توفيق المدنى يُطْنِبُ الخطاب الرسمي الغربي سواء الأوروبي أو الأمريكي، فى الإشادة بعملية الانتقال الديمقراطي السلمي فى تونس، التي أصبحت مثالاً يُحْتَذَى به فى العالم العربي. ويُؤَكِّدُ استعداد الدول الغربية لفتح شراكة شاملة وطويلة الأمد مع تونس تقوم على ركيزتين: الأولى بدعم العملية السياسية وتشجيع الإصلاحات فى مجال الحكم الرشيد ووضع إطار اقتصادي ملائم للتنمية. والثانية تتمثل بدعوة المؤسسات المالية الدولية المانحة وهيئات الأممالمتحدة المعنية وكذلك القطاع الخاص والمجتمع المدني إلى مساعدة الاقتصاد التونسي للنهوض من جديد. وبرغم أن قمة مجموعة الثماني فى دوفيل الفرنسية 2011، والتي حضرتها كل من تونس ومصر، رست على تكليف الصناديق المالية الدولية (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والبنك الأوروبي للاستثمار، والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، والبنك الإفريقي للتنمية، والبنك الإسلامي للتنمية) والدول الخليجية بتقديم قروض تبلغ حوالى 40 مليار دولار لكل من مصر وتونس، إلا أن الدول الغربية والمؤسسات الدولية المانحة تنكّرت لاحقاً لتعهداتها بإغاثة الاقتصاد التونسي وبتيسير الانتقال الديمقراطي فى البلاد. حصل هذا فى ما يواجه الاقتصاد التونسي منذ سنة 2011 لغاية الآن صدمة الثورة السياسية التي أطاحت بالنظام الديكتاتوري السابق، وصدمة الحرب الدائرة فى ليبيا، التي كان لاستمرارها تداعيات مباشرة على حياة التونسيين. إذ لا يزال الاقتصاد التونسي يعاني من مشكلة البطالة، حيث يوجد ما يقارب السبعين ألف عاطل عن العمل، منهم 250 ألفاً من حاملي الشهادات الجامعية. كما يعاني الاقتصاد التونسي من تراجع قطاع السياحة بشكل كبير (نحو 40 فى المئة منذ سقوط الديكتاتورية)، علماً أن هذا القطاع يمثل 8 فى المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ويوفر ما يقارب 45000 من الوظائف المباشرة وغير المباشرة. ولم يعد سراً ما تمرّ به تونس حالياً من أزمة اقتصادية خانقة تمثلت فى زيادة العجز فى الميزان التجاري الذي بلغ مستوىً قياسياً خلال سنة 2016، وتدنٍّ فى معدل النمو الذي لم يتجاوز نسبة 1.4 فى المئة، علماً أن ديون تونس بلغت فى سنة 2016 نحو 56 مليار دينار (حوالي 23 مليار دولار)، ما يعادل 62 فى المئة من الناتج المحلّي الخام. وتزامناً مع كل ذلك، تشهد تونس تباطؤاً فى عملية الاستثمار الأجنبي فى المشاريع المنتجة. فى عهد نظام بن علي، فشل برنامج الإصلاح الهيكلي وما تبعه من سياسات اقتصاديّة انفتاحيّة فى تحقيق تنمية حقيقية، فحَوَّلَ تونس إلى مجرّد خزّانٍ للعمالة الرخيصة لفائدة أنشطة المناولة الأوروبية ذات القيمة المضافة المتدنية. وفى مرحلة ما بعد الثورة، انتهجت الحكومات الثماني السياسات نفسها بضغط من مجموعة السبعة والاتحاد الاوروبي، وأُخْضِعَتْ تونس مجدَّدًا منذ 2013 للبرامج والقروض المشروطة لصندوق النقد الدولي، ما زاد فى تعميق الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد. وبرغم أن تونس وقّعت العام الماضي على مذكرة الشراكة الاستراتيجية بعيدة المدى مع الولاياتالمتحدة فى المجالات الاقتصادية والتربوية والثقافية والأمنية والدفاعية، فإن ما كان يهمّ أمريكا من تونس هو منحها قاعدة عسكرية على أراضيها، لا سيما بعدما رفضت الجزائر هذا الطلب الأمريكي. وإذا كان الخطاب الأمريكي يطنب فى الحديث عن التجربة الديمقراطية فى تونس، بوصفها التجربة الناجحة الوحيدة فى بلدان ما يُسمّى «الربيع العربي»، فإن الولاياتالمتحدة تريد أن تطبق القانون التجاري مع تونس، والذي يندرج ضمن سياسة الولاياتالمتحدة الجديدة فى إفريقيا، التي تعتمد على المشاركة لا على المساعدة (trade not aid) وعلى إزالة الحواجز الجمركية الأمريكية عن صادرات تونس، كما يفتح تونس للاستثمارات الأمريكية شريطة أن تخضع لتوجيهات صندوق النقد الدولي. إذا أرادت حكومة يوسف الشاهد، التي تشكلت مؤخراً أن تكون حكومة وحدة وطنية حقيقية، فعليها أن تبلور استراتيجية وطنية تقوم على رفض الوصاية الغربية، والوقوف بحزم ضد التدخل الأجنبي فى شئون تونس، لا سيما لناحية تعبير الحكومة الجديدة عن موقف وطني قوي فى ملف التفاوض مع الاتحاد الأوربي بخصوص ما يُعرَف بمشروع اتفاقية «أليكا» المتعلقة بتحرير الخدمات مع تونس، والتي كانت موضع انتقادات واسعة من قبل كثير من الخبراء والمنظمات الوطنية، حيث اعتبرت مهدّدة لقطاعي الخدمات والفلاحة، ومقيدة للسيادة الوطنية. وكان عدد من منظمات المجتمع المدني فى تونس انتقد حكومة الحبيب الصيد السابقة عندما بدأت المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حول «الأليكا»، بسبب موقف الحكومة التونسية الضعيف الذي لم يراع خصوصيات المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها البلاد والتي تتميز أساساً بهشاشة الاقتصاد الوطني وضعف تنافسية جل القطاعات. بل على النقيض من ذلك، عمل الاتحاد الأوروبي على إغراق تونس بديون جديدة، وهو الآن يبحث عن مصالحه التجارية قبل كل شيء، ويعتبر تونس سوقًا استهلاكية وخزانًا لليد العاملة الرخيصة. نقلا عن السفير