مقولة غريبة ربما يستغربها الواحد منا حينما يسمعها لأول مرة فأغلب الناس يظنون العكس بأنه لن يرتاح أحد في الآخرة حتي يتعب في الدنيا ولكن عندما نتساءل أولاً عن المراد بالراحة الحقيقية وهل هي راحة الجسد أم راحة القلب؟! نقول إنه ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه كان يقوم من الليل حتي تتفطر قدماه. رواه الترمذي. وهذا يبين لنا أن الصلاة كانت تجهد بدنه حتي تتسبب في تورم قدمه الشريفة صلي الله عليه وسلم من طول القيام. ولكن برغم كل هذا التعب البدني إلا أن الصلاة في نفس الوقت كانت هي ألذ لذاته. وراحة حياته صلي الله عليه وسلم بدليل قوله "وجعلت قرة عيني في الصلاة". رواه الطبراني وحينما نتأمل الحديثين السابقين نعلم جيداً أن راحة القلب هي الراحة الحقيقية للإنسان حتي لو اجتمع معها تعب الجسد ومشقته. وإذا علمنا بأن الراحة هي راحة القلب وجب علينا أن نعلم أن راحة القلب لا تكون إلا بالإيمان وطاعة الله عز وجل وذكره كما قال ربنا جل في علاه في سورة الرعد "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب" أما الأعراض عن ذكر الله تعالي فهو الشقاء كل الشقاء والتعب كل التعب قال تعالي "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمي".. أي ضيقة شديدة وهذا في الدنيا أما في الآخرة فيحشر أعمي.. وفي قصة الثلاثة الذين خلفوا لنا وقفة.. فها هم ثلاثة من صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم وقد تخلفوا عن الذهاب للجهاد في غزوة تبوك وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع. تخلفوا بسبب حرارة الجو ومشقة السفر اختاروا عصيان أمر الله ورسوله كي ينالوا الراحة ولكنهم كانوا واهمين لأنهم ظنوا أن الراحة الحقيقية هي راحة الجسد. وتبين لهم خطأ ظنهم لاحقاً بدليل ما حدث بعدها.. ما الذي حدث؟.. ذهبت الراحة من قلوبهم. فلماذا ذهبت من قلوبهم ضاقت عليهم الأرض بوسعها واتساعها وضاقت عليهم أنفسهم. وما أبرع الوصف القرآني حين يصف حالهم في تلك اللحظات الصعبة فيقول "وعلي الثلاثة الذين خلفوا حتي إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم.." سورة التوبة 118 فمن الذي ارتاح ومن الذي تعب؟! إذا تأملنا في كل ما سبق وجدنا أن الراحة ليست فيما يظنه الناس من رفاهية في العيش وسكن في القصور وكثرة في الأموال. فكل هذه راحة مزيفة راحة خادعة. وإنما الراحة الحقيقية راحة القلب وإن كان مع شظف العيش. ولهذا لما كان أحد الصالحين وكان لا يملك شيئاً من حطام الدنيا يأكل كسرة من الخبز اليابس يغمسها بماء النهر كان يقول "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه يعني من السعادة والراحة لجالدون عليه بالسيوف".. وها هو ابن تيمية يقول "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة" إنها الجنة التي تنسي صاحبها هموم الحياة ومشاقها بل تنسيه لقب العبادة وتعبها وكلل الأبدان وملالها.. بل وتنسيه الجوع والظمأ تغنيه عن الطعام وتعوضه عن الشراب. فهو بها شبعان وقلبه بها فرحان وهذا ما يفسر كلامنا "لن ترتاح في الآخرة إلا إذا ارتحت في الدنيا".