الحياة وعد وأمل وتكاليف للمؤمنين فيقول تعالي "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" "سورة النور الآية 55". جاء هذا الوعد الكريم لرسول الله - صلي الله عليه وسلم - وأصحابه في وقت كانوا فيه محاصرين من كل الجوانب: من قوي الوثنية.. واليهودية.. والنفاق في الجزيرة العربية.. ومن قوي المجوسية. والمزدكية. والمانوية في فارس.. ومن قوي الصلبية التي انحرفت بالمسيحية عن جوهرها ومسارها في بلاد الروم. وهذه القوي الهائلة كانت أعنف وأشد وأصلب مما نتصوره عنها اليوم.. وما كانت لقوة المسلمين عددا أو عتادا أن تقارن بها أو تقاس.. وما كان لعاقل أن يتخيل مجرد خيال أن تقف هذه القوة الضعيفة الناشئة أمام هذه القوي الجبارة.. ومع كل هذه الملابسات صدر هذا الوعد العظيم بنصر الله للقلة المؤمنة. وتمكينها واستخلافها في الأرض. ودحرها لجميع القوي المناوئة لها.. وإننا اليوم ونحن في حالة مواجهة وحصار من قوي شبيهة بتلك التي كانت تواجه الدعوة الإسلامية في عصرها الأول.. عددا وعتادا وحقدا وضراوة - أشد ما نكون حاجة إلي التبصر في هذا الوعد. ومعرفة أسراره لنستلهم منه الطريق. ونستضيء بما فيه من نور. ولأول وهلة ندرك أنه قد أتي في النسق القرآني في معرض الحديث عن نور الله وهداه. وموقف البشر إزاء الانتفاع به. والتحاكم إليه. وانقسامهم في ذلك إلي فرق ثلاث: فريق أصم أذنيه. وأغمض عينيه. ووضع علي قلبه الأغلال والحجب. فرفض التحاكم إلي شريعة ربه فكانت "أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتي إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه" "سورة النور الآية 39". وهذا هو الصف الحقيقي لكل مناهج الأرض ومذاهب البشر حينما تبتعد عن وحي الله.. إنها سراب خادع لا تصل بأصحابها إلي تقدم حقيقي مهما بدوا أمامنا في مظاهر حضارية زائفة. وفريق نفعي.. أناني.. منافق.. آمن بلسانه خوفا أو طمعا. ولم يصل إلي قلبه نور الإيمان. ولم يتشكل به سلوكه في الحياة ولم يرض يوما بحكم الله. يسرع إليه حينما يجر النفع إليه ويعاديه حينما يطالبه بالتضحية أو يقف في طريق ظلمه أو شهوته "وإذا دُعوا إلي الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون" "سورة النور الآيات 48:50". وفريق ثالث آمن بالله وتشرب قلبه حلاوة الإيمان. فأسلم وجهه إلي الله وأذعن لحكمه وارتضاه في إطار من سعة الصدر. وطمأنينة النفس وسكينة القلب. لا يبالي أكان الحكم له أم عليه. شعاره دائما السمع والطاعة "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلي الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون" "سورة النور الآية 51". وإلي هذا الفريق المؤمن الصالح يسوق القرآن هذا الوعد الكريم معلنا أن الجزاء الحسن علي العمل الحسن لا يقتصر علي الجزاء الأخروي الآجل وإنما يعجل الله كذلك بالثواب العاجل في هذه الحياة: "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد" "سورة غافر الآية: 51". وقوله تعالي "من عمل صالحا من ذكر أو أنثي وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون" "سورة النحل الآية 97". تكاليف الوفاء بالوعد إن في هذا الوعد أسرارا من التنزيل وتوضيح تكاليفه. وتحدد أهله ومستحقيه.. إنه يقول "وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم" ومنكم هنا لها دلالة كبري في تحديد المؤمن الذي يستحق إنجاز هذا الوعد.. إنها تضع أمامنا نموذج الصحابة المخاطبين بإيمانهم وسلوكهم وتضحياتهم وإبائهم وانقيادهم لحكم الله. وإذعانهم لتعاليمه.. الإذعان الذي توضحه حادثة تحريم الخمر تلك التي ظل التاريخ يرويها بإعجاب وفخار دليلا علي ما يستطيع أن يقدمه الإيمان من رقابة ذاتية لا يحتاج إلي كثرة قوانين. أو كثرة مراقبين.. إنهم بمجرد أن سمعوا من أحد الصحابة أن الخمر قد حرمت ونزل في ذلك قرآن تسابق الجميع في إخراج ما لديهم من أوعية الخمور ليريقوها في الطريق قاطعين علي أنفسهم مجرد التفكير في العودة إليها بعدما نزل فيها حكم من السماء.. ونحن نعلم مدي ما كان للخمر من منزلة عندهم من قراءة أشعارهم. ودراسة أحوالهم. والوعد كذلك يضم مع الإيمان العمل الصالح لأن أحدهما منفصلا عن الآخر. لايصلح أن يكون مقياسا للأمة ولا للنصر.. فالإيمان بناء بلا أساس مآله الهدم والانهيار والنصر في هذا الوعد ليس سيطرة أو استبدادا.. إنه استخلاف في الأرض وتمكين للدين وقضاء علي عوامل الخوف والاضطراب. وهذا وحده يبين معالم الصورة للحكم الإسلامي القائم علي تنفيذ تعاليم الله وعمارة الأرض علي ضوء ما أنزل الله وعلي هدي مبادئه العادلة والحقيقة أن استخلاف الأمة المسلمة أيضا ليس محاباة لها أو تحيزا إلي أشخاصها.. ولكنه قائم علي ما نيط بها من مسئوليات تجاه رسالة الله عز وجل من حيث إنها اضطلعت بمهمة الأنبياء والرسل في استمرار الدعوة نقية صافية لايشوبها علائق الأرض ولا شوائب الشك والضلال.