السيد إمام هو ناقد ومترجم من جيل السبعينيات، ترجم عشرات الكتب النقدية فى النظرية الادبية منها "الشعرية البنيوية" و"قاموس السرديات" و"شعرية ما بعد الحداثة"، و"الخروج من مصر" لإيهاب حسن كما ترجم موسوعة الليالي العربية. * كيف تري تجربتك فى الترجمة بعد أكثر من أربعين عاما؟ ** أراها تجربة فى منتهي الثراء أن تشارك ولو بقدر ضئيل فى فتح نافذة ولو صغيرة بعض الشيء لكي يطل منها القارئ على المشهد العالمي، على الاخر المختلف، فى النظرية الادبية والنقدية والتطبيق، والتعرف على ادوات جديدة للكشف عن ابعاد للنصوص الادبية لم يكن بالامكان الوصول إليها بالادوات القديمة التي تآكلت من فرط الاستعمال والتكرار، شيء عظيم. التعرف على الاخر يساعدني على معرفة نفسي بكل تأكيد. على الاقل يحدد موقعي وينبهني على أي ارضية أقف بالتحديد، محاولة التقوقع على الذات أو التحصن داخل أسوارها (بدافع الحفاظ على الهوية وما إلى ذلك من دوافع وأسباب) هو آفة العالم العربي، واختراق هذه الصدفة الخارجية أو تكسيرها هو مهمة الناقد والمفكر والمترجم والاديب. التقوقع داخل صدفة الذات يختفى عجزا عن المواجهة والقبول بالحقائق التي يكشف عنها تيار الحياة المتجدد على الدوام. لن تفيدنا هذه الحيلة الدفاعية فى شيء بقدر ما تفاقم من تخلفنا وتوسع الفجوة الحضارية التي تفصلنا عن الاخر الغربي مئات السنين، شرط الا تقتصر علاقتنا بالاخر على مجرد المحاكاة والاجترار، وإلا نكون قد انتقلنا من محاكاة الي محاكاة ومن اجترار إلى اجترار (من محاكاة الاخر الاتاريخي واجتراره إلى محاكاة الاخر المعاصر وتكراره). ينبغي أن تنبني علاقتنا بالآخر الغربي على التفاعل الحر والتبادل الخلاق، أن تكون قراءتنا له قراءة واعية مستبصرة ناقدة تقوم على التدبر والتأمل والتفكير حتي لا نكون فى النهاية صورة مستنسخة من أحد. العالم يقدر الاصول ويرفض المستنسخات، ينسحب هذا على الفنون والنقد والادب على حد سواء، كيف تطوع النظريات والافكار الجديدة لاحتياجاتك أنت، أن تكون الافكار الواردة والنظريات عونا لك على مراجعة وتأمل اساليب حياتك الراهنة حتي يمكنك إعادة اكتشاف نفسك من جديد، أن تعبر عن روحك الفريدة أنت دون شعور بالدونية تجاه الاخر او استعلاء عليه. روح العصر * ما هي المعايير التى تضعها عند اختيار الكتب التي تقوم بترجمتها؟ **أما عن معاييري فى اختيار الكتب التي اترجمها فتخضع لمعيار واحد لا غير حددته لنفسي منذ أن بدأت هذاالمشوار وهو أن تكون هذه الكتب تعبيرا صادقا عن روح العصر وأن تقدم الجديد خاصة فيما يتعلق بالنظرية الادبية والنقدية التي تأثرت بالألسنية وعلم الفيزياء ونظرية الكوانتم التي قلبت مفاهيمنا وتصوراتنا القديمة حول العالم ومكانة الإنسان فيه، ومن هنا كانت ترجمتي للشعرية البنيوية، والتوسل بالبنيوية، وقاموس السرديات، وتعليم ما بعد الحداثة، وإنتاج النص، وشعرية ما بعد الحداثة، وفكرة ما بعد الحداثة، والعولمة. ومن هنا ايضا كان اهتمامي بايهاب حسن الذي ترجمت له براءة جذرية، والخروج من مصر وتحولات الخطاب النقدي، فضلا عن ترجمتي لموسوعة الليالي العربية التي تهدف إلى التعرف على وإعادة اكتشاف ما يعده النقاد الأوربيون أهم أثر تركه العرب فى مجال الحكي وهو كتاب ألف ليلة وليلة الذي يصدر قريبا عن المركز القومي للترجمة فى عدة اجزاء والتي أعدها اثنان من المتخصصين الألمان هما أورليس مارزوف وريتشارد فان ليفن. * هل تحتاج الترجمة من وجهة نظرك إلى التخصص؟ ** طبعا تحتاج إلى تخصص، هل بمقدوري مثلا أن اترجم كتابا فى الفيزياء أو الطب أو الكيمياء؟! بالطبع لا. الترجمة تحتاج إلى دراية تامة بالحقل المعرفى الذي ينتمي إليه العمل المترجم، وكذلك الحال مع الموضوعات المتعلقة بالنظرية الادبية أو الادب. تحتاج ترجمة النظريات الادبية أوالنقدية مثلا معرفة كافية بكل سياقاتها المعرفية، ظروف إنتاجها وتلقيها، علاقتها بغيرها من النظريات التي سبقتها أو تسير بمحاذاتها، تاريخها وأسباب نشأتها وتطورها، إلماما كافيا بالمفاهيم والمصطلحات التي تضمها وتستعين بها فى استجلاء الرؤي، بالفروق الدقيقة بين هذه المفاهيم والمصطلحات وما تعنيه عند مستخدميها، زد على ذلك معرفة دقيقة باللغتين العربية والاجنبية، قواعدها واستعمالاتها وبلاغتها واعرابها وقيمها الصوتية والفونولوجية، إلخ. التخصص أولاً * كيف تري واقع الترجمة فى مصر الآن؟ ** الترجمة الآن فى حالة انحسار فى مصر، عدا الجهود المميزة التي يقوم بها المركز القومي للترجمة (تقلصت ميزانيته ويواجه الكثير من العراقيل البيروقراطية الآن)، والهيئة العامة للكتاب، فضلا عن الدور الذي تقوم به الهيئة العامة لقصور الثقافة فى مصر (التي قلصت اجر المترجم إلى 1500 جنيه عن كل كتاب، اي كتاب!!). العالم الآن فى حالة انفجار معرفى فى كل المجالات والتخصصات، ومؤسسة أو مؤسستان غير كافيتان لملاحقة هذا السيل الجارف من المعارف فى شتي فروع المعرفة. لابد وأن يلحق بكل كلية مركز متخصص تكون مهمته ترجمة الاعمال التابعة لتخصصه، شرط ألا يكون الهدف منها هو الربح. لن نكون قادرين على سد الفجوة المعرفية بيننا وبين الغرب فى كل المجالات إلا بحركة نشطة للترجمة. ننظر إلى ما فعله هارون الرشيد ومحمد على باشا لكي نتعرف على ما يمكن أن تصنعه الترجمة فى نهضة الأمم. الترجمة الآن فى مصر تقوم على جهود افراد والجهود الفرية وحدها فى مثل حالتنا لاتكفي. والاعمال الكبيرة لا تلقي تشجيعا لدي دور النشر الخاصة التي تهدف إلى الربح وسرعة دوران رأس المال. أما عن المترجم، فحدث ولا حرج. إنه لا يتلقي الحافز المادي الذي يليق بعطائه. ولذا انصرف الكثيرون من المترجمين إلى انشطة اخري تعينهم على تحمل اعباء الحياة. فى العالم العربي هناك طفرة واسعة فى هذا المجال تنهض بها مؤسسات وافراد على حد سواء، فى المغرب العربي، والكويت، ولبنان والعراق وسوريا على الرغم مما يعاني منه العالم العربي الآن من عثرات. لقد ترجم ماركيز وبورخس وساراماجو واونيدتجي، ورشدي وفاولز وكويتزي ويوسا وايتالو كالفينو وآخرون، وفى مجال المسرح ترجم بيكيت ويونسكو وجورج شحادة وكامو وسارتر وارثر ميلر وتنيسي وليامز وبيرانديللو وتشكيوف وإبسن واداموف وتي اس اليوت وغيرهم كثيرون كثيرون، ولا يفوتنا أن ننوه للدور النشط الذي تقوم به سلسلة "مسرحيات عالمية" الكويتية فى هذا المجال. * كيف تري تجربة بعض المترجمين الذي يترجمون بلغة وسيطة؟ ** الترجمة من اللغة الوسيطة فى مجال النقد الادبي أوالنظرية الادبية لا تخسر الكثير فى معظم الاحوال لأن اللغة تكون محددة وحقولها الدلالية موحدة فى آغلب الاحيان. أما الشعر والرواية مثلا، فبالرغم المحاولات الناجة التي قام بها سامي الروبي فى ترجمة اعمال دستويفسكي من الفرنسية، ومع ذلك، تظل الترجمة من اللغة الاصلية هي الاساس شريطة أن يتوفر عليها مترجمون اكفاء. الأعمال النقدية * هل تعتقد أننا نعاني من ندرة فى ترجمة الاعمال النقدية الصادرة فى الغرب؟ ** لا نعاني فى اعتقادي من قلة الاعمال النقدية المترجمة. أما عن تأثير الاعمال النقدية على الحركة الابداعية فالتأثير متبادل بكل تأكيد مع ملاحظة أن المبدع عادة يسبق التنظير ولا يكتب فى الغالب تحت تأثير نظرية ما. الادب على وجه العموم متجاوز للنظريات ورؤية النقاد، والكاتب الروائي اوالشاعر الذي ينطلق فى كتابته من هذه النظرية أو تلك، من رؤية هذا الناقد أو ذاك، كاتب مزيف وفاشل بكل المقاييس، لم يكتب سوفوكليس اوديب بناء على تقعيدات ارسطو فى الدراما ولم يفعل هوميروس نفس الشيء فيما يتعلق بملحمتيه الالياذة والاوديسة، ولم يفعل شعراء الديثرامب نفس الشيء، الابداع حرية، وتحرر حتي من اطر النظريات النقدية ذاتها. يكتب الكتاب ثم يجئ دور النقاد أو المنظر لكي يتأمل ويحلل ويستخلص القواعد المنظمة فى عصر ما أو عند اديب ما أوفى جنس ادبي ما، ثم ما يلبث الابداع أن يثور على هذا كله كما يثور النهر على ضفتيه لكي تنتظمه قواعد اخري واعراف مغايرة، وهكذا دواليك. هذا ماكان عليه الحال منذ ارسطو وحتي جينيت وتودوروف مرورا ببروب وسوريو ونورثروب فراي وآخرون.