كلما تذكرت أمي رحمها الله. وأحسن إليها. وجعلها في عليين مع الصديقين والشهداء كلما تذكرتها تدمع العين. ويرق القلب. وترفرف في أعماقي نغمات الحب والحنان. سهرت ليالي طوال متلهفة علينا نحن الخمسة أبناء إذا ما ألمت بأحد منا مشكلة أو أصابه مكروه. بعد وفاة والدي رحمه الله. كانت هي الأب والأم. وهي الرحمة والمحبة. لم تفرق رحمها الله بين كبير وصغير في مرحلة التعليم. كان أمامي وشقيقي وشقيقتي الصُغيرين طريق طويل يحتاج جهداً وانفاقاً ورعاية تفوق قدرتها. تعاون معها شقيقي الأكبر رحمه الله والذي لم يرزق بأولاد. وهي الأم التي لم تخرج من بيتها إلا لزيارة مريض أو مريضة من أقارب أبي أو أقاربها. لا خبرة لها بمعترك الحياة. وقت فراغها كله يدور حول سماع آيات الذكر الحكيم من المذياع. تعرف مواعيد القراءة واليوم المخصص لكل قاريء: الشيخ مصطفي إسماعيل مساء الجمعة في إذاعة القاهرة. ومساء السبت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد. وهكذا.. تعرف مواعيد القراء في باقي الإذاعات. وخاصة صوت العرب. كانت إذاعة القرآن الكريم لم تنشأ بعد كما تحرص علي سماع نشرات الأخبار والنشرة الجوية. وهذا هو عالمها. حين أنشئت إذاعة القرآن الكريم. أصبح مؤشر مذياعها الخاص بها ثابت علي هذه الإذاعة. ومع تطورها في التعليق علي الآيات. ونقل الدروس الدينية لكبار العلماء حصلت أمي علي معلومات دينية متعددة ومتنوعة. كانت رحمها الله من الذكاء ما جعلها تحفظ كثيراً من آيات الله وأحاديث الرسول صلي الله عليه وسلم وأحاديث العلماء. وما تحفظه تلقيه علي آذان نساء العائلة وصديقاتها اللواتي يترددن عليها في زيارات شبه أسبوعية إن لم تكن يومية.. تقطع عليهن رغباتهن في الحديث عن فلانة وعلانة بحديثها إليهن بما سمعته من إذاعة القرآن الكريم. بغرض صرفهن عن حديث لا طائل من ورائه سوي النميمية والحكايات عما ذهب وعما آتي. وهكذا بلا فائدة كعادة أغلب النساء. مجلسها كله يملؤه الحديث عن الرسول والصحابة وعن القرآن الكريم وأحاديث سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم.. متعها الله بذاكرة حافظة. وحسن عرض ما لديها من معلومات إسلامية. لا تملك سيدة تجالسها إلا أن تستمع إليها وتسعد بحديثها.. رحمها الله. كانت حريصة دائماً علي ألا تستمع لواحدة من النساء تتحدث عن أخري في غيابها. نصحت قريبة لنا أصابتها لعنة نقل الأخبار من مكان لآخر. ومن امرأة لأخري. مما أحدث انشقاقاً بين بعض أبناء العائلة ونسائها نصحتها بأن تشبع هوايتها تلك إذا لم تتمكن من خلعها بأن تقف أمام حائط أو مرآة وتتحدث عما يجيش بصدرها من أسرار تقلق صمتها وتلح علي لسانها بالقول الذي يحدث بلبلة بين الناس. سمعتها تنصحها بذلك. وأضافت: "يا بنيتي. طالما أنت عاشقة لنقل ما تسمعينه أو تشاهدينه. اشبعي رغبتك هذه بعيداً عن آذان أصحاب الشأن. وحين تكونين في مكان لا يراك أحد. أنظري إلي مرآة أو حائط وحدثي أياً منهما بكل ما تودين قوله. وبذلك تتحاشين إيذاء الناس وإيذاء نفسك. وتشبعين رغبتك في ذات الوقت". حيلة طرأت علي ذهنها في بساطتها كانت مفيدة نفسياً. إذ أن هذه السيدة لقاطة الحصي امتنعت عما كان فيها من داء نقل الأخبار والأحاديث. وانطفأت الفتنة في وسط العائلة. كانت صلتها بربها سبحانه وتعالي مسار حديثنا دائماً. إذا تكاسل أي منا عن أداء الصلاة. تمتنع عن تناول الطعام معه حتي يؤدي ما عليه من فروض لعلمها بحرصنا علي إرضائها بكافة الوسائل. تشعر بسعادة لا حدود لها إذا عاونت محتاجاً أو أعانت مريضاً علي تكاليف علاجه بقدر ما تستطيع. وبما هو متاح لها.. سعادتها أيضاً في أن تطعم مسكيناً بما يخصها من طعام تحتفظ به دون أن نراها لتعطيه لامرأة كانت تتردد علينا لتقضي لأمي طلباتها. وتعاونها في المنزل. وحين اكتشف أحدنا هذا الأمر. بررت ذلك بأن ما يخصها شبعت منذ سنين طويلة. فلا أقل من أن تطعمها لتلك السيدة وأبنائها الصغار. أذكر يوم أن جُند أخي الأصغر قبل حرب أكتوبر بقليل. شعرت بالقلق والخوف عليه. ودعت الله ليل نهار أن تنتهي المشكلة دون حرب.. ويوم السادس من أكتوبر في الصباح. شعرت بثقل في السمع. لا تسمع من حولها. والمذهل انها كانت تسمع صوت الأذان والقرآن الكريم. ولا تسمع غير ذلك. وكان هذا محل تعليق كل من له صلة بنا.. تنتهي الحرب بالنصر العظيم فيعود السمع تماماً دون علاج. وكان ذلك رحمة من الله لها. وصوناً من القلق والرعب المحتمل من أم لغياب ابنها في الحرب. أنار الله طريقها. وكشف له الخير كله.. زارني أحد معارفي لأول مرة. رأته وهو يدلف إلي حجرة الاستقبال. فإذا بها بعد انصرافه تسألني عنه. وبعد اجابتي قالت: "مش ضروري الصداقة مع هذا الرجل". وتمر الأيام وأعلم ممن يعرفونني وهذا الصديق أن هذا الشخص صفع أباه بكفه علي وجهه جزاء لما ظنه الابن انه تعدي علي ما يخصه. ويتبرأ من أهله لفقرهم. وهجر منزل العائلة ليعيش بعيداً عن أهله الذين لم يعودوا مناسبين له وهو صاحب المركز الاجتماعي المرموق. وفي يوم آخر. زارني أحد الزملاء الأفاضل فخاطبتني بعد انصرافه وطلبت مني التمسك بصداقة هذا الرجل ولا أبعد عنه. وكان رحمه الله من أفضل ما عرفت في الهيئة القضائية. وأوضحهم وأحسنهم خلقاً. يتميز بالاجتهاد والاخلاص في العمل. ووثيق الصلة بفضيلة الامام محمد خليل الخطيب القطب الكبير رضي الله عنه. كانت رحمها الله تتحمل أعباء الحياة برضا وشكر دائم لله سبحانه وتعالي. وتدعو لكل منا بدعاء جميل: تدعو لشقيقي الأبر بمحبة خلق الله له. وتدعو لي أن تكون سعادتي من لساني. وتدعو لأخي الأصغر بأن يبارك الله له فيما بين يديه. يشاء الله ان أخي الأكبر رحمه الله رحمة واسعة نال حب كل من يراه. ويتعلق به كل من يتعرف عليه حتي ان بعض الناس المحبين له تسعي إليه لتطمئن عليه. ولمجرد السلام. وبعد وفاته يتحدث عنه أولادي لأصدقائهم ذاكرين خلقه وعاطفته وحنانه علي كل من حوله فيأسف من يسمعهم لعدم لقائه في حياته والتعرف عليه. ويبعثون له الدعاء بالرحمة والمغفرة. وكان من حظ أخي الأصغر أن يحصل علي بكالوريوس تجارة ودبلومين بعد التخرج كما يحصل علي دبلوم التخصص في الخط العربي والتذهيب. ويكون ترتيبه الأول علي الجمهورية في سنه تخرجه. وذي موهبة رائعة في فن الخط الكوفي علي وجه الخصوص. يصمم لوحات قرآنية وينال شهرة لا بأس بها في هذا النشاط. ويصل في عمله الوظيفي إلي درجة المدير العام في مجال المحاسبة. أما كاتب هذه السطور فإني أظن ان عمل القاضي من أشرف الأعمال وأفضلها تقرباً إلي الله حين ينطق بالعدل. وسعادتي بعملي لا يضاهيها سعادة والحمد لله أولاً وأخيراً. يوم وفاتها رحمها الله بكاها جمع غفير من الناس. وكان يوم امتلأ بالدعاء لها وذكر محاسنها الإنسانية التي ملأت حياتها.... من بركاتها انها بشرتني في الرؤيا بميلاد أحمد ابني وميلاد ولديْ شقيقتي الذين جاءوا إلي الدنيا خلال أسبوعين. نذكرها دائماً كلما قُريء القرآن.. حين نستمع إلي صوت الشيخ مصطفي إسماعيل والشيخ عبدالباسط عبدالصمد والشيخ الحصري والشيخ رفعت رحمهم الله ورحم والدتي. نذكرها حين نسمع تسجيلات الدكتور عبدالحليم محمود والدكتور محمد فتح بدران والإمام محمود شلتوت. وأذان الشيخ علي محمود. وابتهالات الشيخ سيد النقشبندي والشيخ طوبار رحم الله الجميع وأسكنهم فسيح جناته. ورحم الله أمهاتنا وآباءنا. وجزاهم خيراً. وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم "الجنة تحت أقدام الأمهات".