شغل الصحابي الجليل أبو هريرة "رضي الله عنه" مساحة كبيرة من تفكير الكثير من المسلمين وغير المسلمين - مستشرقين ومستغربين وعلمانيين وحاقدين وجاهلين - إما احتراماً وتقديراً وحباً. وإما بغضاً وإساءة وحقداً. وفي الحالتين ظل الصحابي الجليل أبا هريرة هو هو. يزيد به شرفاً وتيهًا من يذكر علمه. ويسفه نفسه ويتضاءل أمامه من يذكره بسوء أو نقيصة. فقال المنصفون قديماً: أنه الراوي والمحدث والحافظ والإمام والفقيه. وقالوا حديثاً: أنه أسد السنة النبوية وحامي حماها وعمودها الفقري. وقال الحاقدون علي الإسلام: كيف يروي أكثر ما رواه الخلفاء الراشدون من السنة مع أنه مكث مع النبي "صلي الله عليه وسلم" عدة سنوات تعد علي أصابع اليد الواحدة. وكان لا يقرأ ولا يكتب؟ ثم خرج علينا هذه الأيام الأستاذ إبراهيم عيسي - والكل يعلم من هو إبراهيم عيسي - فقال بلغة التشكيك والتهكم: ما الذي يجعل أبا هريرة الراوي الأول والعمود الفقري في رواية الأحاديث النبوية؟ لابد أن في الأمر أمراً؟ ثم يسأل باستهزاء فيقول: لكن من هو أبو هريرة أولاً؟ وكيف أسلم ومتي؟ ثم قال: إن الغموض يتكدس في حياة أبي هريرة منذ البداية. فمن المحسوم أنه لم يلحق بالنبي إلا قبيل وفاته بقليل؟ أي كيف يروي عن النبي "صلي الله عليه وسلم" أكثر مما رواه العشرة المبشرون بالجنة مع أنه لزم النبي أربع سنوات فقط؟. الإجابة علي هذه الفرية تتلخص في عدة نقاط: أهمها أن أبا هريرة أحد معجزات النبوة» والنبي دعا له بعلم لا ينسي» وجرأته في السؤال عما لا يعرفه ليتعلمه» ومدارسته للحديث مع الغير. ومذاكرته له بالليل والناس نيام» وأبو هريرة لم يكن بدعاً من الحفظة فهذه من شيم العرب» فأبو بكر كان يحفظ انساب قريش وانساب العرب» والنابغة الزيباني كان يحفظ ألاف القصائد من شعر المعلقات في العصر الجاهلي» وكان الإمام البخاري يحفظ ثلاثمائة ألف حديث» والإمام أحمد كان يحفظ ستمائة ألف حديث» والإمام أبو زرعه الرازي كان يحفظ سبعمائة ألف حديث» والأصمعي كان يحفظ خمسة عشر ألف أرجوزة من أرجوزات العرب غير الشعر والنثر» وفي العصر الحديث كان العلامة الشنقيطي رحمه الله يحفظ الشعر الجاهلي كله وشعر أبي العلاء المعري كله »وأملي علي الشيخ طاهر الجزائري كتاب: "الوسيط في تراجم علماء وأدباء شنقيط. أي موريتانيا" : من ذاكرته وحفظه» وكان الشيخ أحمد محمد شاكر يحفظ سنن الترمذي كلها بسندها وعددها خمسة آلاف حديث غير قصائد الشعر العربي وحفظه للقرآن الكريم. والدكتور أحمد عمر هاشم يحفظ أكثر من خمسة آلاف حديث بأسانيدها وشروحها. ولو نظرنا بعين الحق والإنصاف لأدركنا وعلمنا أن ما رواه أبو هريرة من حفظه لا يثير العجب ! ولا يحتاج إلي كل هذا الشغب الذي اصطنعه أعداء الدين الإسلامي والمشككين والحاقدين وغيرهم» والحقيقة أن سبب تطاول هؤلاء علي أبي هريرة غياب العلماء الربانيين عن ساحة التعليم وبيان فضائل أصحاب سيد المرسلين صلي الله عليه وسلم» وأصبحنا في موقف المدافعين وخلاصة القول: إذا عرف السبب بطلَ العجب. وهذه الأسباب التي جعلت من أبي هريرة الراوي الأول والعمود الفقري للأحاديث النبوية؟ وتتلخص فيما يلي: 1- قوة حفظ أبي هريرة أحد معجزات النبي صلي الله عليه وسلم: والشاهد علي ذلك أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يحدث أصحابه يوماً فقال: "من يبسط ثوبه حتي أقضي مقالتي ثم يقبضه إليه. فلن ينسي شيئاً سمع مني أبداً" ففعل أبو هريرة. ثم قال: والذي بعثه بالحق ما نسيت شيئاً سمعته منه صلي الله عليه وسلم "البخاري "2047" ومسلم "2492"". وعندما جاءت الغنائم إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم قال أبو هريرة: "قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟ قلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله تعالي. فنزع نمرة علي ظهري - أي عباءة - فبسطها بيني وبينه. فحدثني حتي إذا استوعبت حديثه قال: اجمعها فصرها إليك. فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدثني" "الحلية "1/ 381" وتذكره الحفاظ 1/ 33". 2- تأمين النبي صلي الله عليه وسلم علي دعاء أبي هريرة بعلم لا ينسي: روي زيد بن ثابت أنه كان في المسجد هو وأبو هريرة وفلان. فخرج علينا رسول الله صلي الله عليه وسلم ونحن ندعو ونذكر الله. فجلس إلينا فسكتنا فقال: عودوا للذي كنتم عليه. فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة. فجعل رسول الله يؤمن. ثم دعا أبو هريرة فقال: "اللهم إني أسألك ما سألك صاحباي هذان وأسألك علماً لا ينسي» فقال النبي صلي الله عليه وسلم أمين" فقلنا: يا رسول الله ونحن نسأل الله علماً لا ينسي. فقال "سبقكما الغلام الدوسي" أي أبي هريرة "رواه الحاكم "6158"". فقد دعا النبي "صلي الله عليه وسلم" لابن عباس بالتفقه في الدين ويعلمه التأويل. ودعا لأنس بن مالك بالبركة في المال والأولاد وقد تحقق ذلك. فأصبح ابن عباس حبر الأمة. وعاش أنس حتي رأي من أولاده مائة ولد وكثر ماله. فما العجب في أن أصبح أبو هريرة راوي الإسلام الأول لأحاديث رسول الله وعمودها وسيد الحفاظ؟!! 3- حرص أبو هريرة علي طلب العلم فكان يسأل النبي صلي الله عليه وسلم عما لا يعرفه: قال أبي بن كعب "رضي الله عنه": "إن أبا هريرة كان جريئاً علي أن يسأل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره". وقال طلحة الخير: "أما أن يكون أبو هريرة سمع ما لم نسمع فلا نشك في ذلك. إنا كنا أهل بيوتات وغنم فكنا نأتي رسول الله طرفي النهار. وكان أبو هريرة مسكيناً ضيفاً علي رسول الله يده مع يده. فلا نشك أنه سمع ما لم نسمع" "سير أعلام النبلاء 4/ 174"". وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم يجيبه عما يسأل عنه لما عرف من حرصه علي طلب العلم وقوة حفظه وحدة ذاكرته. . والشاهد علي ذلك: ما رواه البخاري في باب الحرص علي الحديث برقم "99". عن أبي هريرة قال : قلت: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: لقد ظننت يا أبا هريرة أن يسألني عن هذا الحديث أحد أولَ منك لما رأيت من حرصك علي الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه". 4- مداومة أبي هريرة علي مذاكرة الأحاديث كل ليلة: كان أبو هريرة يحدث بالنهار بالأحاديث النبوية ويذاكرها ويراجعها بالليل حتي لا ينسي منها شيئا. كما روي الدارمي في سننه "1/ 82" بسنده عن أبي هريرة قال: "جزأت الليل ثلاثة أجزاء ثلثاً أصلي. وثلثاً أنام. وثلثاً أذكر فيه حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم". 5- وهذه إجابة أبي هريرة عندما سئل نفس السؤال الذي يسأله الأستاذ إبراهيم عيسي الآن؟ عن كثرة الرواية عن رسول الله صلي الله عليه وسلم وأنه أول الرواة لأحاديث رسول الله وعمودها الفقري: فقال أبو هريرة إن أصحابي من المهاجرين والأنصار كانت تشغلهم أرضهم والقيام عليها. وإني كنت امرئ مسكيناً ألزم رسول الله صلي الله عليه وسلم علي ملء بطني. فأحضر إذا غابوا. وأحفظ إذا نسوا. ثم ذكر قصة النمرة السابقة الذكر ودعاء النبي له. ثم قال: والله ما نسيت شيئاً بعد أن سمعته منه. "أحمد "7233". والحلية "1/ 338". وطبقات ابن سعد "4/ 56"".