فياض وأبو مازن لا يبدو أن سلام فياض، قفز من سفينة السلطة الفلسطينية المثقلة بالأزمات وملفات الفساد أيضاً. رئيس الوزراء الفلسطيني المستقيل مطلع هذا الأسبوع، صمد في موقعه منذ العام 2007 وأبي أن يترك مهمته بالضفة الغربية في أحلك الظروف، تماماً مثلما رفض الرضوخ لضغوط حماس التي تسيطر علي قطاع غزة، واعتبرته (أي فياض) في بعض الأوقات عقبة في طريق إتمام المصالحة الوطنية مع فتح. غير أنه وعلي وقع خلافات سياسية حادة مع رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس »أبو مازن«، وعدد من قيادات الحركة، كرر فياض نيته الاستقالة مراراً خلال الفترة الماضية، قبل أن يقدمها وتقبل رسمياً (مع تكليفه بتسيير الأعمال لحين اختيار رئيس وزراء وحكومة جديدة) مؤخراً، بينما لا يستبعد البعض فرضية اتخاذه تلك الخطوة سعيا منه لموقع سياسي مغاير يجهز نفسه له. مصادر فلسطينية متباينة، لم تخف تدخل الولاياتالمتحدةالأمريكية، وتحديداً عبر وزير خارجيتها الجديد، جون كيري، لدي أبو مازن لعدم قبول استقالة فياض، كما أن شخصيات نافذة في الاتحاد الأوروبي، ضغطت لبقائه، استناداً لنجاحه المشهود له دولياً في ملف الاقتصاد، وقدرته وكفاءته الكبيرة في قضية بناء المؤسسات الرسمية الفلسطينية، والتي لا تنكرها سوي الفصائل الفلسطينية ذات المرجعيات الإسلامية، وفي مقدمتها حركتا المقاومة الإسلامية حماس، والجهاد الإسلامي. طيلة السنوات الست الماضية كان فياض (وفي بعض الأحيان أكثر من أبو مازن نفسه) مقصداً للمسؤولين في واشنطن وبلاد "اليورو" وإسرائيل أيضاً، من أجل وضع النقاط فوق الحروف في المسائل الاقتصادية، والأمنية بطبيعة الحال. بينما تمثلت مكانة فياض المهمة خارجياً، في الانزعاج الكبير الذي أبدته إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، من إمكانية عرقلة مسار السلام الفلسطيني- الإسرائيلي، الذي تطمح الولاياتالمتحدة في إتمامه حالياً ضمن تسوية كبيرة لقضايا المنطقة أساسها تحجيم إيران وتقليم أظافرها (حلفائها)، جراء اختفائه من المشهد في هذا التوقيت بالذات. الغريب أن أبو مازن تعامل مع كل تلك الضغوط بتجاهل شديد. قَبِلَ الاستقالة هذه المرة واضعاً حداً لتلويحات فياض المتكررة بها. في المقابل سارعت قيادات نافذة بفتح لعدم إغضاب الخارج بالتأكيد علي أن الموافقة علي الاستقالة، كانت قراراً فلسطينياً خالصاً، بمعني أنه يخضع لاعتبارات داخلية لا يمكن العمل في ظلها، وليس تعنتاً مع أي طرف خارج الحدود. لكن بدا أن أبو مازن لم ينس (وفق تسريبات إسرائيلية في الأساس) رفض رئيس وزرائه السابق، تحرك السلطة الفلسطينية لنيل مقعد دولة غير كاملة العضوية بالأمم المتحدة. فياض كان يحسب ألف حساب لرد الفعل الإسرائيلي الغاضب من تلك الخطوة الرمزية الدعائية برأيه، ما تحقق بالفعل علي أرض الواقع بفرض تل أبيب لعقوبات مالية قصمت ظهر الضفة الغربية فعلياً خلال الشهور المنقضية، بامتناعها عن تسديد مستحقات الضرائب للسلطة. بينما كان الرئيس يبحث عن "إثقال" وزن الفلسطينيين دولياً، وحشد مزيد من المؤيدين لقضيتهم عالمياً. العلاقات المتوترة بين فياض وأبو مازن، خلال الأسابيع الأخيرة، عكست فشلاً ذريعاً من الطرفين في التعاون لإدارة السلطة معاً وفق آلية الثقة المتبادلة. الرجلان وقفا طويلاً علي طرفي نقيض. أبو مازن تحصن بالحرس القديم لفتح، الذي اعتبر فياض خصماً سياسياً، وليس شريكاً، ولا مفر من إزاحته، خاصة مع تعاظم الإشارات لدعم غربي مطلق للأخير. وبينما أصر سفير فلسطينبالقاهرة، ومندوب السلطة الدائم بالجامعة العربية، د. بركات الفرا، كثيراً، علي نفي أي خلاف بين فياض وفتح، إلا أن اختفاءه الآن عن المشهد بدا حلاً سحرياً لأبو مازن. فاستقالة رئيس الوزراء وحكومته، تمكنه من تحميلهم كل أخطاء السلطة الفلسطينية ورئيسها في الفترة الأخيرة، خاصة تلك الأخطاء المتعلقة بفشل إدارة الأزمة المالية، وتصاعد الغضب بين سكان الضفة لتردي الأوضاع المعيشية وتراجع الحريات العامة ومواجهة التذمر الشعبي بعنف. أبو مازن سيستغل حتما رحيل فياض عن الوزارة لتحريك ملف المصالحة الفلسطينية الجامد. بما سيضع حماس التي لم تعلق علي خبر الاستقالة، إلا بأنه شأن داخلي لفتح، في موقف لا تحسد عليه. الحركة كانت تبرر دوماً عدم تقديمها أي خطوة جدية في ملف الوفاق الوطني، بأن السلطة لم تبادر بتنفيذ أهم بنود اتفاق القاهرة الخاص بالوفاق الوطني، والذي يقضي بتشكيل حكومة محايدة للإشراف علي الانتخابات التشريعية والرئاسية المرتقبة. الرئيس الفلسطيني هنا وكأنه يقول لهم، وكذا لحلفائهم في الجهاد الإسلامي تحديداً: نحن في فتح نبادر.. نحن في انتظاركم.. حان الوقت لتسديد الفواتير. من مكاسب أبو مازن أيضاً من استقالة فياض، وإذا صح ما يروج له بعض زعماء فتح في هذا الشأن، أن الرئيس الفلسطيني قد أضعف منافساً قوياً محتملاً له في الانتخابات الرئاسية المقبلة. أنباء عدة تتواتر عن نية فياض خوض غمار المعركة علي مقعد ياسر عرفات. ربما تبدو تلك الإمكانية، في حال وجودها أصلاً، متماهية مع تفاهماته الكبيرة مع الغرب. فهل تحرك أبو مازن قبل أن يفوته قطار الندم؟! لإسرائيل كذلك حظ من أرباح ابتعاد فياض عن المشهد الرسمي، خاصة في ظل وجود بنيامين نتانياهو علي رأس الحكومة في تل أبيب، وفي ظل رئيس أمريكي، لم يعد يتحدث عن حتمية تحقيق حل الدولتين، وإنما بدأ يستجدي مشاعر الإسرائيليين للنظر بعين الرأفة والعطف تجاه الفلسطينيين. الدولة العبرية تبدو أكثر سعادة الآن لاختفاء قيادة أخذت علي عاتقها طيلة السنوات الأخيرة، العمل بجد لتأسيس دولة فلسطينية مؤسساتية، استعداداً لمنح المجتمع الدولي شهادة ميلاد رسمية لها. وبينما طرحت بورصة ترشيحات خليفة فياض، اسم كل من الاقتصادي الدكتور محمد مصطفي والأكاديمي الدكتور رامي الحمد الله، لتشكيل حكومة تكنوقراط، يمكنها تحريك ملف المصالحة، إلا أن السؤال يظل مطروحاً: وماذا عن الوضع الاقتصادي المتردي؟.. هل يملك أي من الاسمين، أو غيرهما، حلولاً للوضع المالي المتفاقم في الضفة؟.. ربما أبو مازن وحده يعرف الإجابة.