بداية أحب أن أقول: إنه علي الرغم مما يحدث في مصر عقب ثورة يناير من عنف وفوضي وأصوات مرتفعة وجدال مستمر من وقت لآخر. فإننا يجب ان نتفاءل لأن حجم التغيير كان كبيرا للغاية. ولم يكن متوقعا حدوثه علي هذا النحو. وقد عودتنا مصر علي انها لا تسقط أبدا. فهي الحصن الحصين للعروبة والاسلام. ذكرها الله في كتابه العزيز وأوصي الرسول صلي الله عليه وسلم بأهلها وأشاد بجنودها وأهلها. لذلك لا أشك للحظة ان مصر ستتعافي من جراحها وتعود منارة للعالم أجمع بفضل الله وتوفيقه. من المعروف ان الحضارة من صنع الانسان. لذلك فإن قيمة الانسان دائما تبقي أهم وأسبق من قيمة الابنية والشواهد المادية التي صنعها. ويجب ان يكون لدينا هذا الوعي الذي يعلي من قيمة الانسان الذي كرمه الله عز وجل: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم علي كثير ممن خلقنا تفضيلا". وسخر الله من أجله كل المخلوقات. السموات والارض والريح والجبال. لذلك أرشد النبي صلي الله عليه وسلم إلي إن حرمة دم الانسان مقدمة علي حرمة الكعبة ذاتها. وقد عشنا في مصر لسنوات طويلة. انتهكت فيها كرامة الانسان. واهدرت طاقاته. من خلال التضييق علي أصحاب الرأي والفكر. والاعتماد علي المتاجرين بالقيم والمنافقين وتقديمهم علي أصحاب المباديء والاخلاص. حتي شعر الانسان بالضياع والتهميش. وربما قابل ذلك بالعنف أو بالسلبية واللامبالاة. وبعد الثورة عادت للإنسان انسانيته وشعر انه قادر علي تغيير وجه التاريخ. وصاحب ذلك بلاشك بعض الغلو والتطرف. في نظرة الانسان لنفسه ومن ثم قدم البعض مصلحة الفرد علي مصلحة الجماعة. وشاعت بعض المفاهيم المتطرفة للحرية كما رأينا من نشر البعض للأكاذيب وللصور العارية والترويج لأمور لا تدخل بحال من الاحوال في مفهوم الحرية. إن الابنية والمنشأة هي ملك للجميع. وهي ثروة للمجتمع بأسره. كما انها بناء محايد أصم. يساعد الانسان علي إنجاز معاملاته وتسهيل أمور حياته. لذلك يجب صيانتها والحفاظ عليها. وأن تبقي دائما علي حيادها بعيدة عن العدوان والتدمير والزج بها في أتون معركة هي منها بريئة. مهما تعاقب عليها من مسئولين ورؤساء. فيجب ألا نهدم المنشأة أو المؤسسة لمجرد وجود خلل فيها. المنطق يقول ذلك. حيث يجب العمل علي علاج الخلل الموجودة في جوهر الانسان صانع المؤسسة ومديرها والمتصرف فيها. دون الاعتداء علي المنشأة! إن مشكلتنا في مصر اليوم تكمن في غياب الحكماء وانصرافهم عن الدعوة الحقيقية وتوعية الناس خوفا من أن يصيبهم أذي بسبب للغط والجدال الدائر. حيث فضل بعضهم السلامة والعافية علي ما سواهما. علما بأن هذه السلامة غير مضمونة. لأننا كما شبه الرسول صلي الله عليه وسلم نعلو معا ظهر سفينة ويحاول البعض خرقها. فإن تركناه يخرقها غرق وغرقنا معه وإن منعناه وأخذنا علي يده نجا ونجونا جميعا. قد اصبح الكثيرون يخافون أن يقولوا كلمة الحق أو يقدموا النصيحة للشباب وتركوا مصير الامة ليقرره البعض. فرأينا الفتن والجدل والانقسام. لذلك فإن أهم عوامل حفظ البلاد والعباد وجود الحكماء وتصديهم لمثل هذه المحاولات بالتوعية والتثقيف وإقامة الندوات مهما كلفهم ذلك من تعب أو أذي. كذلك يجب ان يتغير مفهوم الامن لدينا بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير. فأمن المجتمع وحماية منشآته وأفراده مسئولية جماعية يقوم بها أفراد المجتمع جميعا وليس رجال الامن فقط. أتعجب لماذا لا نقاوم جميعا الخارجين عن القانون بكل الوسائل المتاحة قبل ان تستفحل الامور؟ لماذا نغضب فقط حين يصل التهديد الخطر إلي بيوتنا ولاننزعج أو نحرك ساكنا حين يمس الامر أمن الوطن بأسره؟ يجب ان يتعاون الجميع علي ضبط إيقاع الامن بمنع المندسين والمتاجرين بالقضايا الوطنية الذين يسعون لافساد هذه الثورة وتشويهها بكل ما أوتوا من قوة! ولعل التحريض الذي نسمعه ليل نهار علي الفضائيات هو أحد أسباب التي تدفع البعض إلي التدمير والانتقام. والمحرض شريك الفاعل بل هو الفاعل الحقيقي. ومن ثم يجب مقاومته ومحاسبته وتوعية المواطن بمخططاته وبأنه يهدم وطنه ويحرق تاريخه ولا يحصل في النهاية علي ما كان يصبو إليه تصور حجم الكارثة التي حدثت بحرق المجمع العلمي الذي يضم آلاف المراجع والمخطوطات النادرة. وترويع الآمنين في بيوتهم والصورة المشوهة التي نصدرها للعالم عن ثورتنا وبلادنا بسبب العدوان علي هذه المنشآت والمؤسسات. ثم ننشغل في نهاية الامر بالجدل عن الفاعل ودوافعه وغير ذلك من الامور التي لسنا جهة أو طرفا فيها. علينا أن ننشغل في الاساس بمنع حدوث هذه الكوارث. ومن رحمة الله عز وجل بنا أننا بطبيعتنا شعب مسالم. لانعرف العنف ولا الدموية. فثورتنا ثورة سلمية أبهرت العالم أجمع وأحسب لو أن دولة أخري شهدت ما شهدناه عقب انهيار الامن بالكامل يوم الثامن والعشرين من يناير عام 2011 لما مضت الامور فيها كما مضت في مصر. وهذا من فضل الله وتوفيقه رغم حدوث بعض الحوادث الدامية من وقت لآخر. ولا يغيب عنا الحاجة الماسة إلي توعية دينية حقيقية يقوم بها علماؤنا الثقات والمخلصون. إن شباب اليوم ربما يملكون الكثير من وسائل المعرفة لكنهم لايملكون من وسائل تنظيم وترشيد هذه المعرفة وتوجيهها الوجهة الصحيحة من خلال التمييز بين الغث والسمين وتقديم الاولويات والتحقق من صحة الخبر وقراءته بصورة صحيحة ودقيقة. وهم يفتقدون للعالم القدوة الذي يأخذ بأيديهم إلي طريق الحق وقت الشدة. وأنا علي يقين ان مصر مليئة بالعلماء المخلصين لكن الاعلام يهمش دوره لاسباب تجارية ودعائية وربما لأغراض خبيثة حيث يريد البعض ان تبقي الامور علي ما هي عليه لحاجة في نفوسهم المريضة. ان دور العلماء الحقيقي شبه منعدم هذه الايام. وبسبب غيابه انتشرت الفوضي وساد الجدل والانقسام وتشعبت بنا الدروب في متاهات بعيدة وبدلا من الالتقاء علي أمور يمكن الاتفاق عليها بحثنا عن الامور التي تزيد الشقة والخلاف بيننا. وعلي الرغم من وجود أصوات من داخل المؤسسة الدينية تنادي من وقت لآخر بحقن الدماء وتغليب المصلحة الوطنية علي المصلحة الشخصية كما حدث مع وثيقة الازهر التي قام بها الازهر الشريف. وكان لها صدي كبير علي جميع طوائف المجتمع حيث التف حولها المفكرون والناس العاديون لثقتهم في الداعين إليها. لكنها مع ذلك قليلة ويضيع تأثيرها وسط الصخب الذي تقوم به اجهزة اعلام غير مسئولة للاسف الشديد. ان الصورة التي نشاهدها اليوم رغم ما يشوبها من بعض التشوهات. ليست قاتمة ولا موئسة إطلاقا بل هي أمور كانت متوقعة بعد قمع استمر لعقود طويلة. ويجب ألا يفارقنا الامل والتفاؤل حيث شهدت مصر علي مر تاريخها ما هو أشد وأنكي مما تشهده اليوم. ومع ذلك خرجت قوية فتية. وغسلت همومها وأحزانها علي يد أبنائها. وردعت كل عدوان سعي لتدميرها وخرابها خاصة حين توحدنا علي هدف وغاية ساميتين. ونحن جميعا متفقون علي هدف وغاية واضحين وهو إقامة دولة حديثة قوية يعيش فيها الجميع في أمن وعزة وتراحم وتقدم للعالم أجمع نموذجا حضاريا يجسد حضارة الشعب المصري التي لم تخفت ولم تمت أبدا. وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم حين قال: "إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا منهم جندا كثيفا فإنهم خير أجناد الارض وهم في رباط إلي يوم القيامة". والجندي الحق هو المقاتل يحمي ثغوره والطالب يذاكر دروسه والمعلم يتقن عمله والطبيب يعالج المرضي ويقوم بدوره الانساني بعيدا عن الجدل والانقسام وهدم المعبد علي رؤوس عابديه. وقل رب وفق للعظائم أمتي ويسر لها الافعال والعزمات!