جمال عبدالناصر على المنصة بعد إطلاق الرصاص علىه فى حادث المنشىة عامل بناء صعيدي فقير عثر علي المسدس الذي استخدمه الجاني في حادث المنشية.. بالصدفة! وضع المسدس في جيبه واعتزم بينه وبين نفسه ألا يسلمه إلا لعبدالناصر شخصيا! أعطي المسدس لعبد الناصر فكافأه بمائة جنيه! هذا الشاهد العجيب لم يستدع ليدلي بشهادته أمام محكمة الشعب! ولم تنشر له صورة بعد ذلك.. ولم يجر أي صحفي من المهتمين بالقضية معه حوارا يسجل فيه أسرار رحلته العصيبة من الإسكندرية إلي القاهرة! فجأة.. وبلا أي مقدمات.. وفي يوم 2 نوفمبر سنة 4591 أي بعد حادث المنصة بستة أيام.. نشرت جميع الصحف الصباحية صورة الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر وأمامه عامل بناء ممسكا بمسدس.. ومع الصورة حكاية مثيرة.. تقول الحكاية أن عامل البناء الصعيدي خديوي آدم وهذا اسمه كان يستقل الترام يوم الحادث المشئوم عائدا إلي منزله.. وعند ميدان المنشية شاهد جماهير من الناس متجمعة وسأل عن سر تجمعهم ولما علم أن عبدالناصر سيلقي خطابا نزل من الترام واندس وسط الجماهير. وعندما دوي صوت طلقات الرصاص وساد الهرج الآلاف المجتمعة سقط فوق الأرض.. وشعر بشئ يلسعه في ساقه.. وتحسسه فوجده مسدسا، وكانت ماسورة المسدس لاتزال ساخنة.. وأيقن في الحال أنه المسدس الذي استخدمه الجاني في إطلاق الرصاص علي زعيم البلاد!!.. ووضع المسدس في جيبه واعتزم بينه و بين نفسه ألا يسلم المسدس إلا لعبد الناصر شخصيا. وتستطرد القصة في استكمال حبكة خيوطها وحتي لا يتساءل القارئ عن السر في عدم تسليمه المسدس في نفس الليلة وانتظاره خمسة أيام.. فتقول القصة: إن العامل خديوي آدم رجل فقير جدا يوميته 52قرشا.. ولم يكن يملك ثمن تذكرة قطار أو أتوبيس يحمله إلي القاهرة.. فسار علي قدميه المسافة من الإسكندرية إلي القاهرة.. فوصلها يوم أول نوفمبر أي بعد خمسة أيام وتوجه في الحال إلي مجلس قيادة الثورة وطلب مقابلة جمال عبدالناصر.. وأعطاه المسدس.. فكافأه عبدالناصر بمائة جنيه!! وهكذا ظهر سلاح جديد في الجريمة طلقاته من عيار 63 ملليمتر لتكون من نفس أظرف الطلقات التي عثر عليها.. واختفت تماما سيرة المسدس الذي ضبط في يد الجاني لحظة القبض عليه.. هكذا أراد الحاكم ورجال التحقيق.. وفي اليوم التالي مباشرة نشرت الصحف أن الجاني تعرف علي المسدس الذي عثر عليه خديوي آدم وقرر أنه نفس المسدس الذي استخدمه لاغتيال عبدالناصر وأنه تسلمه من رئيسه في الجهاز السري المحامي هنداوي دوير.. وتعرف هنداوي هو الآخر علي المسدس وقرر أنه نفس المسدس الذي أعطاه للجاني.. وكان رئيسه في الجهاز السري المحامي إبراهيم الطيب أعطاه له ليسلمه للجاني. هكذا تعرف الإثنان علي سلاح الجريمة.. وهكذا اختفت تماما سيرة المسدس الأول الذي ضبط مع الجاني لحظة القبض عليه.. واحد فقط أنكر أن المسدس الذي عثر عليه خديوي آدم يتعلق بالجهاز السري.. هذا الشخص كان هو إبراهيم الطيب نفسه.. وجاء إنكاره أمام المحكمة عندما عرض عليه رئيسها جمال سالم المسدس فقرر أنه ليس نفس المسدس الذي أعطاه لهنداوي.. إنما هو مسدس آخر. ولم يحقق جمال سالم هذه النقطة الهامة.. أغفلها تماما.. كما أغفل أثناء المحاكمة تكليف الادعاء بتقديم شهود الإثبات الذين ضبطوا الجاني لحظة ارتكابه الجريمة.. وكانوا.. وياللمصادفة من العاملين بمديرية التحرير التي أنشأها مجدي حسنين أقرب الضباط الأحرار إلي قلب عبدالناصر والذي من أجله تلاعب عبدالناصر بالديمقراطية كما سيأتي شرحه في الحلقات القادمة. والشهود الثلاثة أولهم عبدالحميد محمود حبيب العامل بمديرية التحرير وكان أول من أمسك مسدس الجاني أو هكذا قال.. والثاني اليوزباشي جمال النادي وهو من مديرية التحرير أيضا وقد كسرت ذراعه أثناء مقاومة الجاني له أو هكذا قرر.. أما الثالث فهو حامد حسنين عجمي العامل بمديرية التحرير أيضا وقد عضه المتهم في ساقه عندما أمسك به أو هكذا قرر!! ولعل الادعاء خشي أن يقدمهم ويقدم خديوي آدم العامل الذي عثر علي المسدس حتي لا تتخبط أقوالهم.. ويظهر شئ محظور كان يسعون لإخفائه!! إن أي طالب بالسنة الأولي حقوق يعلم أن أول شهود الإثبات هم الذين لهم صلة بضبط الجاني أو مشاهدة الجريمة أو اكتشاف سلاح الجريمة.. ولكن هؤلاء الأربعة لم يدلوا بشهادتهم عند محاكمة الجاني. شهادات كبار المفكرين لكن ماهي أراء وتعليقات وردود أفعال كبار الكتاب والنقاد والمفكرين في قصة »خديوي آدم« التي وصفوها بأنها » أسوأ قصة قصيرة في القرن العشرين«. يقول الدكتور فؤاد زكريا في مقال منشور له بصحيفة »الوطن« في 2 مارس 1891: »قرأت بنفسي في جريدة »الأهرام« بعد حوالي إسبوع من الحادث أن أحد العمال قد وصل من الإسكندرية إلي القاهرة ومعه المسدس الذي ارتكبت به الجريمة وكان قد التقطه أثناء وجوده علي مقربة من المتهم في ميدان المنشية، ولكي تغطي الصحيفة تلك الفترة الطويلة التي استغرقها وصول المسدس إلي المسئولين ذكرت أن العامل لم يكن يملك ثمن تذكرة القطار وحضر من الإسكندرية إلي القاهرة سيرا علي الأقدام، وهو يحمل المسدس المستخدم في الحادث فاستغرق ذلك منه إسبوعا (....) ويخيل إليَّ أن هذه الواقعة وحدها بما فيها من استغفال لعقول الناس تكفي وحدها لتشكك في العملية بأكملها. ويقول الدكتور أحمد شلبي استاذ التاريخ والحضارة الاسلامية بكلية دار العلوم: حكاية النوبي الذي حمل المسدس سيرا علي الأقدام طيلة هذه المسافة التي لاتقطع عادة سيرا علي الأقدام من الإسكندرية إلي القاهرة حكاية ساذجة ننقدها من النقاط التالية: 1 كيف اتهم محمود عبداللطيف قبل العثور علي المسدس؟! مع ملاحظة أن المسدس الذي قيل إنه وجد معه لم يستعمل ذلك المساء. 2 كيف أفلت المسدس المستعمل من الذين قبضوا علي محمود عبداللطيف؟! 3 لماذا لم يسلم النوبي المسدس لنيابة الاسكندرية؟! 4 لماذا جاء هذا الرجل سيرا علي الأقدام طيلة هذه المسافة التي لاتقطع عادة سيرا علي الأقدام؟! مظاهر السقوط التصويري ويقول الناقد الأدبي الكبير جابر قميحة: » بعد سماع صوت الرصاص انطلقت الجماهير إلي الخارج بعيدا عن المنصة، وعثور العامل خديوي آدم علي المسدس يستحيل تحقيقه إلا إذا كان أقرب إلي المنصة من المتهم، وهذا مالم يحدث، فقد ذكرت »الأهرام« الصادرة يوم 72/01/4591 أن المتهم احتل مقعده في الحفل قبل بدئه بعدة ساعات. »في مثل هذه الأحداث يسيطر الرعب علي الجماهير، ويكون هم كل شخص أن ينجو بنفسه من الموت، في هذا التزاحم الرهيب لايكون لقدمه أو حتي يده من الحساسية مايجعله يتوقف وينحني لالتقاط جسم صلب أو غير صلب وإلا سحقته أقدام الجماهير اللائذة بالفرار«. »ومن مظاهر السقوط التصويري أن تظهر الصحيفة هذا العامل الصعيدي الفقير الذي لايملك مليما واحدا بمظهر خبير السلاح الذي يدرك أن المسدس هو الذي أطلق في الحادث«. »وتقع الصحيفة في التناقض، فتري هذا العامل الأحمق غبيا، إذ يقطع المسافة من الإسكندرية إلي القاهرة سيرا علي قدميه، لأنه لايملك مليما واحدا، وأمام هذا السقوط وذلك التناقض علينا أن نذكر مايأتي: 3 كانت أجرة السفر من الاسكندرية إلي القاهرة في ذلك الوقت بالسيارة أو القطار لاتزيد علي نصف جنيه »أي خمسين قرشا«. ب كان للعامل ابن عم يقيم بالإسكندرية إقامة دائمة وله عمل يدر عليه راتبا ثابتا يتعيش منه، أما كان العامل يستطيع أن يقترض منه جنيها أو جنيهين لتكاليف هذه السفرة التي كان وراءها ماوراءها؟! ج ثم أما كان هذا العامل حتي لو حشا رأسه كله غباء يدرك أن تكاليف الطعام والشراب في الطريق ودعك من الصحة والعافية تمثل أضعاف أضعاف ثمن التذكرة من الإسكندرية إلي القاهرة؟! لم يقدم لنا صورة هذا العامل بعد أن باع قفطانه وبعد هذه المسيرة الشاقة علي قدميه خمسة أيام: فهو لم يكن ينام في فندق ولامنزل، بل علي الأرصفة أو في الحدائق والحقول في البلاد والقري التي كان يمر بها. وهو طبعا كان يقضي حاجته بصورة غير آدمية، وتعامله مع الماء كان تعاملا شاذا غير منتظم أو مستقيم. إن إنسانا قطع قرابة 052 كيلو مترا سيرا علي قدميه محروما من الطعام والشراب إلا القليل الجاف الردئ، محروما من الراحة إلا سويعات، محروما من آليات النظافة (صابون وماء) مثل هذا الإنسان لن يصل إلي القاهرة إلا خائر القوي، مفكك الأوصال، محطم العافية، في أبشع منظر وأقذر هيئة وليس علي جسده إلا سروال قديم وفانلة أو صديري منتفخ الجيب بالمسدس الكبير. هذا المخلوق »الممسوخ« يلتقي عند مدخل القاهرة من ناحية شبرا برجل بوليس ويمشي ثلاث ساعات إلي مقر القيادة العسكرية، وفي الطريق رآه قطعا عشرات من رجال الأمن، ومع ذلك لم يثر شبهة أحد في وقت كان البرئ يؤخذ إلي النار بلا تهمة. ومع ذلك نري صورة خديوي آدم في »الأهرام« كامل الصحة والعافية مشرق الابتسامة وهو يسلم عبدالناصر المسدس مع أنه قابل عبدالناصر ساعة وصوله!! وختاما.. ألا يستدعي العجب أن أحدا من الصحفيين المهتمين بهذه القضية وقد ملأوا صفحات الجرائد بحواراتهم ولقاءاتهم مع المتهمين وأهاليهم، وزياراتهم لمنازلهم، ووصفهم للسرير الذي ينام عليه الجاني »ومشنة العيش« التي يأكل منها أولاده.. لم يهتم بأن يجري حوارا مع هذا العامل، ويسجل معه لحظة بلحظة أسرار الأيام العصيبة التي قضاها في رحلته الشاقة.. حتي وصل إلي القاهرة..!! وألا يستدعي العجب أكثر ألا يستدعي هذا الشاهد العجيب ليدلي بشهادته في محكمة الشعب، باعتباره من أهم الشهود في القضية، والذي عثر علي السلاح المستخدم في الجريمة..!! في الحلقة القادمة: عبدالناصر يعترف ببراءة عبدالقادر عودة توفيق الحكيم يعترف: كنا مخدوعين وألا يستدعي العجب أكثر وأكثر ألا يذكر عنه شيء ولا تنشر له صورة بعد ذلك مطلقا، وكأنه أصبح نسيا منسيا..!! وألا يستدعي العجب أكثر وأكثر أن يأتي مسئول أمني كبير في حجم اللواء فؤاد علام رئيس المباحث العامة الأسبق في مناظرة علنية، ولا يعلم عن خديوي آدم هذا شيئا، ولايدري بقصته هذه من قريب أو بعيد..!! ألا تستحق القصة بعد ذلك كله أن تفوز بجائزة »أسوأ قصة قصيرة في القرن العشرين«.