ورد إلي لجنة القرآن وعلومه- بالمجلس الأعلي للشئون الإسلامية- بعض الشبهات التي تبث في بعض المواقع علي بعض آيات من كتاب الله. وكلّفتني اللجنة الموقّرة بالإجابة عليها. وتلك إجابتي: أولاً: شبهة أن المسيح من حصب جهنّم: الشبهة: قوله تعالي: "إِنَّكُم وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُم لَهَا وَارِدُونَ" "الأنبياء:98"هذه الآية تدل علي أن جميع المعبودات مع عابديها في النار. وقد أشارت آيات أخر إلي أن بعض المعبودين كعيسي والملائكة ليسوا من أهل النار كقوله تعالي: "وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ" "الزخرف:57" الآية. وقوله تعالي: "وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُم كَانُوا يَعْبُدُونَ" "سبأ:40". الجواب: هذه الآية الكريمة تخاطب المعاندين من المشركين عُبّاد الأصنام. ولم يكن في مكّة عُبّاد للمسيح. فيتعيّن فهم الآية علي أن ما سيكون حصبًا لجهنّم هي تلك الحجارة المعبودة كما جاء في قوله تعالي: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهْلِيكُم نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْها مَلائِكةى غِلاظى شِدَادى لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" "التحريم:6". فالادّعاء بأنّها تشمل كُلّ المعبودات بما فيها المسيح والملائكة إخراج للنّصّ من مقصوده. إذ هو واضح في خطاب أناس معيّنين. ومع احتمال شمول هذا الحكم لكُلّ مَن عُبِد من دون الله فإنّ ما جاء بعد هذه الآية يستثني المسيح والملائكة في قوله تعالي: "إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَت لَهُم مِنَّا الحُسْنَي أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ" "الأنبياء:101". ثانيًا:شبهة حديث الغرانيق: الشبهة: تحت عنوان "وحي من الشيطان" كتب أعداء الإسلام ما يلي:جاء في سورة الحج: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولي وَلا نَبِيّي إِلاَّ إِذَا تَمَنَّي أَلْقَي الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمى حَكِيمى" "الحج:52". قال المفسرون: إن محمدا لما كان في مجلس قريش أنزل الله عليه سورة النجم فقرأها حتي بلغ "أَفَرَأَيْتُم اللاَّتَ وَالْعُزَّي وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَي" "النجم:19.20" ألقي الشيطان علي لسانه ما كان يحدث به نفسه ويتمناه- وهو:تلك الغرانيق العُلي وإن شفاعتهن لترتجي. فلما سمعت قريش فرحوا به ومضي محمد في قراءته فقرأ السورة كلها. وسجد في آخرها وسجد المسلمون بسجوده. كما سجد جميع المشركين. وقالوا: لقد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر وقد عرفنا أن الله يحيي ويميت ولكن آلهتنا تشفع لنا عنده. ونحن نسأل: كيف يتنكر محمد لوحدانية الله ويمدح آلهة قريش ليتقرب إليهم ويفوز بالرياسة عليهم بالأقوال الشيطانية؟ وما الفرق بين النبي الكاذب والنبي الصادق إذا كان الشيطان ينطق علي لسان كليهما؟ الجواب:الآية الكريمة التي في سورة الحج رقم "52" تتحدّث عن أن كُلّ نبيّ ورسول كان يتمنّي أن يستجيب قومه لدعوته. ولكنّه وجد من شياطين الإنس والجن من يتحدي دعوته بالصّدّ عنها والتشويش عليها ومقاومتها بشتّي الوسائل. وهذا هو المعني اللغوي لكلمتي "التّمني" و"الأمنية" الواردتين في تلك الآية الكريمة. فقد جاء في المعجم الوجيز لمجمع اللّغة العربيّة وهو متداول بين الجميع: ¢تمنّي الشيء: قدره وأحب أن يصير إليه. والأمنية: ما يتمنّاه الإنسان¢. وهذه الحقيقة عبّر عنها القرآن الكريم في غير آية. ومن ذلك قوله: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيّي عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُم إِلَي بَعْضي زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَو شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُم وَمَا يَفْتَرُونَ" "الأنعام:112". وقوله: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيّي عَدُوّاً مِن الْمُجْرِمِينَ وَكَفَي بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً" "الفرقان:31". ومنها تلك الآية التي تُصرّح بذلك في قوله: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولي وَلا نَبِيّي إِلاَّ إِذَا تَمَنَّي أَلْقَي الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمى حَكِيمى" "الحج:52" أي أن الشيطان ألقي العراقيل والشبهات في طريق دعوته. ودعوته هي أمله وأمنيته. ثم إنّ الآية تبشّر النّبيّ الخاتم بأن الله سينسخ ما يلقيه الشيطان ويزيله ويحكم آياته وينصره كما فعل مع غيره من الرسل السابقين. والآيات التي أعقبت هذه الآية مباشرة تُبيّن الحكمة الإلهيّة في تمكين هؤلاء الشّياطين مما يقومون به ضد الدعوات الإصلاحيّة بأنّ المقصود من ذلك امتحان قوّة الإيمان عند المؤمن ليثبت علي الحقّ مهما علا الباطل ويخبت له قلبه. وليتمادي أهل الكفر والنّفاق في غيّهم فتحدث المواجهة بين أهل الحقّ وأهل الباطل. حتّي لا يعم الفساد» وفي دفع الفساد ابتلاء مقصود لله. قال سبحانه: "وَلَو يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُم وَلَكِن لِيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضي" "مُحمّد:4". وهذه الحقائق واضحة في النسق القرآني المعجز بعد هذه الآية مباشرة: " لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضى وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقي بَعِيدي وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُم وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَي صِرَاطي مُسْتَقِيمي" "الحج:53.54". أين هذا الأسلوب المتّسق البديع من تقوّل هؤلاء الشّياطين الجدد وادّعائهم أن المشركين طلبوا من نبيّنا مُحمّد صلي الله عليه وسلم أن يمدح أصنامهم ليؤمنوا به. فأدخل الشّيطان عليه في قراءته لسورة النجم بعد قوله تعالي: "أَفَرَأَيْتم اللاَّتَ وَالْعزَّي وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَي" "النجم:19.20". جملتين تمدحان الأصنام هما: ¢تلك الغرانيق العلي. وإنّ شفاعتهنّ لتُرتجي¢..والعجب ينتاب العاقل كيف يتّفق الإنكار مع المدح؟! كيف يقول عنهم: ¢إنّ شفاعتهنّ لتُرتجي¢ ثم يأتي بعدها قوله: "إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءى سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُم وَآبَاؤُكُم مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا من سُلْطاني" "النجم:23". لعلّنا بعد ذلك نقطع بأن هذه القصّة مختلقة مكذوبة دسّها اليهود في بعض كتب التفسير.