لم يكن حكماً قضائياً فقط.. وان كان قاضياً محترماً قد أصدره في محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية بل انه مبحث علمي رائع في تجديد الخطاب الديني.. الحكم التاريخي الذي أصدرته محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية برئاسة المستشار الدكتور محمد عبدالوهاب خفاجي نائب رئيس مجلس الدولة هو نقطة الالتقاء بين كل الأفكار التي تعرضت لقضية تجديد الخطاب الديني باعتبار الدعوة الإسلامية كما قال الحكم نفسه دعوة ملهمة لتطهير الروح والعقل والنفس والوجدان ضد التكفير والتعصب المذهبي والطائفي والعنف الدموي ومحاولات تلويث ساحة الافتاء. حددت المحكمة في حكم رائع وهذا ليس من قبيل التعليق علي أحكام القضاء حتي ولو بالإيجاب بل إبراز لروعة الحكم ومعانيه حددت تسعة مباديء أساسية علي المتصدي للتجديد ان يهتم بها وينتبه إليها. برغم ان الحكم كان يتعلق بقضية مرفوعة ضد وزير الأوقاف لامتناعه عن تجديد تصريح الخطابة لأحد المنتمين إلي التيارات الدينية بمحافظة البحيرة ورأت المحكمة ان القرار السلبي للوزير يعد من قبيل السلطة التقديرية المعقودة لوزير الأوقاف إلا أن المحكمة برؤية ثاقبة رأتها فرصة لتضع النقاط فوق حروف تلك القضية الساخنة بل أزعم ان القاضي الدكتور المستشار خفاجي نجح في ان يحدد الكثير من أزمات تلك القضية وكيفية الخروج من هذه الأزمات. ولعل أهم هذه المباديء الأساسية والركائز التي نبه إليها الحكم هي الاهتمام بالتكنولوجيا الحديثة خاصة شبكة المعلومات الدولية "الإنترنت" التي أصبحت لغة العصر والتأثير السحري لوسائل الاتصال الحديثة والتي أثرت سلباً علي دور الأسرة في إصلاح الأبناء كما أكد علي ضرورة ان يكون التجديد بمواجهة الفكر بالفكر بلا سلطة أو قداسة للأزهر بين العلماء وساحة التداول.. إلي جانب دور الأوقاف المهم باعتبارها مركز تبليغ الناس بأصول الدين الوسطي والعمود الفقري القادر علي أن ينهض بالقيام بمهمة التجديد علي خير وجه. أكد في مبدأ أساسي اتفق عليه الجميع في ان التجديد يجب ان يعتمد علي الاعتدال ووسطية المنهج وان يكون موافقا للقلوب والعقول وان يتسم بالتنوع لكافة فئات المجتمع فلا يقتصر علي فئة دون أخري وان يبتعد عن الجمود ويميل إلي الإبداع ويتسم بالتسامح تأكيداً لمعني الرحمة التي تحمي ولا تهدد وتصون ولا تبدد.. مؤكداً في مبدأ أساسي علي ان الإسلام يدعو إلي السلام في الأرض لأنه دين خير وسلام وليس دين عنف أو عدوان وان تكون مواجهة الفكر بالفكر والحكمة والموعظة الحسنة وان يدعو إلي الوحدة وليس إلي التفرق. وفي مبدأ مهم جداً في قضية التجديد أشار الحكم إلي أن تجديد الخطاب يجب ان يقتصر علي الفروع دون ثوابت الدين.. وقال: الدين عقيدة لكل إنسان وعلم مقصور علي العلماء واحتكارهم لتجديد الخطاب الديني لا يعني انغلاقهم عن المجتمع لأنه لا قداسة في الإسلام وان التجديد يقتضي إعادة فهم النصوص علي ضوء واقع الحياة وما تستحدثه البيئة المعاصرة بحيث تتناسب مع روح التطور وهي سنة الحياة.. فلا تظل قابعة في البيئة التي صدرت بها عند نزول الوحي.. ولكن مع عدم المساس بثوابت الدين نفسه في نصوص قطعية الثبوت وقطعية الدلالة أي التأكيد علي أن التجديد يجب ان يكون في الفروع فقط. أشار الحكم في رؤية رائعة وثاقبة إلي أن الدين عقيدة وعلم.. وقال بالنص: ينبغي التأكيد علي جوهر المشكلة ان الدين عقيدة وعلم .. عقيدة لكل إنسان في قرارة ذاته.. وعلم لتبيان أحكامه للناس خارج نطاق النفس ومنه يتفرع العديد من العلوم الشرعية له مناهجه في البحث وأساليبه في العرض وطرائقه في الدراسة وليس للعوام أو غير المتخصصين أو الجهلاء أو المغرضين الافتاء فيه.. علي ان احتكار تجديد الخطاب الديني بين العلماء المتخصصين في علوم الدين بالأزهر الشريف وعلماء الأوقاف لا يعني انغلاقهم عن المجتمع فلا قداسة في الإسلام ولا عصمة لأحد إلا للرسول الكريم صلي الله عليه وسلم فيما يبلغ به عن ربه .. وقد شقي المسلمون بالفرقة سنوات طوال بسبب هذا الانغلاق كما انه لا يعني في ذات الوقت ان يتصدي للفتوي في مجال التجديد من غير المتخصصين أو ممن ينقصهم اتقان التخصص فإنه ليس بأهل للفتوي ولا يجوز له ذلك لما يترتب علي ذلك من مآس دينية ودنيوية أو الإساءة إلي الإسلام وتشويه صورة المسلمين بين مختلف الشعوب. واهتم الدكتور المستشار في مبحثه المميز بمفهوم "الوطن".. وطالب بأن يهتم التجديد بمعالجة هذا المفهوم في ضوء حقيقة مفهوم الفكر السياسي الإسلامي وهي المعضلة الشائكة في وجهة نظره وكذلك ان يكون التجديد عالمياً أي يتعدي حدود الأقطار الإسلامية لأن الإرهاب بلا وطن .. وحتي ينكشف للأمة في أراد بها سوءاً. وعلي ذلك فإن التجديد يجب ألا يقتصر علي الدول الإسلامية وحدها بل يجب ان يتعدي حدود أقطارها إلي خارجها.. ويجب ألا يغيب عن بال الأمة الإسلامية والعربية أن الجماعات المتطرفة ليست مارقة عن الدين فحسب بل هي أيضاً فصائل إرهابية بنهج منظم تتخذ من الدين ستاراً يلبسون به إرهابهم لصالح الصهيونية العالمية للإساءة إلي الإسلام من ناحية وكوسيلة مستجدة من أساليب الاستعمار عن طريق الوكالة لصالح بعض الدول الكبري ذات الفكر الاستعماري من ناحية أخري بعد ان أصبح الاستعمار بصورته التقليدية غير مناسب لروح العصر.. لذلك أكد القاضي المستشار خفاجي انه إذا لم تتحد الدول الإسلامية والعربية خاصة الدول الخليجية مع مصر في العمل علي تجديد الخطاب الديني والاصطفاف معها فسوف ينالها لا محالة قدر من هذا التطرف والإرهاب. في مواجهة صادقة للنفس وللواقع أشار الحكم إلي ان الواقع كشف عن ثمة تقصير في مناقشة الشباب واحتوائهم ولذلك طالب بمواجهة الفكر بالفكر خاصة مع شباب الأمة حيث إن التاريخ أكد ان المذاهب المتشددة لم تنجح أبدا في اختراق مصر علي مر تاريخها بسبب تشرب علمائها الأجلاء من منهج الاعتدال لذلك بات دور الأزهر الشريف كهيئة إسلامية علمية مستقلة.. ودور وزارة الأوقاف المشرفة علي المساجد والزوايا وهي أخطر وأهم وسائل التجديد.. بات دورهما ومسئوليتهما عن التجديد خطيرة لأنهما الحصن المنيع لرد كل معتد أثيم علي الإسلام. في إشارة إلي وزير الأوقاف د. محمد مختار جمعة قال القاضي ان الوزارة يقوم علي قيادتها الحالية عقلية منهجية متجددة تعمل علي إحياء التقاليد الراسخة والمتوارثة والتجديد فيها بما يلائم روح العصر لتقديم صحيح الدين.. مشيراً إلي أن الأزهر والأوقاف يمثلان العمود الفقري القادر علي ان ينهض بالقيام بمهمة التجديد علي خير وجه. ** ويتوقف قاضينا الفقيه القانوني عند قضية بالغة الأهمية وهي ان التجديد يجب ان يعتمد علي ان الدين ليس للعبادة فحسب وإنما أيضاً المعاملة.. فالدين يرتبط بالمعاملة ويتصل بالحياة الدنيا كارتباطه بالآخرة ويجب ان يتناول تجديد الخطاب الديني كافة مظاهر الحياة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والثقافية والحضارية وهذا هو الفهم الصائب المتصل بطبيعة الدين الإسلامي وان التجديد ايضاً ليس تجديداً للدين ذاته حاشا لله بل في الفكر المرتبط بتطور الحياة وان الاجتهاد باعتباره احدي وسائل التجديد أو ثابتاً في الشريعة الإسلامية بل أحد مصادرها. وفي ختام مبحثه أكد القاضي في حيثيات حكمه علي ضرورة اشتراك الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف في نشر النشاط الدعوي للإسلام المستنير دون ان يستأثر به أحدهما دون الآخر وان كليهما أصبحا جناحي الرحي في نشر أصول الدين.