يمثل الأديب يوسف الشارونى، حلقة مهمة من حلقات تطور فن القصة المصرية والعربية، فهو أحد مجدديها الرواد، مع الراحل يوسف إدريس، ورغم أن عمره الآن وصل إلى ثمانية وثمانين عامًا إلا أنه مازال يعشق الحياة بقلب طفل، لم تغادره الابتسامة، ولم يفارقه التفاؤل. يرى فى الكتابة سبيلاً للخلاص، وطوقا للنجاة من هموم الحياة المتلاحقة لذا فهو دائم الحضور فى الحياة الثقافية مبدعًا وناقدًا ومعلمًا للأجيال الجديدة، يجرب فى الأنواع الأدبية المختلفة بقدر ما أوتى من موهبة.. يقول الشارونى، عن خلاصة تجربته: "لقد مارست الأدب إبداعًا ونقدًا قرابة نصف القرن، وبقدر ما أعطانى أخذ مني، سعدت به لحظات أشعرتنى أنه من نعم الله يجود بها على بعض عباده، وعانيت بسببه لحظات أخريات أشعرتنى أنه من نقم الله يمتحن بها بعض عباده". والشارونى، الذى ولد فى القاهرة فى 14 أكتوبر 1924 هو أحد أبناء الجيل الاستثنائى فى الثقافة المصرية والذى حمل على عاتقه التغيير فى مفهوم الثقافة ومدارسها الإبداعية والنقدية، تفتح وعيه منذ بداية التحاقه بجامعة فؤاد الأول عام 1941 ليتزامل فيها مع كوكبة من المجددين فى الفكر والإبداع أمثال محمود أمين العالم ود. لطيفة الزيات ود. مصطفى سويف وأمين عزالدين وبدرالديب وغيرهم. وأثناء تلك الفترة تعرف "الشاروني" على "أنور كامل" صاحب البيان الأول فى "السوريالية" العربية، والذى كان يعقد ندوات عن "المادية الجدلية"، وقد تعرض الشارونى بسبب تلمذته لأنور كامل للسجن لمدة ثمانية أشهر فى سجن "قرمدان" بلا محاكمة بتهمة محاولة قلب نظام الحكم، كان ذلك وهو لم يتجاوز السابعة عشر من عمره. وقد استفاد "الشاروني" على مستوى الكتابة من المدرسة السوريالية التى قاد التنظير لها فى مصر رمسيس يونان وجورج حنين وأنور كامل، وعن ذلك يقول: أكثر ما استفدت به من "السوريالية" أننى اتخذتها كقالب من قوالب التمرد، فتأثرت بها فى تمردى على الإبداع التقليدي.. وقد ظهر هذا التمرد جليا بداية من مجموعته القصصية الأولى "العشاق الخمسة" والتى جاءت معبرة عن هواجس نفس مولعة بالتجريب، فقد بدأ فى كتابتها فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، حين كانت مصر بوتقة تنصهر فيها الاتجاهات التحررية على المستوى السياسى والاجتماعى والفكرى أيضا، وتعلى حسب ما قاله النقاد عن قصصه فإن "يوسف الشارونى" يستخدم الحواس الخمس بوصفها مساعدًا فى تلمس المكان المحيط بالحدث القصصى، ووسيلة تجعل من تحليل هذا الحدث إلى عناصره الأولية أمرًا مقبولاً، بل لا يمكن الاستغناء عنه، وهذا ما يدعوه د. أحمد درويش ب "الالتقاط السمعي" و"الالتقاط البصري" حيث يوضح أن كسر حاجز الألفة فى المشهد العادى يتم عن طريق "الاقتراب الشديد أو الابتعاد الشديد، فتتجسد فى الحالتين رؤى قد لا تلتفت إليها أنفاس الحياة اليومية، مع أنها جزء منها". وإذا كانت الكتابة الواقعية التى سادت فى بدايات القصة فى مصر تعتمد على الشخصية النمطية فى السرد، وهى الشخصية التى تظهر دائما لتمثيل دور معين يناسبها وتعرف به كالخادم المخلص والمرأة المستهدة والموظف التقليدى وغيرها من الشخصيات النمطية التى امتلأت بها ؟؟؟ مرحلة ما قبل الأربعينيات من القرن الماضى كما فى قصص محمود تيمور وصلاح ذهنى ومحمد عبدالحليم عبدالله وغيرهم الذين عالجوا الشخصية القصصية من الخارج ولم يتطرقوا إلى الجانب النفسى "الداخلي" لها، فإن يوسف الشارونى قد التفت إلى هذا الجانب وجعله أحد المحاور الرئيسية لإبداعه وعن أهم خصائص هذا المحور يقول الشارونى: إنها تتمثل فى التعبير عن ازدحام اللحظة الواحدة بانفعالات متناقضة، والتعبير عن اغتراب الفرد فى مجتمعه، ووضع الرؤية الفردية فى مواجهة الرؤية الاجتماعية وإعلاء قيمة الفرد فى مواجهة الجماعة وطغيان قيمها، مع الاستعانة بالمنجز الفلسفي". جيل جديد ويؤكد الشارونى، أن هذا الاتجاه لم ينفرد به وحده بل كان هناك جيل بأكمله يسعى نحو التجريب، وقد ظهرت بعض هذه الخصائص فى تجربته ومن هؤلاء بدر الديب فى مجموعته "حرف الحاء" وفتحى غانم فى مجموعته القصصية "سور حديد مدبب" وإدوار الخراط فى مجموعته القصصية الأولى "حيطان عالية". وهى تجارب اعتمدت على الاهتمام بالشكل والمضمون معا دون تنحية أى منهما، فكلاهما فى خدمة الآخر فى عملية تبادلية تخدم النص السردى فى النهاية، كذلك تحطيم الفواصل والحواجز بين الذات والعالم، مع وضع خلفية مكانية تجسر للعلاقة بين العالمين، الذين تقربهما رؤية فلسفية عميقة. ويضرب الشارونى، مثلاً بقصة "دفاع منتصف الليل" والتى كتبها فى نهاية الأربعينيات من القرن الماضى قائلاً: فى هذه القصة أتكلم عن الواقع الداخلى للنفس البشرية أكثر من الواقع الخارجي، من خلال إنسان مطارد يحاول الدفاع عن نفسه فى وجه الظلم، تهمته الوحيدة أنه يريد أن يعيش مطمئنا فى الحياة، فعبرت عما يعانيه هذا الإنسان من خلال الغوص فى تفاصيله الداخلية، وقد عالجت فكرة "الاغتراب" وهى أحد الأفكار الرئيسية فى معظم أعمالى دراميا عن طريق شعور الشخصيات السردية بعدم الطمأنينة وعدم الاستقرار على يقين، فهى شخصيات محبطة وهذا يتفق مع الجو الكابوسى الذى يسيطر على كثير من القصص. ولعل ذلك الهم الإنسانى الداخلى الذى شغل "الشاروني" منذ بواكيره الإبداعية هو الذى جعله؟ "كنا نكتب بحماس، معتقدين أننا سنغير العالم، سنطوره إلى الأفضل، سنضع أطراف أقلامنا على نقاط الضعف فى مجتمعنا، سيجد المطحونون أنفسهم فى سطورنا، وأن القصة وسيلة جماهيرية، والابنة الشرعية لعصر المطبعة". ثقافة موسوعية لذا سعى "الشاروني" جاهدًا لتوسيع ثقافته، وتوسيع رقعة الكتابة أيضا، وهذا ما يلاحظه الرواد محمد جبريل قائلا: "يوسف الشارونى يختلف عمن سواه من كتاب القصة باتساع نظرته الشمولية، فهى تعنى بالمصير الإنساني، الفرد والجماعة، الخاص والعام والقراءة المتأملة لإبداعاته القصصية منذ "العشاق الخمسة" تبين ما يمكن تسميته ب "فلسفة الحياة". ولذلك – أيضًا – نجد كتاباته متنوعة، فبالإضافة إلى مجموعاته القصصية "رسالة إلى امرأة" و"الزحام" و"الكراسى الموسيقية" و"الأم والوحش" و"الضحك حتى البكاء" و"أجداد وأحفاد" نجدها يكتب الرواية مثل روايته الفريدة "الغرق" والتى كتبها عن حادثة غرق العبارة المصرية سالم إكسبريس، ورغم أن اتجاه الرواية – على حد تعبير محمد جبريل – على ما يصح تسميته "التحقيق الروائى" كما أطلق عليها الشارونى فإن تفاصيل الدقائق السبع للكارثة، تبين عن أستاذية الشارونى هذه الدقائق تنبض بأجمل ما فى الفن الروائى من خصائص لغوية وفنية وسردية، حتى الحوار قصير وسريع ومتواتر". تقنيات سردية وقد سألت "الشاروني" عن اتجاهه للكتابة الواقعية فى روايته الوحيدة رغم أن معظم كتاباته السردية تتسم بالرمزية فقال: "أنا لا أحدد لنفسى قبل أن أكتب مذهبًا معينًا، وفى هذه الرواية تحديدا حاولت تسجيل الواقعة عبر ما يمكن أن أسميه برواية الأصوات المتعددة التى تروى الحدث، فالحدث هو الذى فرض على نوع الكتابة". وبالإضافة إلى منجزه السردى نجد له كتابات نقدية وصلت فى مجملها إلى 60 كتابا ما بين النقد الأدبى والرؤى الفكرية والبورتريهات الأدبية. وفى هذا الصدد من الطريف أن نذكر أن "يوسف الشاروني" هو الأديب المصرى الوحيد الذى حصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الأدب مرتين الأولى كانت عام 1970 عن مجموعته القصصية "الزحام" والثانية عام 1978 عن أحد كتبه النقدية، كما أنه حاصل على جائزة الدولة التقديرية عام 2000 و"جائزة العويس" عام 2007. وقد طرق "الشاروني"، باب الشعر لمرة واحدة فى بداياته الأدبية فأصدر ديوانا من الشعر المنثور اسمه "المساء الأخير" عام 1963، والذى يقول عنه "كتبت قصائد هذا الديوان عام 1945، وهو ديوان نثرى تأثرت فيه بالمدرسة السوريالية، وكذلك بتجارب الشعر المنثور التى بدأت تظهر فى تلك الفترة، وإن غلب على تجربتى الطبيعة الرمزية والحوار الداخلى للذات، وأجمل ما فيه أنه جاء معبرًا عن هموم الداخلية وإن غلبت عليه الحالة الرومانسية.