هي البديل الوحيد للمواطن البسيط في ظل الارتفاع الجنوني لأسعار اللحوم والدواجن، وهي البديل "الأمن" لكل ما لحق باللحوم الحمراء من أضرار وأمراض، وما أصاب اللحوم البيضاء من أنفلونزا دمرت أكثر من 60٪ من ثروتنا الداجنة.. إنها الأسماك.. آخر أنواع اللحوم التي تلجأ إليها ملايين الأسر المصرية الفقيرة لتعتمد فيها علي الغذاء وتشبع رغبتها في تناول اللحوم التي تنظر إليها، وكأنها حلماً بعيد المنال. وفي الوقت الذي يتراجع فيه معدل استهلاك الفرد في مصر من اللحوم الحمراء والبيضاء، فإن معدل استهلاك الأسماك يرتفع، ومع ارتفاع أسعار اللحوم الحمراء والبيضاء، لا يجد المواطن البسيط سوي الأسماك ليقبل علي شرائها، باعتبارها البديل المثالي لسد الفجوة في مصادر البروتين الحيواني لأغلب المصريين. ووفقاً لما أعلنه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن إجمالي الإنتاج السمكي، بلغ 4.1 مليون طن عام 2011 مقابل 3.1 مليون طن عام 2010 بنسبة زيادة قدرها 7.7٪ ويرجع ذلك إلي زيادة كمية إنتاج المزارع السمكية وحقول الأرز، حيث يأتي إنتاجها في المرتبة الأولي. وذكر الجهاز في النشرة السنوية لإحصاءات الإنتاج السمكي للعام 2011 والتي أعلنها اللواء أبو بكر الجندي، أن نسبة إنتاج المزارع السمكية بلغت 72.4٪ من إجمالي الإنتاج السمكي، وتليها البحيرات بنسبة 12.0٪.. ثم المياه البحرية بنسبة 9.0٪.. ثم المياه العذبة بنسبة 6.6٪. هذه الأرقام المليونية لا تكفي احتياجات المصريين من الأسماك، في ظل ابتعاد وعزوف المواطنين عن شراء اللحوم والدواجن، فأصبحت مصر إحدي أكبر الدول المستوردة للأسماك، وبات إنتاجنا المحلي للأسماك لا يكفي، وغزت الأسماك المجمدة الأسواق المصرية سواء بالقاهرة، وحتي بالمدن الساحلية. المجمد والمستورد ورغم تأكيدات الهيئة العامة لتنمية الثروة السمكية أن ثروة مصر السمكية تضاعفت في السنوات الأخيرة، ما يقرب من خمس مرات، إلا أن الواقع لا يتفق مع ذلك فما يقرب من 60٪من الأسماك المتواجدة في الأسواق صينية بداية من البلطي الصيني مروراً بالماكريل والسالمون والسردين نهاية بالجمبري. عدد من الصيادين أكدوا أن تراجع إنتاجنا السمكي جاء نتيجة زيادة نسبة الصيد الجائر أو ما يعرف ب"الزريعة"، وهي الأسماك الصغيرة المحظور الاقتراب منها حفاظاً علي الثروة السمكية، والتي يتم صيدها وتهريبها بشكل غير قانوني، وكذلك ارتفاع نسبة التلوث بالبحر المتوسط، وتقلص مساحات البحيرات وتلوثها، واستمرار عمليات الصرف الصناعي في المياه، وارتفاع تكاليف التراخيص. وبالفعل ارتفعت أسعار الأسماك بمختلف أنواعها، حسب تقارير صادرة عن شعبة الأسماك بالغرفة التجارية، لتتراوح زيادتها ما بين 20 إلي 30٪ فعلي سبيل المثال تراوح سعر كيلو السمك البلطي ما بين 10 إلي 15 جنيهاً، في مقابل من 8 إلي 10 جنيهات، قبل 6 أشهر، أما السمك البوري فيتراوح سعره حالياً ما بين 20 إلي 25 جنيهاً للكيلو في مقابل نحو 15 إلي 20 جنيها من قبل. تحذيرات عديدة أطلقها عدد من الخبراء، تدق ناقوس الخطر، من تزايد حجم الفجوة الغذائية في الأسماك، وإشارات متلاحقة إلي أن الثروة السمكية تحتاج لمزيد من الاهتمام الحكومي، خاصة بعد حدوث ندرة ملحوظة في الأسماك في البحرين الأبيض والأحمر، والتي جعلت البعض يطلق علي السواحل المائية المصرية، "صحراء مائية"، بسبب هروب الأسماك إلي مناطق أخري بعيدة عن المياه الإقليمية لمصر، وطالب عدد من الخبراء بضرورة تدخل الدولة لإنقاذ الصيادين المصريين من خلال عقد اتفاقيات دولية مع دول الجوار تسمح لهم بالصيد في المياه الإقليمية القريبة للسواحل المصرية خاصة ليبيا وإريتريا والسودان واليمن. الدكتور كارم أبوالوفا، أستاذ الثروة السمكية بمركز البحوث الزراعية، أكد أن إحدي أهم المشكلات التي تواجه الصيادين في الوقت الحالي هي ندرة الأسماك وقيام بعض العصابات المحترفة بصيد "الزريعة" أو السمك الصغير بهدف نقله إلي مزارع سمكية أخري، وهو ما ضاعف من تأثير مشكلة ندرة الأسماك علي الصيادين الآخرين. وأكد أن مشكلات ندرة الأسماك في المياه الإقليمية كان لها تأثير مباشر علي ارتفاع أسعار الأسماك في الأسواق، مشيراً إلي أن دمياط وحدها شهدت ارتفاعات متكررة في الأسعار، وصلت ل15٪ في أقل من عام. أضاف: "نحن نستورد أسماكاً بأكثر من 60 مليون دولار سنوياً، رغم أن لدينا أكبر أسطول ملاحي في العالم، ونطل علي بحرين ونهر النيل و8 بحيرات". وقال إن المجهودات التي تعلن عنها الثروة السمكية هي مجرد مجهودات علي الورق وليس لها أي أساس علي أرض الواقع الذي يعاني من مشكلات جمة تهدد مصدراً استراتيجياً للغذاء في مصر، وطالب بتدخل الدولة لعقد اتفاقيات مع دول الجوار للسماح للصيادين بالصيد خارج المياه الإقليمية لتخفيف معاناتهم وتسهيل الحصول علي التراخيص. بينما أكد حسام خليل، رئيس الجمعية التعاونية لصائدي الأسماك بعزبة البرج، بمحافظة دمياط، أن التلوث الناجم عن تصريف مخلفات الصرف الصحي والمصانع يعد من أهم أسباب هروب وموت الأسماك في كل السواحل المصرية، مشيراً إلي أن الجهات المسئولة عن تنمية الثروة السمكية لا تشعر بالخطر الحقيقي الذي يهدد قطاع الأسماك، مشيراً إلي أن هناك 2 مليون صياد بمصر يوفرون إنتاجاً سمكياً بمليارات الجنيهات، ويحتاجون لاهتمام الدولة بهم وبمشكلاتهم. وكشف عن وجود مجموعات تتاجر بمشكلات الصيادين، حيث يقومون بتحصيل مبالغ ضخمة لمساعدة المراكب في الحصول علي ترخيص الصيد خارج المياه الإقليمية تصل في بعض الأحيان لأكثر من 50 ألف دولار، في رحلات الصيد التي تصل مدتها ل30 يوماً، مع ندرة الأسماك في المياه الإقليمية، ويضطر الصيادون للدفع لأن تلك الأماكن مازالت بكرا وغنية بالأسماك. الاستزراع السمكي بينما تحدثنا الدكتورة لبني نعيم، أستاذ الثروة السمكية، عن نوع آخر من المخاطر التي تهدد الثروة السمكية في مصر، وهو الاستزراع السمكي الخاطئ فتقول: "إقامة المزارع السمكية علي مياه الصرف الزراعي من أكبر الأخطاء، التي تجعل الغرب ودول أوروبا يضحكون علينا، فالاستزراع السمكي عندنا يختلف كل الدول التي تأخذ المياه الجيدة الصالحة وليس الصرف الزراعي لتربية الأسماك، وبالتالي تخرج المياه من أحواض التربية مشبعة بالمواد العضوية التي تفيد الزراعات النباتية وتزيد من خصوبة التربة الزراعية". تابعت: لكن في مصر يتم العكس حيث تستخدم المياه الخارجة من الأراضي الزراعية "صرف الأراضي"، والتي تكون مشبعة بالمواد الكيماوية والمبيدات التي ترش علي النباتات، فتدخل إلي السمك لتصيبه بالأمراض، وحتي إن لم يظهر عليه المرض فيكون متواجداً في أحشائه ويتأثر به ولذلك لا يتم التصدير للدول الأوروبية لأنه مخالف للمواصفات القياسية والبيئية والصحية. وأشارت إلي أن الاستمرار في إعادة استخدام مياه الري الزراعي بعد خلطها بمياه النيل سياسة خاطئة اتبعت في الفترة السابقة، وتؤدي لآثار بيئية سلبية تؤثر علي نظم الاستزراع السمكية، وعلي إنتاجها في مناطق دلتا النيل. سمك الصحراء وأوضح الدكتور مصطفي محمد سعيد، الأستاذ بمركز بحوث الصحراء، والخبير المتفرغ في الاستزراع السمكي بالمناطق الصحراوية والساحلية، أن الاستزراع السمكي خاصة بالصحراء يعد أحد أهم السبل الواجب علي الحكومة والقطاع الخاص الاهتمام بها نظراً لما تمثله من وسيلة لسد الاحتياجات المتزايدة من البروتين الحيواني، إضافة لدورها في دعم خطط ومشاريع استصلاح الصحراء والتقنين الأمثل لاستغلال مواردنا المائية خاصة في ظل التهديدات المائية المنتظرة. وأشار إلي أن أهم عائق يواجه من يتجه لهذا النوع من المشاريع الهامة للحفاظ علي أمن مصر الغذائي ذكر أنها البيروقراطية وتراخيص المزارع، ففي الوقت الذي تعاني فيه مصر نقصاً حاداً في البروتين الحيواني، فإن استزراع الأسماك الذي يعد أكثر مشاريع إنتاج البروتين الحيواني اقتصادية يحارب من مانحي تراخيص المزارع فما بين الرفض والترخيص ل5 سنوات فقط قابلة للتجديد مما لا يشجع المستثمرين. وطالب سعيد، الحكومة باتخاذ اللازم لتشجيع الاستثمار في هذا المجال خاصة بين الشباب، مؤكداً أن المياه الجوفية لا تحتوي علي أي عناصر مغذية للتربة كذلك الأرض الصحراوية تفتقد إلي المواد العضوية ويؤدي استخدام المياه تحت هذا النظام إلي إثراء المياه بالمادة العضوية التي تفتقر إليها التربة في المناطق الصحراوية.