لا شك أن إمام المسلمين هو فرد من المسلمين تنطبق عليه قاعدة النصيحة وعلامتها الصفاء والاخلاص والتوحد مع الأمة وعدم الاستئثار بالأمر دون الأمة. ومعرفة حقها الواجب في البحث عن صلاح أمرها وتحقيق سعادتها ورفع شأنها. وأمام أي إمام للمسلمين الأسوة الواقعية المحفوظة والثابتة في النبي صلي الله عليه وسلم أول أئمتها وقادتها. وبلا ريب كان الوحي ينزل عليه. ولكنه كان فيما لا يوحي إليه فيه. كان متوحداً مع الأمة. ويطلب أن لا يدعوه يتخذ القرار وحده. وإنما كان يقول: "اشيروا علي أيها الناس". وكان ينزل علي الرأي الغالب والأجدر بالقبول. كما حدث في الاستعداد للحرب في بدر بعد أن كانت الوجهة التعرض للعير. وكما حدث في تغيير موقع الجيش في بدر والنزول علي رأي الحباب بن المنذر رضي الله عنه وكما حدث في قضية الأسري. وكما حدث في قضية الخروج للحرب يوم أحد. رغم أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يري التحصن في المدينة ولكنه نزل علي الرأي الغالب وأمضاه. وكذلك موقفه في غزوة الأحزاب ونزوله علي رأي سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق. وكان هذا ديدنه وشيمته دائماً فيما لم يوح إليه فيه شيء. تنفيذاً لتوجيه الحق تبارك وتعالي في قوله عز وجل: "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لأنفضوا من حولك فأعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل علي الله إن الله يحب المتوكلين" "159 آل عمران". ولأن مثل هذه الطريقة والسياسة هي سياسة أولي الرشد وأولي النهي وبها تبلغ الأمة مراقي الفلاح. مدحهم الحق تبارك وتعالي بقوله: "والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شوري بينهم ومما رزقناهم ينفقون" "38 الشوري". ويكفي لكي تعلم قيمة الشوري في الإسلام أن تعلم أن سورة كاملة بين سور القرآن تسمي سورة الشوري. وتطبيق النبي صلي الله عليه وسلم فوق كل تصور. وقد قال أبو هريرة: لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلي الله عليه وسلم . ولا مكان في الإسلام لمن يقول أن الشوري غير ملزمة. أو هي شكلية قد لا تحتمل تحقيق ما يشار به إلي المستشير. إذ الأصول الحاكمة والثبوت للنصوص الشرعية تقرر بجلاء أن النبي صلي الله عليه وسلم نزل علي رأي من أشار عليه. ولم يحدث أن دفع رأياً أشير به أو حقر صاحبه أو أصحابه. لأنه يعلم أن المشير يحمل من الاخلاص والصفاء ما يجعله مجتهداً في اتخاذ الرأي الراجح عنده ومن ثم يقع الرأي موقعاً من النبي صلي الله عليه وسلم يأخذ طريقه إلي التحقيق والتفعيل. ومن أجل ذلك وجب أن يكون النصح متبادلا. والاخلاص والصفاء متبادلاً كذلك. فليس من شيمة الحاكم المسلم أن يغفل الأمة من حسبانه وميزانه. وإنما عليه أن يتعلم من الإمام الأول المتوحد مع الأمة وغير الغاش لها. أو المدلس لها حاشاه وبرأه الله عز وجل وقد قال لمن بعده: "مامن أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم أي يجتهد في اصلاح أحوالهم وتدبير شئونهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة" رواه مسلم والطبراني..! وقال صلي الله عليه وسلم : "ما من عبد يسترعيه الله رعيه. يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" وفي رواية: "فلم يحطها بنصحه لم يرح رائحة الجنة" متفق عليه..! وفي الروايتين السابقتين كلمتي "الغش والنصح" وهما كلمتان متقابلتان. فإذا كان النصح هو الصفاء فإن الغش هو الكدر والدخل والغبش. فلابد للوالي أن يحفظ العلاقة بينه وبين الأمة عن الكدر والاختلاط والفساد. إلي الصفاء والخلوص من كل شوب. وهذا يستوجب أن يصارحهم بما يعن له في شئون الأمة حتي يكون الجميع معه. وهذا هو النجاح بعينه. لأنه من المحال أن يجمع إنسان واحد كل القدرات والخبرات ولايكون بحاجة إلي خبرة غيره. فإن الكمال بين الناس لا يوجد. ومن ثم فمن المنطقي والمعقول أن يستكمل ما لديه من نقص ممن حوله من أهل الشوري من الأمة. ومن توفيق الله للحاكم أن يرزقه أهل اخلاص وصفاء وتقوي ليكونوا أهل شوراه. وقد روي البخاري عن عبدالله بن عباس: كان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته. كهولاً كانوا أو شباباً. وفي الحديث الذي خرجه البخاري عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: "ما بعث الله من نبي ولا كان بعده من خليفة. إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف. وبطانة لا تألوه خبالاً. فمن وقي شرها فقد وقي"..!