حين أراد الله ان يوصل رسالته إلي الناس اختار اللغة الراقية الجميلة. اختار النغم المسكوب. والحرف المنسوج من خيوط الحرير. والفاصلة الأنيقة. والكلمة التي تدخل القلب ولا تخرج منه. كان بوسعه سبحانه وتعالي ان يستعمل سلطته الإلهية المطلقة فيقول للإنسان: "كن مؤمناً فيكون" ولكنه لم يفعل واختار الطريق الأجمل. اختار الأسلوب الأنبل. وحين أراد الله ان نستوعب أسرار أحكامه فضل لغة العقل. وهي لغة دقيقة محكمة تحترم ذاتها وتوقر صاحبها. بشرط أن يتفكر جيداً فيما وراءها. وما بين سطورها. بشرط ألا يتسرع في تفسير يقلب المعني. ويتورط في فتوي تكون عليه. وهذه هي آفة كثير من الناس. لكنهم لا يعلمون. لقد توقفت طويلاً عند حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم: "تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة" توقفت عند كلمات الرسول الكريم وأنا استعرض حالة العالم الإسلامي الممتد من الصين إلي الدار البيضاء. توقفت عندها وأنا أري خريطة الديكتاتورية. الفساد. الجهل. الضعف. المرض. وغيرها من الأمراض السياسية والاجتماعية والعشوائية. وتساءلت بيني وبين نفسي: هل هذه هي الأمة التي سيتباهي بها رسول الله صلي الله عليه وسلم بين الأمم يوم القيامة؟ وكانت الإجابة واضحة قاطعة لا تحتاج إلي مجهود كبير أو صغير. إذن أين المشكلة؟ لقد فسر البعض هذا الحديث النبوي الشريف علي انه دعوة للانفلات في كثرة الذرية. وعدم وضع قواعد أو قيود علي الانجاب. وكأن المباهاة في الكثرة بغض النظر عن القيمة والتميز. بغض النظر عن ضعف وهشاشة هذه الكثرة. ان الإنسان يتباهي بولد واحد صالح يقدر علي برمجة الكمبيوتر بينما يخجل من مائة ولد لا يفكون طلاسم الخط ولا يفرقون بين الألف وعمود الكهرباء ويجرون عرايا في الحواري والأزقة. المباهاة التي يقصدها النبي الكريم هي ان تكون الأمة متميزة. فلا يعقل ان يتباهي النبي صلي الله عليه وسلم بكثرة لا حول لها ولا قوة. لا تقدر علي اطعام نفسها أو حماية أرضها أو ايجاد مكان خاص لها تحت شمس الدنيا التي نعيشها. يقول صلي الله عليه وسلم: "يوشك ان يأتي زمن تتداعي عليكم الأمم كما تتداعي الأكلة علي قصعتها قالوا أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل" أي كثرة مثل ريم الماء. كثرة بلا وزن. لو ربطنا ما بين الحديثين الشريفين لعرفنا ان المقصود ليس الكثرة التي نتخيلها ونسعي إليها. فلا عبرة بكثرة كغثاء السيل. لا عبرة بكثرة من الرغاوي والفقاعات. أما الفقرة الثالثة من الحديث.. فهذا ما سنعرفه العدد القادم بإذن الله تعالي.