إذا أردت أن تعرف أمة فتعرف علي لغتهم.. ولحكمة يعلمها الله خلق الناس بألسنة مختلفة.. »واختلاف ألسنتكم وألوانكم.. ومع دأب الإنسان لاكتشاف أسرار المعمورة وملامح سكانها وقف اختلاف اللسان عقبة كؤودا تعطله حتي ظهرت الترجمات بين اللغات لتتواصل الحضارات في مسيرة البشرية وليحقق الخلق مراد الله في خلقهم »وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا«.. هنا في تركيا كما في إيران يصبح العربي عاجزا عن فهم الآخر مالم يدرس لغتهم ولعل من أسباب التواصل بين الشعوب نشاط حركة الترجمة من وإلي كل لغة.. وهذا مابحثت عنه هنا في استانبول العاصمة التركية العتيقة حتي اهتديت بمساعدة صديقي عمر حجازي إلي هذا المعهد العلمي.. »أنجيدان للغات والترجمة والعلوم الاجتماعية«، وجلست إلي عميده الدكتور محمد حسين جيلين.. أسأله عن واقع ومستقبل حركة الترجمة بين العربية والتركية وأهميتها.. دكتور محمد: أين نحن الآن؟ أنت هنا في بلدك الثاني بين أهلك وإخوانك وأصدقائك فالعلاقات المصرية التركية قديمة في التاريخ واليوم هي في أزهي عصورها ونحن سعداء بهذا. أما هنا فأنت في معهد (كلية) عريق.. معهد إنجيدان للغات والترجمة والعلوم الاجتماعية.. وهو متخصص في تدريس اللغات خاصة التركية العثمانية القديمة والعربية والإنجليزية وغيرها.. قلت اللغة العثمانية القديمة.. هل لديكم لغتان؟ نعم التركية الحديثة أشبه باللهجة العامية ولسان الحال عند الأتراك، بينما العثمانية القديمة مزيج من ثلاث لغات، التركية والعربية والفارسية، وأما العربية فمجالها العلوم الشرعية والفقه والفارسية مجالها الأدب والشعر والتركية لغة العوام في حياتهم اليومية. ولماذا تبحثون عن إحيائها الآن؟ كل من انقطع عن جذوره فهو عرضة للزوال والضياع.. لقد عملت الجمهورية الكمالية الأولي جمهورية أتاتورك علي قطع الصلة بالماضي وتوجهت كلية نحو النمط الأوروبي لغة وحياة في اتجاه معاكس لطبيعة الدولة الإسلامية والشعب المتدين.. وبالفعل نجح أتاتورك في تغريب اللغة والمجتمع.. حتي كانت الجمهورية الثانية مع السيد رجب طيب أردوغان وتوجهه الإسلامي العربي فبدأ الشعب يبحث عن جذوره ويعود لمنابعه الأصلية.. وهذا مانقوم به الآن. تمنيت أن أولد عربيا وأتكلم العربية.. هذه أمنية أحد الأئمة الأتراك بأكبر مساجد أستانبول بحي عثمان بك.. كيف تقرأ هذه الأمنية؟ وأنا كذلك .. أتمني مثله وإن لم أدرك الأولي فقد ولدت تركيا إلا أنني سعيت لتعلم العربية في المدارس الأولية بولاية »ملاطيا« ثم التحقت بمدارس الأئمة والخطباء وهي تدرس العلوم الشرعية كما قلت بالعربية ثم درست بكلية الإلهيات. أصول الدين وسافرت إلي بلاد عربية مثل الأردن ولبنان وسوريا وأتقنت العربية تماما.. لذا فأنا أعتقد أن الشيخ الذي ذكرت هو واحد من ملايين الأتراك الذين يعشقون اللغة العربية.. لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ولذا نلاحظ هنا أن الآباء حريصون علي إلحاق أولادهم بمدارس الشريعة لتعلم العربية.. خاصة بعد أن تغيرت النظرة إلي العرب الآن بفضل توجهات السيد أردوغان منذ 01 سنوات فقبل ذلك كان الأتراك بفعل فاعل ينظرون إلي العرب كأعداء لتركيا وأنهم دعاة تطرف وإرهاب.. بفضل الله استطاع أردوغان بسياسته الرشيدة أن يغير هذا الشعور المر تجاه إخواننا العرب وقد اتجه كلية إلي المنطقة العربية الإسلامية خاصة مصر أم الدنيا بلد الأزهر الشريف قبلة العلماء لطلب العلم الشرعي والوسطية الدينية.. لقد قضي أردوغان علي الانغلاق وأصبح شعبنا يتقبل العرب ويحب لغتهم. وماذا عن أهمية اللغة عموما.. والعربية خصوصا؟ للغة قيمة اجتماعية فهي تحقق التواصل بين الناس.. فمن خلال اللغة يتواصل الناس فيما بينهم.. ويحققون أغراضهم ومآربهم.. فيتناقلون الأفكار، وكذا يتناقلون المشاعر والأحاسيس ويطلبون تحقيق مصالحهم من بعضهم البعض. وهذا التواصل غرض أساسي بالنسبة للإنسان، لأن الانسان مدني بطبعه، يحب الاجتماع والمدنية ويزعجه الانفراد والوحدة، ولهذا كان السجن عبارة عن عقوبة للإنسان فاللغة إذن تحقق للإنسان هذا الغرض الغريزي، وهو بدوره يحقق التواصل الاجتماعي. وللغة أيضا قيمة إنسانية اختص الله بها الانسان، فهي تتيح للإنسان التعبير عن أفكاره ومشاعره وآماله وآلامه، وهذه نعمة خاصة بالإنسان من بين سائر الكائنات، انظر إلي الجبال والبحار والسهول والأنهار والصخور والأشجار والطيور والحيوانات هل بين منها شيء؟.. ثم لك أن تتصور وتتأمل علي المستوي الفردي كيف لو كنت أبكما؟! كم سيصيبك من الأسي والحزن عندما تريد أن تبين فلا تستطيع؟! تريد أن تقول: هذا صحيح، أو هذا غير صحيح، أو أتمني كذا وكذا، أحب كذا وكذا، أكره كذا وكذا.. إلخ، فلا تستطيع التعبير عن أفكارك ومشاعرك وآمالك وآلامك.. فالحمد لله علي نعمة البيان. ثم تأمل علي المستوي الجماعي لو أن الناس لايتكلمون، كيف تكون حياتهم؟، لا تبادل أفكار ولا تبادل خبرات، ولا تبادل مشاعر، ولا علم، ولا قضاء مصالح، ولا حياة مدنية إنها نعمة البيان. وللغة قيمة حضارية فهي وعاء الفكر وكل حضارات الأمم مرتبطة بلغتهم، وإذا أردت أن تعرف حضارة أمة ما فتعرف علي لغتهم. وكذا لو سادت حضارة ما فإنه من الطبيعي أن تسود لغتهم، انظر عندما سادت الحضارة الإسلامية في القرون الأولي سادت معها اللغة العربية، وانتشرت بين سائر الأمم، وأقبلت الشعوب علي تعلمها وحفظها بل وتعليمها، فانجذبوا إليها، واستمتعوا بها، وتعلموها زرافات ووحدانا، وجاءوا من إيطاليا وأوروبا إلي الأندلس لتعلمها، يقول أحد المستشرقين: إن أرباب الفطنة والتذوق سحرهم رنين الأدب العربي وصاروا يكتبون بلغة القوم الظاهرين القاهرين العرب واحتقروا اللاتينية، حتي يقول أحد قساوستهم: وا أسفاه، إن الجيل الناشئ من المسيحيين لا يحسنون أدبا أو لغة غير الأدب العربي واللغة العربية وإنهم ليلتهمون كتب العرب ويجمعون منها المكتبات الكبيرة بأغلي الأثمان. وكتب الفارو نصار قرطبة في عام 4581م رسالة إلي أحد أصدقائه يقول فيها: »إننا لانري سوي الشبان المسيحيين هاموا بحفظ اللغة العربية يبحثون عن كتبها ويقتنونها ويدرسونها بشغف، ويعلقون عليها« ويتحدثون بها بطلاقة. واليوم تسود الحضارة الغربية علي العالم وتهيمن عليه وتفرض سلطتها، ففرضت معها لغتها الانجليزية، وإن الاعتزاز بالعربية رمز للشموخ والإباء مع التنبيه علي أن هناك فرقا بين سيطرة الحضارة الإسلامية وسيطرة الحضارة الغربية، فالحضارة الإسلامية عندما سيطرت لم تفرض سيطرتها بقوة السلاح وإنما فرضت نفسها، وتعلمت الشعوب الحضارة الإسلامية واللغة العربية حبا فيها وطواعية منهم، بل أصبح بعضهم من أعلام علماء اللغة متبحرا فيها متضلعا بها مكبرا لها كسيبويه وأبي الفتح ابن جني وأبي علي الفارسي وغيرهم أما الحضارة الغربية اليوم فقد استعملت قوة السلاح في فرض حضارتها ولغتها فتكفيك نظرة واحدة إلي تاريخ المستعمرين الغربيين في القرن الماضي وصنيعهم، وكذا في العصر الحديث. ومن نماذج ذلك ما أصدره الرئيس الفرنسي في الجزائر إبان الاحتلال عام 7391م من قرار بعقوبة كل من يخاطب السلطات الفرنسية بغير اللغة الفرنسية عقوبته الإعدام. أخيرا إن اللغة قيمة فنية ومتعة جمالية، فهي وسيلة فنية من الفنون الجميلة يعتمد فيها علي اللغة منطوقة أو مكتوبة ، وهي بهذا تحقق للإنسان حاجته وحبه للجمال، سواء عن طريق الشعر مقطوعات شعرية أو قصائد أو ملاحم، أو عن طريق النثر مقالة أو خواطر أو أقصوصة أو قصة أو رواية أو حور ومناظرة أو خطابة وإلقاء، فهذه كلها ميادين رحبة للفن والإبداع اللغوي، وإذا ما احتوي علي رسالة وفكر شريف قد أصاب كبد الحقيقة وملك قلوب الناس واستحوذ عليهم. هل الدراسة متاحة لغير الأتراك هنا؟ طبعا.. المعهد عالمي ويستقبل الطلاب من كل العالم خاصة أولئك الذين يرغبون في الدراسة بجامعات تركيا.. فنحن نؤهلهم بتعلم التركية.. والطلاب يحصلون علي تأشيرة دراسة وهنا يسجلون للدراسة والإقامة سنة واحدة يمكن تجديدها إذا لزم الأمر وملحق بالمعهد سكن خاص بمصروفات قليلة جدا مراعاة لظروفهم.. وهنا ندرس التركية في 6 دورات علي 3 مستويات كل مستوي دورتان كل دورة تستغرق شهرا كاملا به 04 حصة تؤهل الطالب للدراسة بالجامعة.. وأظن في الأزهر الشريف معهد توأم لمعهدنا وهو معهد تعليم العربية لغير الناطقين بها خاصة الطلاب الوافدين للدراسة بالأزهر. قبل أن نتحدث عن مستقبل الترجمة.. لمن يقرأ د.محمد جيلين من كتاب ومفكري مصر؟ آآه.. ذكرتني بالعمالقة المصريين الكتاب والمفكرين ومن لايعرفهم ينقصه الكثير.. بصراحة عندي قراءات متنوعة فأنا قارئ نهم للمفكر العالمي الدكتور محمد عمارة ومؤلفاته حول العلمانية وعلاقة الإسلام بالفنون الجميلة.. كما أقرأ للمفكر الكبير الدكتور علي شلش ونجيب محفوظ والكيلاني رائد قصص الأطفال وأيضا أقرأ للعلامة سيد قطب وعبدالقادر عودة ومصطفي مشهور وخالد محمد خالد.. وغيرهم من العلماء المصريين ولاسيما د. مصطفي محمود وفاروق شوشة والراحل مصطفي عبدالرازق.. ومحمد حسين هيكل وكلهم نجوم في الفكر العربي. ويقول: يقابل هؤلاء من العلماء الأتراك نخبة من صفوة المفكرين والشعراء الأتراك والأكراد.. مثل الفقيه التركي الدكتور خير الدين كارامان وهو أستاذ الفقه المقارن والشريعة.. وأيضا الدكتور علي بولانش أستاذ علوم الاجتماعيات.. وهو صحفي مشهور ومن الشعراء الأتراك: نجيب فاضل ومحمد عاكف أرسوي وهو مؤلف النشيد الوطني التركي وأيضا جاهيدكر ظريف أوغلو. إذن هناك مشترك بيننا يستحق أن نكرس جهودنا لترجمته؟ بالتأكيد هناك كنوز معرفية هائلة لدي المصريين والعرب بصفة عامة ولدي الأتراك، كنوز فكرية مثلها لذلك نحن نفكر جديا هنا في تحويل قسم الترجمة إلي كلية خاصة مهمتها النهوض بالترجمة من العربية إلي التركية وبالعكس وأظن كل العلماء الذين أشرت إليهم هنا وهناك تستحق مؤلفاتهم أن نعكف علي ترجمتها لنحقق رافدا مهما للتبادل الثقافي بين العرب والأتراك.. لاشك أنك تلاحظ تهافت المصريين علي تركيا سواء في السياحة والترفيه أو حتي في طلب الزواج من تركيات وهذا إحساس قديم.. بلا شك لنا عندكم أحفاد كثر أمهاتهم وجداتهم تركيات.. ويضيف د.محمد حسن جيلين: أنا بصفة شخصية قمت بترجمة كثير من مؤلفات د.علي شلش وسيد قطب وعبدالقادر عودة وأسعي إلي ترجمة بعض أعمال صاحب نوبل نجيب محفوظ والكيلاني ومحمد حسين هيكل ومحمد عمارة.. وفي المقابل سأترجم لعلمائنا نخبة من مؤلفاتهم لعلنا نفيد القارئ هنا وهناك ونقلل فجوة الغربة بين العربية والتركية.. أنا مهتم بهذا والدولة تشجعني في ظل تغير السياسة وتوجه تركيا نحو العرب بقلب مفتوح. كيف تري الأدب المصري؟ الأدب المصري رائع جدا خاصة واقعية نجيب محفوظ والثلاثية الرائعة التي شاهدناها أفلاما ومسلسلات وهي تنافس بحق المسلسلات التركية مهما كانت جودتها.. فنكم القديم واقعي يصور الحياة بدقة.. لذا أعشقه بحق! وكيف تري مصر ولم تزرها بعد..؟ أصارحك.. أتمني زيارة مصر وصورة مصر عندنا أم الدنيا وفيها الأهرام والنيل والأزهر وأم كلثوم التي أتمايل معها طربا ولك أن تعرف أن خريجي الدراسة بمصر عندما يعودون إلي تركيا نعدهم من المتميزين ولهم مكانة وتقدير لأنهم تعلموا في مصر..! كيف تري مستقبل الإسلام في الغرب؟ رائع ومبشر الإسلام ينتشر بقوته الناعمة.. فهو دين الرحمة والعدل والمساواة وحماية الضعيف من سطوة الأقوياء وكلما قرأ الغرب عن الإسلام زادت قناعته بصدق رسالة النبي [ وأنه دين الحق.. ولو نظرنا إلي تعداد المسلمين في الغرب سنعرف كيف يزداد عددهم كل يوم.. وهنا أستحضر كلمة العلامة الشيخ محمد الغزالي المصري.. إن شمس الإسلام ستشرق قريبا ولكن من هناك من الغرب حيث منتهي القوة والتكنولوجيا والعلم.. الإسلام قوة ويحتاج إلي قوة تحميه وهذا لايعني أن ننتظر حتي يقوم الغرب بصحوته ولكن علينا أن نبادر نحن ونسعي لنخدم ديننا الحنيف.. علينا أن نسعي وعلي الله القبول والنجاح. وأخيرا كيف تري حكم الإسلاميين بعد الربيع العربي؟ يقول الدكتور محمد حسن جيلين: بصراحة خبراتهم ضعيفة ويحتاجون وقتا للفهم والتدريب.. هل ينطبق هذا علي التنمية والعدالة والتركي؟ الوضع مختلف أردوغان زعيم الحزب عمل سنوات بالإدارة المحلية وآخر مناصبه محافظ استانبول.. وكثير من مساعديه كذلك لذا فهو تمرس في الإدارة وبعد 01 سنوات استقر الحكم وللعلم والإنصاف .. لقد صادف حكم التيار الإسلامي بتركيا مشاكل ومعاكسات تفوق مايحدث في مصر الآن خاصة من القوميين والشيوعيين الذين حاولوا كسر إرادة الاسلاميين وإسقاط مشروعهم النهضوي وظلت محاولاتهم تفشل 3 سنوات حتي بدأ البرنامج يؤتي ثماره وقد أدهش المعارضة هذه السرعة في الأداء والإنجاز علي كل المستويات خاصة مستوي دخل المواطن التركي الذي تضاعف 5 مرات تقريبا.. التجربة الإسلامية رائعة وممتازة لكنها تحتاج إلي صبر وخبرة وإخلاص..