من أهم الأمور التي تطالعنا بها كتب السيرة النبوية. ونحن في ذكري المولد النبوي. أن النبي صلي الله عليه وسلم كان حريصا علي معالجة مسألة الخلاف علي اختلاف مستوياتها بدءاً من مرحلة المشاحنة والمجادلة ومروراً بالهجر والتباعد وانتهاءً بمرحلة الاعتداء والقتال. كان النبي يؤكد دائما أن الإسلام دين يتشوّف إلي الصلح ويسعي له وينادي إليه . وليس ثمة خطوة أحب إلي الله عز وجل من خطوة يصلح فيها العبد بين اثنين ويقرب فيها بين قلبين . بالإصلاح تكون الطمأنينة والهدوء والاستقرار والأمن وتتفجر ينابيع الألفة والمحبة . بداية يقول الدكتور الأحمدي أبو النور أستاذ الحديث بجامعة الأزهر: إن الرسول صلي الله عليه وسلم كان قدوة الناس في الإصلاح بين المتخاصمين سواء علي مستوي الأفراد أو علي مستوي القبائل ولعل أبرز ما فعله النبي في هذا الشأن ما فعله قبل بعثته بقليل حيث كانت الكعبة ليست بهذا العلو الذي نراه فارتفاعها كان فوق القامة مما أدي إلي قيام نفر بسرقة كنز الكعبة حيث كان في بئر في جوفها فأرادت قريش رفعها وتسقيفها وكان البحر قد رمي بسفينة إلي جدة لرجل من تُجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها ثم إن الناس خافوا من عاقبة هدمها فبدأ الوليد بن المغيرة بالهدم. فلما لم يصبه شيء هدم الناس معه ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها كل قبيلة تجمع علي حدة ثم بنوها حتي بلغ البنيان موضع الركن فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلي موضعه دون الأخري حتي تجاوزوا وتخالفوا وأعدو للقتال. أضاف: مكثت قريش علي ذلك أربع ليال أو خمساً ثم أنهم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا وتناصفوا فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وكان عامئذي أسنّ قريش كلها. قال: يا معشر قريش. اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه ففعلوا فكان أول داخل عليهم رسول الله صلي الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا : هذا الأمين رضينا هذا محمد فلما انتهي إليهم وأخبروه الخبر قال: هَلُمّ إليّ ثوباً. فأتي به فأخذ الركن فوضعه فيه بيده. ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب. ثم ارفعوه جميعاً. ففعلوا حتي إذا بلغوا به موضعه. وضعه هو بيده ثم بُني عليه وهكذا أعطي النبي صلي الله عليه وسلم المثل والقدوة في كيفية ارساء قيمة العدل أثناء اصلاح ذات البين وهي أهم شروط إنجاح مبادرات الصلح أيا كان مستواها. أفضل الدرجات أوضحت الدكتورة وجيهة مكاوي. الأستاذ بجامعة الأزهر .أن النبي صلي الله عليه وسلم دعا المسلم بالإصلاح بين المتخاصمين حيث قال عليه الصلاة والسلام : ¢ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟¢ قالوا: بلي قال: ¢صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة¢. أي المهلكة القاتلة المدمرة. وبيان ذلك في الحديث الآخر حيث يقول صلي الله عليه وسلم: ¢دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء ألا وهي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين¢ يعني تبطل أجور الطاعات والحسنات وهذا من السيئات التي تبطل الحسنات فقد يكون الإنسان محافظا علي الصلاة وله حظ من قيام الليل أو صاحب صيام نفل وقراءة قرآن وذكر وغير ذلك. لكنه متساهل في بر والديه وصلة الأرحام والبر بالجيران والإحسان إليهم. وهكذا تجد بينه وبين الناس قطيعة وبغضاء وتهاجرا. فهو في الواقع يبطل ما يعمل ويبدد ما يجمع ويذهب حسناته وأجور طاعاته شعر بذلك أم لم يشعر. تضيف د.مكاوي : كان الرسول صلي الله عليه وسلم حريصا علي نبذ الخلاف بين الناس حيث أكد علي أهمية محبة المسلم لأخيه المسلم وأن يرجو له من الخير ما يرجو لنفسه ويبغض له من الشر ما يبغض لنفسه من أوجب الواجبات وأعظم القربات وأحب الأعمال إلي الله عز وجل. فإذا فسد ذات البين وحصلت القطيعة والهجران والتدابر تحولت المحبة إلي عداوة. وبدل أن يحب له الخير يتمني له الشر ويتربص به السوء. وهذا عكس مراد الله من عباده. ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: ¢لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث - هذا مع المسلم البعيد الذي ليس بينك وبينه قرابة أو صحبة أو جوار - يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهم الذي يبدأ بالسلام¢. الكذب مباح يشير الدكتور إسماعيل عبد الرحمن . أستاذ الفقه بجامعة الأزهر. إلي أن النبي وضع قواعد لإنجاح الصلح بين الناس ولعل من أبرز تلك القواعد أنه أباح الكذب من أجل إصلاح ذات البين ن جانب آخر معروف أن الكذب من أكبر الكبائر ويهدي إلي النار ورغم ذلك أباح الله الكذب في الإصلاح بين الناس لشدة الحاجة لذلك. تقول أم كلثوم بنت عقبة رضي الله سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول: ¢ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا كأن يقول المصلح لأحد المتخاصمين : لقد جلست مع فلان - يقصد الطرف الأخر - وهو يذكرك بخير ونادم علي قطيعتك وفي حديث أم كلثوم: ما سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث كان رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: ¢لا أعده كاذبا الرجل يصلح بين الناس يقول القول ولا يريد به إلا الإصلاح والرجل يقول في الحرب والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها¢ وهذا يدل علي أن الإصلاح بين الناس من أعظم الواجبات. فلا يمكن أن يترك واجب مثل الصدق إلا من أجل ما هو أوجب منه وهو الإصلاح . ويضيف د.اسماعيل : إن النبي صلي الله عليه وسلم وضع لائحة بأهم الشروط الواجب توافرها عند الإصلاح بين الناس أهمها استحضار النية الصالحة وابتغاء مرضاة الرب جل وعلا ¢ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله نؤتيه أجرا عظيما¢ وتجنب الأهواء الشخصية والمنافع الدنيوية فهي مما يعيق التوفيق في تحقيق الهدف المنشود ولزوم العدل والتقوي في الصلح . لأن الصلح إذا صدر عن هيئة اجتماعية معروفة بالعدالة والتَّقوي وجب علي الجميع الالتزام به والتقيُّد بأحكامه إذعاناً للحقِّ وإرضاءً للضمائر الحيَّة ¢ فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا ¢ وأن يكون المصلح عاقلا حكيما منصفاً في إيصال كل ذي حق إلي حقه مدركا للأمور متمتعا بسعة الصدر وبعد النظر مضيقا شقة الخلاف والعداوة محلا المحبة والسلام وكذلك لابد من الحذر من فشو الأحاديث وتسرب الأخبار والتشويش علي الفهوم مما يفسد الأمور المبرمة والاتفاقيات الخيرة . لأن من الناس من يتأذي من نشر مشاكله أمام الناس . وكلما ضاق نطاق الخلاف كان من السهل القضاء عليه . ويستطرد د.اسماعيل: لابد أن يعي المسلم أن اصلاح ذات البين من الممكن أن يكون بين كل المتخاصمين أفرادا كانوا أو جماعات مسلمين أو غير مسلمين ما دام يؤدي إلي خير. فيكون بين الزوجين والأخوين والقبيلتين حتي الدولتين وعن أنس أن النبي صلي الله عليه وسلم قال لأبي أيوب الأنصاري: ¢ألا أدلك علي تجارة ترضي ربك¢ قال: بلي. قال ¢تصلح بين الناس إذا فسدوا وتجمع بين قلوبهم إذا تباعدوا فإذا كان هذا أجر المصلح فكيف بالمفسد الذي يأتي إلي متصافيين ليفسد بينهما بالكذب والنميمة والبهتان. يقول النبي صلي الله عليه وسلم عن هذا ¢لا يدخل الجنة نمَّام¢ وقال أيضا صلي الله عليه وسلم : ¢تجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي لهذا بوجه وهذا بوجه¢ وهذا معارض لمراد الله الذي يريد للناس أن يتصالحوا وأن يتحابوا.