يقوم الخطاب الدعوي الإسلامي علي أساس ثابت ومبدأ راسخ في تعبئة الجماهير ومخاطبتهم بالكلمة الطيبة والحكمة البالغة. من غير عصبية أو عنف. والحكمة تجعل الداعي إلي الله يقدّر الأمور حق قدرها. كما تجعله ينظر ببصيرة المؤمن ليري حاجة الناس فيعالجها بحسب ما يقتضيه الحال. وبذلك ينفذ إلي قلوب الناس من أوسع الأبواب. فتنشرح له صدورهم ويرون فيه المنقذ لهم. الحريص علي سعادتهم ورفاهيتهم وأمنهم ومستقبلهم. من سمات الخطاب الدعوي قيامه علي الكلمة الطيبة والأسلوب الحسن والموعظة الحسنة هي الكلمة الطيبة تخرج من فم الداعية لتصل إلي عقول الناس وقلوبهم. فيجدون فيها الخير والسعادة وتأخذ بأيديهم إلي طريق الحق والصواب. ولا تسيء إلي أحد. ولا تعنف أحدا. الكلمة الطيبة الرقيقة التي تلمس القلوب فترق لها وتخالط النفوس فتهش لها وتفرح بها "من كنوز السنة محمد الصابوني". وإمعانا في التسامح والرحمة والرفق حث الخطاب الإسلامي علي التحلي بمكارم الأخلاق وحميد الصفات ولين القول حتي مع الأعداء والجهلاء. قال تعالي: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلي الأَرْضِ هَوْنا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاما" "الفرقان:63". فهذه صفات من جملة صفات عباد الرحمن وهي ألزم ما يكون للدعاة فهم في وجدهم ووقارهم وقصدهم إلي ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة. لا يلتفتون إلي حماقة الحمقي وسفاهة السفهاء. ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقي في جدل أو عراك. ويترفعون عن المهاترات مع المهاترين الطائشين: "وعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَي الأَرْضِ هَوْنا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَما" "الفرقان:63" لا عن ضعف ولكن عن ترفع ولا عن عجز إنما عن استعلاء وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفق فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع "في ظلال القرآن". وحث الخطاب الإسلامي علي الكلمة الطيبة لمطلق الناس. قال تعالي: "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنا" "البقرة:83".وهي النصيحة لهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم فهذا هو معني قوله تعالي: "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنا" وليس معناه مجرد التلطف بالقول أو المجاملة في الخطاب. فالحسن هو النافع في الدين أو الدنيا "تفسير المنار: محمد رشيد رضا". والقارئ لسيرة النبي صلي الله عليه وسلم يلمس هذا المعني في دعوته. ويراه مجسديا في كل معانيها. سواء مع المؤمنين من أمته أم مع أهل الكتاب أو مع غيرهم حتي مع الطغاة الجبّارين. ومع المشركين والمنافقين. فقد التزم أمر الله تعالي: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ" "الأعراف:199". فاستخدم أسلوب اللين والرحمة والشفقة في معاملته للناس جميعيا وهكذا يكشف الخطاب الدعوي الإسلامي عن سمو منهجه. وسماحة أسلوبه. ورقي خططه. وسهولة تطبيقه. ومن سمات الخطاب الإسلامي أيضا مراعاته لمنهج التدريج من السمات المميزة للخطاب الدعوي الإسلامي مراعاته لسنة التدرج. فهو يتعامل مع بشر يعيش في دنيا لها جوانب. ونفس لها شهوات. فحرص علي معرفة المداخل والأبواب التي يدخل منها إلي النفس. فكل نفس لها تشكيلها الخاص. ومن ثم الوسيلة الخاصة لمعالجتها» ولذلك وجدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم يعطي كل إنسان ويوجهه علي حسب قدراته وميوله. ذلك لأن نفوس البشر تألف الاعوجاج والتمرد. فإذا باشرتها بالإصلاح دفعة واحدة فإن ذلك يعتبر مصادمة لها. فينبغي التلطف والتدرج والتعرف علي مداخلها. وهذه سنة الله تعالي في طريق دعوة الناس. وبالتأمل في نزول الرسالات نجدها قد سلكت طريق التدرج. ويظهر ذلك جليا في عصر التوراة. حيث كانت النصائح التي نزلت علي موسي ملائمة لأحوال الناس يومئذ: "وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْء مَّوْعِظَة وَتَفْصِيلا لِّكُلِّ شَيْء فَخُذْهَا بِقُوَّة وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها" "الأعراف:145". وعندما صعدت الإنسانية في مدارج النضج الفكري. واتسعت آفاقها العامة. جاء القرآن الكريم في أسلوب أعمق وأرحب. واتخذ فيه الحديث عن الله وعن الدار الآخرة صوريا من البيان العالي والإقناع العلمي وتضمن من القواعد والأحكام ما لا حاجة للناس بعده إلي إضافة أخري تصلُح بها النفوس أو المجتمعات أو الدول "مع الله دراسات في الدعوة والدعاة/ الشيخ/ محمد الغزالي". وقد نزل هذا الكتاب السماوي الخاتم منجما أي مفرقا قال تعالي: "وَقُرْآنا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَي النَّاسِ عَلَي مُكْث وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلا" "الإسراء:106".وذلك لاستدراج العرب وتعريفهم أنفسهم بأوامره ونواهيه علي حسب النوازل والحوادث. فمن الحكمة أن الدواء عند حدوث البلاء ليكون تحولهم عن أخلاقهم وعاداتهم بسهولة ويسر. فلو نزل عليهم القرآن دفعة واحدة لثقلت عليهم التكاليف ولنفرت قلوبهم عن قبول ما فيه من الأوامر والنواهي "روح الدين الإسلامي/ عفيفي عبد الفتاح". وصدق الله العظيم حيث يقول: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَة وَاحِدَة كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلي إِلَّا جِئْنَاكَ بِالحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرا" "الفرقان:32-33". إن النفس البشرية لا تتحول تحولا كاملا شاملا بين يوم وليلة بقراءة كتاب كامل شامل للمنهج الجديد إنما تتأثر يوميا بعد يوم بطرف من هذا المنهج. وتتدرج في مراقبته رويدا رويدا. وتقاد علي حمل تكاليفه شيئا فشيئا. فجاء لذلك منجزا وفق الحاجات الحية للجماعة المسلمة "في ظلال القرآن". ولهذا لم تكن المرحلة المكية مرحلة تشريع وتقنين. بل مرحلة تربية وتكوين "المدخل لمعرفة الإسلام د. يوسف القرضاوي" فقد بدأ الخطاب الدعوي أولا بالدعوة إلي التوحيد وتثبيت العقيدة الصحيحة ثم كان التشريع شيئيا فشيئيا. وقد ذكر الإمام الشاطبي في "الموافقات" موقفيا لعمر بن عبد العزيز يدل علي أخذه بسنة التدرج فقد ذكر أن ابنه "عبد الملك قال: مالك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق قال له عمر: لا تعجل يا بني. فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين. وحرمها في الثالثة. وإني أخاف أن أحمل الحق علي الناس جملة فيدفعوه جملة. ويكون من ذا فتنة" "الموافقات في أصول الشريعة الإمام الشاطبي". وهكذا نري أنه قد كمل الدين وتمت النعمة بمنهج التدرج. الذي نزل به. ولو نزل دفعة واحدة لشق الأمر علي الخلق وصعب عليهم امتثال أحكامه.