العلماء الذين قاموا يحمون مرتبة الإحسان, حتي تصل إلي درجة أن تعبد الله كأنك تراه, قيدوا هذا الطريق أولا بالذكر والفكر, والذكر أخذوه من القرآن الكريم. قال تعالي: فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون( البقرة:152), وقال تعالي: والذاكرين الله كثيرا والذاكرات( الأحزاب:35), وقال تعالي: واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون( الأنفال:45), وقال تعالي: ألا بذكر الله تطمئن القلوب( الرعد:28), إذن, الذكر هو الطريق, وكذلك الفكر والتدبر والتأمل في خلق السماوات والأرض, في عالم النبات والحيوان, فيما ينفع الناس: الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلي جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار( آل عمران:191). إذن, هناك فكر سطحي, صاحبه ينظر بلا تأمل وتراه يجمع المعلومات, وهناك فكر عميق, صاحبه يدخل في حقائق الأشياء, وهناك فكر مستنير, وهو أن يربط هذا بالإيمان بالله, فيقول:( سبحانك), فكلمة( سبحانك) إنما تأتي في قمة التفكير في بديع صنع الله, الدال عليه سبحانه وتعالي, وهذه هي حقيقة الإحسان. إذن, فالذين لا يريدون أن يتفكروا, والذين لا يريدون أن يذكروا, بعيدون عن منهج الله, والله سبحانه أمرنا بالذكر, كما أمرنا بالفكر: أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا( النساء:28), قل سيروا في الأرض فانظروا( النمل:69), اقرأ باسم ربك الذي خلق( العلق:1), يعني: يتأمل في الكون, ثم يقول بعد ذلك: اقرأ وربك الأكرم, الذي علم بالقلم( العلق:34), يعني: الوحي, فيتدبر في كتاب الله المنظور, وهو الكون من حولنا, ويتدبر في كتاب الله المسطور, وهو الوحي: القرآن والسنة الصحيحة, ويتدبر أيضا في حال نفسه: كتاب الله المقدور, وهو الإنسان, يتأمل في قوله تعالي: الرحمن* علم القرآن, خلق الإنسان, علمه البيان( الرحمن:1:4), إذن, فهناك ثلاثية:( القرآن, والإنسان.. والأكوان), يجب أن نتأمل ونتدبر فيها, بذلك نكون من المفكرين في طريقنا إلي الله سبحانه وتعالي طريق الذكر, والفكر. ومنهج النبي صلي الله عليه وآله وسلم في الذكر: السعة, فإذا جاء شخص يريد التقيد بما ورد, فهو أحد رجلين, الأول: أنه أحب ما ورد في السنة ووجد قلبه فيه, وهذا أمر محمود, بل هو غاية المراد; لأنه قد عاش كلام النبي صلي الله عليه وآله وسلم الوارد عنه في الأحاديث من دعاء ومن ذكر في مختلف المواطن, وفهم معناه ووجد قلبه عنده, فالأساس: أن تجد قلبك. والآخر: يتقيد بما ورد, ولكنه يؤديه إثبات حالة, يريد أن يقنع نفسه أو يقنع الناس بأنه يتمسك بالمنهج النبوي, فينكر علي من خرج عن هذه الأذكار, وهو بهذا الإنكار يخالف المنهج النبوي; فالمنهج النبوي كان علي السعة, تعال ننظر في السنة المشرفة: رجل يذكر الله في الصلاة بما لم يسمعه من رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم, فإذا برسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول بعد الصلاة: من المتكلم في الصلاة؟, فلم يتكلم أحد يسكت الرجل ويظن أنه قد أتي بخطأ ثم قالها الثانية: من المتكلم في الصلاة؟ فلم يتكلم أحد, ثم قالها الثالثة: من المتكلم في الصلاة؟ فقال رفاعة بن رافع ابن عفراء: أنا يا رسول الله, قال: كيف قلت؟, قال: قلت: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا طاهرا مباركا فيه... إلي آخر الحديث, فقال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكا أيهم يصعد بها( أخرجه الترمذي والنسائي) وذلك قبل أن يقره النبي صلي الله عليه وآله وسلم; فالنبي صلي الله عليه وآله وسلم علمنا أن نذكر الله علي السعة. ومما يدل علي أن الأصل في الذكر السعة ما ورد في التلبية, ففي حديث جابر: وأهل الناس بهذا الذي يهلون به, فلم يرد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم عليهم شيئا منه ولزم رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم تلبيته( صحيح مسلم), وكانت تلبية رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك في حين أن أنسانا يلبي, فيقول: لبيك حقا حقا, لبيك تعبدا ورقا( مسند البزار), وكان عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يلبي, فيقول: لبيك لبيك وسعديك, والخير بيديك لبيك, والرغباء إليك والعمل( صحيح مسلم), فيتركهم. فأقر رسول الله هاتين الصيغتين اللتين لبي بهما أنس وعبدالله بن عمر وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم, وفي هذا دليل علي أن الأصل في الذكر السعة; فقد ذكروا الله تعالي بما يعلمهم رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ابتداء. فالأصل في الذكر السعة, والمقصود أن نجد قلبنا عنده; ولذلك رأينا العلماء والصالحين عبر القرون يذكرون الأذكار مع أنها ليست واردة في السنة, بل ويزيدون أيضا, فمثلا يقولون: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار فيزيدون: وأدخلنا الجنة مع الأبرار, يا عفو يا غفار, دعاء وذكر بأسماء الله الحسني, وهو شيء حسن جميل, قال تعالي: ولله الأسماء الحسني فادعوه بها( الأعراف:180). إذن, هذا النمط, وهذا المنهج, كان هو أساس طريق التصوف, الذي هو مقيد بالذكر والفكر, مقيد بالتخلي والتحلي; من أجل التجلي, مقيد بقواعد, منها:( أن ملتفتا لا يصل), وكل ذلك وارد بالتفصيل في الكتاب والسنة, ومن أراد أن يحمل الناس أطري علي مذهبه, وأن ينكر علي منهج الكتاب والسنة فهو مخطئ.