الحمد لله الذي لم يجعل في الإسلام رجال دين يتحدثون باسم السماء . ويفتون فتكون فتواهم عبادة. ويأمرون فتصبح أوامرهم تشريعاً لايجوز مخالفتة أو النأي عنه . وإلا كان مصير الناس النار وبئس المصير. بتعليمات عليا من رجال الدين .... الحمد لله أن جعل الإسلام ديناً لدفع الحياة الإنسانية إلي أفق التقدم والحضارة .... العقل فيه هو السيد وهو الحكم . والمنوط به فهم قواعده . والدفع إلي الخير للبشرية جمعاء . دون استثناء أو إقصاء لأحد ... قال تعالي "ولقد كرمنا بني آدم" كل ابن آدم لم يختص الله تعالي بالتكريم نفراً معيناً . أو طائفة محددة . أو تابعاً لدين دون دين . إنما التكريم للبشرية كلها دون استثناء .. وقال رسول الإسلام صلي الله عليه وسلم "خير الناس أنفعهم للناس" ولم يقل خير الناس أنفعهم لقبيلة كذا أو لتابع دين كذا . إنما جعل الخيرية لمن يكون نافعاً للبشرية . وفي هذا دفع وتوجيه لأن يبذل الإنسان أقصي ما يملك لنفع أخيه في الإنسانية دون النظر إلي لونه أو جنسه أو دينه . قال تعالي "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" وذلك لإقامة الحضارة وتواصل الأمم من الشعوب مع بعضها بعضا . لتزداد الألفة وتتعاون النفوس وتتشابك العقول لبناء الحياة وتقدمها . وقال تعالي " إن أكرمكم عند الله أتقاكم" ولم يقل أغناكم أو أبيضكم . وإنما أراد أن يوضح أن الله قد كرم الإنسان إلا أن الأكرم هو من يخشي الله في سلوكه مع أخيه الإنسان وأدان للمعروف ونفعه للبشرية .. هو من يكون صادقاً مع نفسه . لايخون ولايكذب ولايعادي الناس بانتقاص حقهم . أو رميهم بالباطل . أو تخريب ديارهم وأموالهم .. إن من يسلك طريق الخير لنفسه وللبشر هو الأشد تقوي . هو الجدير بإن يكون الأكرم عند خالقه. كرم الله الإنسان بالعقل وهو مناط التكليف دون سائر المخلوقات لما له من مكانة وأهمية في تطور الإنسان وتقدمة إذ أن الحياة في بدايتها كان الإنسان فيها ليس لديه من وسائل الحياة إلا حجراً أو عوداً ويقضي حياته بين الوحوش في الغابات فتطورت تلك الحياة بعد سنين عديدة وتعلم الإنسان وتقدم واستنار حتي وصل إلي ما هو عليه الآن من تقدم ورقي وعلم مبهر . وما زال يواصل الزحف نحو وسائل مذهلة تتمتع بها الإنسانية . كل ذلك وما سوف يصل إليه من أثر نعمة العقل الذي وهبه الله للإنسان وكرمه به. وهذه النعمة - نعمة العقل - أعطاها الله للبشر جميعاً . لمن يعبده وحده ولمن يعبده مع غيره ولمن لم يعبده أصلاً دون تفريق أو تصنيف مما يومئ إلي أنه لاسيطرة لإنسان علي إنسان ولاطبقة علي طبقة ولا لأمة علي أمة .... إنما تسأل كل نفس عما كسبت ويكون سؤالها امام ربها وليس أمام أحد من البشر ولا سيطرة لنفس علي نفس حتي ولو كان الرسول صلي الله عليه وسلم . وقد علمه القرآن في قوله تعالي "لست عليهم بمسيطر" وقال "كل نفسي بما كسبت رهينة" ... وهو مالم يفهمه الكثيرون ممن يتصدون لخطاب الدين الذين يتشدقون ويمضغون كلام التوجيه المخيف . والرعب لكل من يرون فيه ما لا يتفق وعقلهم . ولايسير علي منهجهم . متخذين مما قرءوه بلا فهم . وحفظوه بلا وعي . سنداً لهم في سلوكهم . وما عليه يسيرون. آفة الإسلام هم المسلمون الذين لم يفهموا هذا الدين حق الفهم . ولم يتجاوز ما عرفوه صوان آذانهم . فظنوا أنهم ورثوا العلم . وأصبحوا له سنداً وحراساً وأباحوا لأنفسهم معاقبة من يخالفهم . ويشعلون فتناً منكرة وهو جاء يقتلون بسببها ويقتلون ناسين او متناسين قول الحق تبارك وتعالي " من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً" وقوله " من قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً" وقول الرسول صلي الله عليه وسلم " كل ذنب عسي الله أن يغفره . إلا الرجل يقتل المؤمن متعمداً . أو الرجل يموت كافراً" وقوله صلي الله عليه وسلم "لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن . لأكبهم الله تعالي في النار" وقولة عليه أفضل الصلاة والسلام " لايزال المؤمن في فسحة من دينة ما لم يصب دماً حراماً". أين هذه الأقوال من خطاب ديني لايبلغ قلب الناس وعقولهم يتحدث عن الجنة والنار دون التركيز علي أمن الناس وامانهم . ودون إلقاء الضوء علي دور الإنسان في الحياة .. في الآية الأولي وفي الحديث الأخير نري أن الإعتداء علي النفس بالقتل . أي نفس . ولم يحدد من المقتول هو حرام إذا أن اللفظ عام سواء كان مسلماً أو غير مسلم فتحريم القتل والوعيد لمن يقترفه لايقتصر علي منتم لدين معين أو لطائفة معينة إنما يشمل جميع المعتدين من أي دين أو لون كما يشمل المعتدي عليه من أي دين أو لون . ولابد لمن يتصدي الدعوة إلي الإسلام أن يلقي الضوء جيداً علي هذا الفهم لقواعد الإسلام بدلاً من أن يكون حديثه باعثاً علي الإقصاء ويزكي التعصب ويدفع إلي التطرف الذي لايعرفه الإسلام. في حديث الرسول صلي الله عليه وسلم "من رأي منكم منكراً فليغيره بيده ..... إلي آخر الحديث . يلجأ بعض المتصدرين للدعوة إلي تفسير ذلك بأن كل إنسان مكلف بأن يتصدي بالفعل لكل ما يظنه منكراً ليغيره . وهو ما لم يكن فهماً صحيحاً . إنما تغيير المنكر يكون بالطرق المشروعة والوسائل المقننة أبانها التشريع الذي أقره البرلمان واعتمدته الأمة وهو إبلاغ السلطات لاتخاذ ما يلزم إذا ما ثبت لديها صحة البلاغ وخطورة الفعل . لابيده هو وإلا عمت الفوضي وانتشر الفساد. وكان لكل فئة تغيير المنكر بقوة السلاح فيأتي قوم آخرون يعتبرون ما فعله هؤلاء منكراً فتكون مواجهة أخري . وهكذا حتي يضيع المجتمع وتشتعل الفتنة.. نحن في حاجة ملحة إلي فهم صادق بعقل واع لقواعد الإسلام في بناء الحياة وربط العبادات بالسلوك الإنساني الحضاري . وهذا ما يتعين علي مشايخنا إبرازه . وتوضيحة للناس حتي يصبح الخطاب الديني بناءً مشاركاً في إقامة حياة آمنه مستقرة. ولقد قرأت في هذا المجال عن الصلاة في الإسلام كلاماً رائعاً جديداً ينبغي أن يقرأ ويفهم . هو أن الصلاة في الإسلام حركة فكرية وروحية وجسدية . فالحركة الفكرية تتمثل في القراءة والتسابيح وتأملها . والحركة الروحية هي إخلاص القلب والإتجاه إلي الله والإحساس بأنه يراك . والحركة الجسدية تتثمل في الركوع والسجود وهو ما يفيد البدن. وفي حديث ممتع للمستشار الدكتور عماد النجار مساعد وزير العدل السابق للتشريع "أن مادة الوضوء منحوتة من الضوء والوضاءة . وأن الإنسان عندما يستعد للصلاة فإنه يقبل علي الوضوء فيغسل يديه وكأنه يعاهد الله علي أن لاتمس يده حراماً ولاتفعل إلا الخير عندما يتمضمض ويستنشق فكأنما يعاهد الله ألا يأكل أو يشم محرماً وعندما يغسل وجهه فكأنما يعاهد الله أن لايقبل علي شر أو خطيئة . وعندما يغسل مرفقيه ويمسح رأسة فكأنما يعاهد الله أن لا يقبل أو يفكر في ما نهي الله عنه وحرمة وعندما يغسل قدمية فكأنما يعاهد الله ألا تسير قدماه إلي محرم أو شر . فيتحول المتوضئ إلي مادة نورانية ليقف بين يدي الله سبحانة وتعالي.." هذا هو الخطاب الديني المأمول الذي ينشر الفهم الصحيح لبناء الإنسان السوي ومسلكه الصحيح وارتباط العبادة بهذا السلوك . وبذلك يشارك في بناء الأمة الإنسانية ويرقي بها إلي مصاف الأطهار القادرين علي بذل الخير .. فهل يعي مشايخنا أهمية وضرورة الخطاب الديني القائم علي عقل مستنير يشارك في بناء الحياة.