انطلاقا من كون القرآن الكريم هو معجزة آخر الرسالات السماوية. فقد تعهد ربنا - تبارك وتعالي - بحفظه تحقيقا لعدله المطلق الذي لخصه بقوله العزيز: "من اهتدي فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخري وما كنا معذبين حتي نبعث رسولا" "الاسراء: 15". كذلك حفظ الله - تعالي - القرآن الكريم تحقيقا لوعده الصادق الذي قطعه علي ذاته العلية فقال - وقوله الحق - "إنا نحن نزلنا الذكر وأنا له لحافظون" "الحجر: 9". ولتحقيق حفظ الله - سبحانه وتعالي - لمحكم كتابه أنزله منجما: آي آية. أو بضع آيات تلو آيات. أو سورة سورة حسب أسباب النزول. وقد وهب الله بطلاقة قدرته لخاتم أنبيائه ورسله ذاكرة واعية كانت تحفظ بطريقة مباشرة كل ما ألقاه جبريل - عليه السلام - علي سمعه. ولذلك أنزل الله - تعالي - إليه تثبيتا وتأمينا وتأكيدا عددا من الآيات التي منها ما يلي: "لا تحرك به لسانك لتعجل به. إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه. ثم إن علينا بيانه" "القيامة: 16 - 9". "بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ" "البروج: 21 - 22". "سنقرؤك فلا تنسي. إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفي" "الاعلي: 6 - 7". كان جبريل عليه السلام يدارس رسول الله صلي الله عليه وسلم ما نزل من القرآن الكريم في شهر رمضان من كل عام وفي آخر رمضان من عمره الشريف دارسه جبريل القرآن كله مرتين. قرأه النبي صلي الله عليه وسلم أمامه من الفاتحة إلي الناس. وعرضه عليه عرضا دقيقا حتي يتمكن من نقله إلي صحابته الكرام بالترتيب والاحكام الذي أراده الله - سبحانه وتعالي - لآخر رسالاته أن يتم به. كان لرسول الله صلي الله عليه وسلم كتبة للوحي. وكان منهم الخلفاء الراشدون الأربعة. وكل من أبي بن كعب. وزيد بن ثابت. وقد كتب القرآن كله في حياة رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي حفظ صحابته القرآن الكريم كما أنزل إليه. وعلمهم ضبط تلاوته. ودقة حفظه. وكان صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم يفهمون لغة القرآن بالسليقة لأنهم كانوا عرباً خلصا. ولكن كانوا إذا التبس عليهم فهم آية من آيات القرآن الكريم لجأوا إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقد جاء في الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: "لما نزلت هذه الآية "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" "الأنعام: 82".. شق ذلك علي الناس فقالوا: يارسول الله! وأينا لا يظلم نفسه؟ قال صلي الله عليه وسلم "إنه ليس الذي تعنون. ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: "إن الشرك لظلم عظيم". إنما هو الشرك. ولذلك أقبل الصحابة علي تلقي القرآن من رسول الله صلي الله عليه وسلم وحفظه. وفهمه. وتدبر معانيه. وفي زمن الخليفة الأول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - "11 - 13ه/ 632 - 634م" تم جمع القرآن الكريم من صحائفه الأولي في مصحف واحد بمشورة من الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وبإقرار من كل من كتاب الوحي وحفاظه ومن بقية الصحابة الكرام - عليهم رضوان الله. وفي زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - "23 - 35ه/ 644 - 656م" تم الجمع الثالث للقرآن الكريم بمشورة من حذيف بن اليمان - رضي الله عنه - وإجماع من كل من كتاب الوحي وحفاظه ومن بقية الصحابة. وتم بعد ذلك إعجام كلمات القرآن وهو تنقيط حروف الكلمة. وتشكيل الكلمات. حتي تنطق نطقاً سليماً من العرب وغيرهم. والعرب ينطقون الحروف ويشكلونها من غير عجمة. ولكن غير العرب ممن دخلوا في دين الله أفواجاً كان يصعب عليهم ذلك. كما يصعب علي غالبية عرب اليوم الذين فقدوا الإحساس الفطري باللغة. وبعد ذلك تم حصر القراءات الصحيحة لكتاب الله. وتم تقسيمه إلي أجزاء. وأحزاب. وأرباع.. وتم وضع الدراسات العديدة من أجل حسن تدبر كلام الله. وذلك من مثل عشرات من كتب التفسير. والمؤلفات العديدة في علوم القراءات. وعلوم رسم القرآن وتواريخ جمعه وتدوينه. والدراست لفواتح السور. وللناسخ والمنسوخ منه. وإعراب آياته. وشرح غرائب ألفاظه. وتوضيح كل من المحكم والمتشابه من آياته. والمجمل والمفصل منه. والمفرد والمكرر فيه. واستخلاص الدروس والعبر من قصصه. وتوضيح أوجه الإعجاز فيه. وغير ذلك من القضايا المتعلق بكتاب الله - تعالي - حتي وضعت في علوم القرآن آلاف التصانيف التي تنظم في عشرات العلوم التي صممت خدمة لفهم كتاب الله. وقد اشتهر من كبار الصحابة في التفسير كل من الخلفاء الراشدين الأربعة: أبوبكر. وعمر. وعثمان. وعلي - عليهم رضوان الله - ومن كرام الصحابة كل من عبدالله بن عباس. وعبدالله بن مسعود. وأبي بن كعب. وزيد بن ثابت. وأبو موسي الأشعري. وعبدالله بن الزبير - رضي الله عنهم أجمعين. ومن التابعين اجتهد في تفسير بعض آيات القرآن الكريم تلاميذ ابن عباس في مكةالمكرمة. وكان منهم: سعيد بن جبير. ومجاهد. وعكرمة "مولي ابن عباس". وطاووس اليماني. وعطاء. وتلاميذ أبي بن كعب في المدينة. وكان منهم: محمد بن كعب القرظي المعروف باسم أبو العالية. وزيد بن أسلم. وتلاميذ ابن مسعود بالعراق. وكان منهم: علقمة. ومسروق. والشعبي. والحسن البصري. وقتادة - رضي الله عنهم أجمعين. ولما جاء عصر التدوين في القرن الهجري الثاني جمع المأثور من تفسير رسول الله صلي الله عليه وسلم كما جمعت آثار الصحابة والتابعين في التفسير. وقام بذلك جيل من العلماء الذين كان منهم كل من يزيد بن هارون السلمي. وشعبة بن الحجاج. ووكيع بن الجراح. وسفيان بن عيينة. وعبدالرزاق بن همام. وكانت هذه المحاولات جزئية لم تشمل تفسير القرآن كله. ثم جاءت مرحلة التفسير الكامل للقرآن الكريم التي ابتدأها أبوجعفر محمد بن جرير الطبري "ت: 310ه/ 923م" الذي وضع تفسيراً كاملا للقرآن الكريم بعنوان: "جامع البيان في تفسير القرآن". ويعرف باسم تفسير الطبري. وتلاه إلي اليوم مئات التفاسير وعشرات الترجمات لمعاني القرآن الكريم. كذلك ألف علي بن المديني في أسباب النزول. وأبوعبيدة القاسم بن سلام في كل من الناسخ والمنسوخ وعلم القراءات. وكتب ابن قتيبة في مشكل القرآن. وكل من السجستاني. والراغب الاصفهاني في غريب القرآن. وتتابعت علوم القرآن وتشعبت تصانيفها تشعباً كبيراً إلي وقتنا الراهن خدمة لكتاب الله تعالي.