية الكونغو تطالبها بتسديد قروض قيمتها 70 مليون يورو. وبالفعل ايضا، اعرب صندوق النقد الدولي عن شجبه تصرف الدائنين التجاريين، بيد انه اماط اللثام عن موقفه الحقيقي بخصوص هذا الموضوع حين رفضت قيادته التنفيذية اقتراحا كان يرمي الي انشاء صندوق يمول تكاليف المستشارين القانونيين القادرين على الوقوف الي جانب الدول المثقلة بالديون، ومساندتها فى الدعاوي المقامة ضدها بسبب اعسارها وعدم تمكنها من تسديد قروض قديمة.
سلبيات كثيرة
ومرة اخري، دارت الدوائر وتركزت الدواهي على الجماهير العاملة والفقراء، فمع ان الزمن الماضي قد ابان بوضوح وازاح الستار عن النتائج التي تترتب على تحرير التجارة وقطاع الزراعة والغاء القيود المفروضة على القطاع المالي، واسباغ المرونة على سوق العمل وخصخصة المشاريع الخدمية العامة، اصر صندوق النقد الدولي ومعه حكومات البلدان المعنية، بلا تردد او رحمة، على ضرورة ان تنفذ كل هذه الاجراءات حتي فى اطار الحد من الفقر، وحتم هذا الاصرار ان تسفر ورقات استراتيجية الحد من الفقر سلبيات كثيرة، كان من جملتها تعهد غامبيا وغانا وغينيا ومالاوي ومالي وموزمبيق ونيكاراغوا وسيراليون واليمن بخصخصة الخدمات العامة المكلفة بتزويد المواطنين بمياه الشرب- الامر الذي يؤدي، حتما الي ارتفاع اسعار مياه الشرب. وفى غضون ذلك راح الصندوق يطالب بوركينا فاسو بضرورة خفض تكاليف العمل، وذلك من خلال خفض الحد الادني للاجور، مبررا هذا الاجراء بالحد من الفقر!
منح الديون
وبما ان الصندوق على علم مؤكد بالاوضاع المالية السائدة فى الدول المقترضة ولما كان اعسار حكومات هذه البلدان وعدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية حيال العالم الخارجي موضوعا معروفا منذ سنوات كثيرة، لذا ثمة تفسير واحد لا غير لسلوك الصندوق: تفسير يقول ان منح القروض عالية المخاطر ما كان يهدف باي حال من الاحوال الي مساعدة هذه البلدان فى جهودها الرامية الي تطوير الاقتصاد والهياكل التحتية، ولا الي الحد من الفقر والمجاعات، بل كان يهدف بادئ ذي بدء الي استدراجها للوقوع فى فخ المديونية، وذلك لتمكين الرأسمالية المالية الدولية لان تحصل منها على تنازلات، ما كانت ستقدم عليها أبدا فى ظل ظروف عادية.
نقلا عن كتاب صندوق النقد الدولي
تأليف ارنست فولف
ترجمة د. عانان عباس علي
الصادر عن سلسلة عالم العرفة الكويتية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.