انفردت قسمت هانم بالمشهد وصمت لها المشهد، واحتبست أنفاس نازلي، ابنتها، وأنفاسنا كمشاهدين فى الحلقة الرابعة والعشرين من (جراند أوتيل). حالة من السيادة التي تليق بمونولوج مسرحي مهيب قلما يُتاح لدراما تليفزيزنية، حتى كان جلوسها إيذاناً بانتهاء المشهد. هذه طريقتها فى إعلان انتهاء اللقاء وفصل الخطاب. "انتي اللي ظالمة أكتر من أبوكي. لكن أنا مش حاتكسر ولا حاتهزم ومش حاتنازل عن حقي. " تتلعثم نازلي باحثة عن كلمات هاربة من هول هذا الإعصار الأدائي، والكشف غير المتوقع عن ألم عميق الغور تعاظم وجوده بأداء يتعالى عليه. " أنا ما قصدتش ... كل الوجع ده". فيما ترد قسمت هانم، وقد جلست بخيلاء، وقد حل محل العيون اليقظة المتنمرة عيون غائمة فى سنوات عذاب وصوت مطعون الكرامة طازج الألم : "وجع ... أنا مش موجوعة. أنا ست من إزاز ... ما باحسش". دقة التفاصيل وتأتي لحظة ارتباكي وتلعثمي فى التلقي. تصريح بهذا التشبيه فى لحظة نادرة من الإفلات الشعوري الذي يبدو أنه خان كبرياءها. مناقضة صارخة ومفارقة أدائية ليست من إزاز، بل من ماس. لكنَّ لهذه الجملة وقعاً غريباً عندما تأتي مباشرةً بعد إعلانها أنها لن ‘تُكسر'، ولها صدى له ماضٍ وذكرى. قادني صداها إلى (الحيوانات الزجاجية) لتنسي وليامز حيث يبقى من تلك المسرحية هذة الصورة الرمزية للكائنات الزجاجية القابلة للكسر. تبدو صلبة لكنها معرضة للتهشم. وبدا لي انعكاس الصورة فى الطريقة التي حملت بها أنوشكا جسدها مترفعةً، هذه الرشاقة والأناقة فى اللفتة والإيماءة كأنها ممتنعة عن اللمس، فما بالك بأي حركة تتسم بالعنف. انعكست فى دقة التفاصيل الحركية حيث تتوتر بأناملها، وتطرب كذلك لنبوغ تآمرها كأنها تعزف، وترتدي قطع الاكسسوار التي تضوي على ملبسها وفى أذنيها أقراطاً لافتة. هذه الدانتلية المفرطة التي تمثل لها سلاحاً تواجه به العالم وتتضاعف العناية به فى أقصى لحظات الضعف والتهديد. أما الوقع الغريب لتجاهلها أن الزجاج يُكسر، وكذلك عمق الجرح حين يفيض الشعور به، فقد قادني إلى خاصية جوهرية فى شخص قسمت قد تكون أنوشكا بنت عليها جبروتها الأدائي وهي خاصية الإنكار، حتى وإن بطنتها سخرية. فهي تقيم كامل كبريائها وسلطتها وتربعها على عرش الجراند أوتيل على أساسٍ هش من إنكار الواقع، الواقع التاريخي لحب زوجها للخادمة، وما أسفر عنه من نتاج مادي تمثَّل فى أمين الوريث الشرعي الأكبر للجراند أوتيل، مما يؤدي فى النهاية إلى إنكارها العالم الذي يتغير من حولها والتحولات التي تهدد عرشها مما يُحتم زواله وهزيمتها. ولآخر لحظة يتحفها المؤلف تامر حبيب بجملة خاطفة معبرة عن طبيعة إدراكها للواقع تلك عندما تغمض عينيها فى حضور الملّاك الجدد من طاقم الخدم السابق، وهي تقول : " كابوس وحاصحى منه "! رأس الحية تستدعى أنوشكا، بطاقة ملكية جو مؤامرات القصور، وتتراءى فى المخيلة نماذج درامية من التآمر من مثل السيدة ماكبث، حيث شهوة الملك والقدرة على الدفع بالقتل والتورط فيه، ونموذج المرأة المضاد للأمومة، وبذور الضعف الكامنة حد الإغماء. فى لحظات قوتها أو التهديد الذي يستفزها للدفاع تبدو قادرة على القتل بالكلمات. ففى مواجهتها للخادمة – ورد – حين تريد الأخيرة أن تتنصل من اتفاقها بتسليمها الوليد المرتقب، بدم بارد تنفث سمها حيث التراجع "لا يمحوه إلا الدم". كأنها ‘رأس الحية' حقاً. تجنح العينان، ويفح الصوت فى مساحة ضيقة حتى لتكاد الأسنان فى جزها تبرز أنياباً. تتحد أصداء الصور والنماذج الدرامية الموحية وتتلون مرجعيتها فى شخص قسمت، بحيث يفقد الزجاج رقته والتماعه ويكشف عن مفارقة رخصه فى أوقات، ويبدو كذلك وجودها فى قاع الفندق تجرجر جثة مستحيلاً لرقة أناملها. كانت أنوشكا مستعدة لتلك القفزة الأدائية ولجلاء انعكاسات الشخصية بتركيز طاغٍ فى المشهد الواحد وعبر المسلسل كله، وبلياقة حواسها وأدواتها التعبيرية الشافة. فى اللحظة الأخيرة، تعترف بهشاشتها وطبيعتها الزجاجية القابلة للكسر وتترفق بنفسها، وتميل على جانب الأريكة لتخرج نهائيا من الصورة التي كانت مركزها ومناط ضوئها الباهر وفى إيحاء بانفصال نهائي عن الواقع الجديد.