انتفض الشعر بأولي شرارات التعبير الساخن عن الأحداث الكبري: في ثورة 25 يناير وماقبلها من وقائع في حياة الأمم والشعوب، فتلك هي شيمة الشعر أن ينبض كالدماء في الشرايين المتحمسة ذات التوجه والتوهج الثوري المضيء. وقبل ثورة 25 يناير بقليل، صدر عن المجلس الأعلي للثقافة كتاب قيم عن الشاعر الكبير سيد حجاب بعنوان (صياد الحواديت)، ولظروف الزخم السياسي السابق والراهن، ابتلعت الأحداث الكتاب الذي يكشف عن الدر المكنون في إبداع الشاعر الرفيع من تأليف الشاعر إبراهيم خطاب وتقديم صبري قنديل وهو كما يصفه مؤلفه (قراءة جمالية حول ظلال التجربة الإبداعية) لسيد حجاب الذي زار قطاع غزة مؤخرا ضمن وفد مصري رفيع من السياسيين والمبدعين والإعلاميين للتأييد والمؤازرة. »من عمق مصر النابض يأتي هذا الكتاب ليعكس حصاد المصداقية في علاقة المبدع الصادق بناسه الذين أحبهم في قصيدته.. فسيد حجاب لايزال يصرخ في برية الواقع العربي باعتباره واحدا من أهم صناع الأحلام والمحرضين علي الإمساك بأهدابها.. فقد كان ديوانه المرئي الذي قدمته الدراما التليفزيونية في الربع الأخير من القرن العشرين متواصلا في القرن الحادي والعشرين، علامة بارزة تجاوزت السائد لتؤكد المشروع الإبداعي لسيد حجاب الذي صار لسان قومه«.. هذا الاقتباس السابق من مقدمة الكاتب صبري قنديل عن سيد حجاب في الكتاب الدسم الجميل. كانت تجربة الشاعر سيد حجاب مع الثنائي الراحل: الكاتب الدرامي الفريد أسامة أنور عكاشة وعمدة الدراما التليفزيونية المخرج إسماعيل عبد الحافظ مثل الملاحم التي رسخت في الذاكرة الثقافية للأمة وارتبطت بالمكون الفكري والتاريخي والاجتماعي لها.. فمن ينسي الملحمة الدرامية الخالدة (ليالي الحلمية) التي أصبح الشعر المصاحب لبدايتها أيقونة وطنية قال فيها سيد حجاب: منين بييجي الشجن.. من اختلاف الزمن ومنين بييجي الهوي.. من ائتلاف الهوي ومنين بييجي السواد.. من الطمع والعناد ومنين بييجي الرضا.. من الإيمان بالقضا هكذا وعلي حد تعبير الكاتب صبري قنديل ظل سيد حجاب ومازال ملازما لما تختلج به الصدور الإنسانية وما تحمله تطلعات الناس إلي الخلاص من ربقة الظلم والاستبداد، والتطهر من أدران الفساد والاعوجاج الصارخ الذي جاءت به التحولات، وانحرافات المسار التي لاتزال في سعيها ماضية بالوطن إلي مهاوي الخطر. يضع الشاعر إبراهيم خطاب مؤلف كتاب (سيد حجاب صياد الحواديت) شاعرنا الكبير المذكور ضمن المبشرين والمنذرين لشعوبهم فهو: »رجل ظل قابعا سبعين ربيعا يقرأ الوجوه والملامح، متأملا الجباه الساخنة الملتهبة، وتلك الجباه الأكثر برودة من صقيع الشمال، فاردا كفيه ومشيرا صوب منحنيات مختلفة الألوان للتلافيع الملتفة حول طواقيها الصوف الخشنة والناعمة، ونحن نكون حلقة كبيرة وممتدة بالجرن الكبير حيث يجلس بيننا في مقام الشيخ ونحن المريدون، ينشد لنا حكايات النجار والحداد والبناء والصياد والفواعلي والفلاح.. يطرز من عدودة خالتي بهانة بائعة النشوق بالقرية أناشيد جديدة لليلة أخري جديدة، وكما علمتنا الحياة، يعمل الفلاح بالفأس ويعمل النجار بالشاكوش ويعمل المهندس بالمسطرة ويعمل الصياد بالشبكة، أما هو (سيد حجاب) فيعمل بالقلم والفرشاة معا، فهو لايكتفي بفعل الكتابة لنا بل يكتب ويصور ماكتب لنقرأ ونري في آن واحد ما كتب لنا كأنها مشاهد وكادرات متتالية تلتقط من الماضي عبقه وعراقته، وتستشرف الغد الأكثر اخضرارا بابتسامته العذبة«. وفي إضافة أخري محبة يقول المؤلف إبراهيم خطاب: »الشاعر سيد حجاب ليس واحدا من الذين أعادوا الابتسامة إلي قلوبنا المهيضة وجوارحنا المجهدة فقط، بل هو واحد من الذين شربوا وتشربوا ثقافة الشوارع والحارات والأزقة والمنعطفات المصرية بالقري والنجوع والمدن، وأعاد إلينا بضاعتنا في ثوب أكثر رقة وتهذيبا وألما.. لايعرف طقوسنا إلا واحد منا، فالطقوس والعادات والموروثات الشعبية المختلفة لاتتأتي بفعل القراءة والتثقيف بل بالممارسة والممارسة فقط.. لم يرث سيد حجاب عن أبيه الكثير، لكنه ورث عنا جميعا ما هو أكثر، فقد ورث عن الفلاح فأسه ومحراثه، وورث عن النجار شاكوشه ومنشاره، وورث عن الكمساري صفارته ودفتر تذاكره وورث عن الصياد شبكته وغزله وورث عن الأراجوز أصابعه المتحركة.. ولم يكن هذا هو إرث سيد حجاب فقط، بل ورث عن الراحل بديع خيري خفة الظل وليونة الجملة الشعرية وورث عن الراحل بيرم التونسي الإقدام وقت النزال والقدرة علي التحمل، وورث عن الراحل فؤاد حداد المثابرة والتواضع، وورث عن الراحل صلاح جاهين البساطة وفلسفة الرؤية دون تكلف والغنائية بعمق. »نلمح بين ثنايا مفرداته عصافير مابعد الفجر في غدوها ورواحها بزقزقتها العابرة بين فتحات شيش الشبابيك المغلقة، ورائحة الطمي والسباخ، وهؤلاء البسطاء العائدين من صلاة الفجر ونعالهم تنقر الأرض فتصحو بهائمهم استعدادا ليوم جديد.. كيف لنا ألا نعرفه ونحن نصحو وننام علي مفرداته المعطرة بدخان الكانون، وخبيز ما بعد الفجر بطزاجته وليونته.. نلمح خلف سطوره الشعرية لوحات الفنان محمود سعيد في سكونها وحركتها معا.. في ألوانها بين الدافئة والباردة.. في أفراحها وأتراحها، ومابين تماثيل محمود مختار في عراقتها وبساطتها.. في سموها وشموخها«. في كافة تفاصيل جذور الأصالة المصرية رصد المؤلف إبداع سيد حجاب مقتبسا ومعبرا أبلغ وأرقي تعبير عن بصمات الشخصية المصرية المكللة بالبساطة والعظمة في آن واحد.. هذا كتاب محترم عن شاعر أصيل وفريد وكبير نسج مع أقرانه من شعراء سبقوه أو زاملوه أو لحقوا بقاطرة الشعر الفخم خارطة حب وطنية وإنسانية مرهفة لمصر وناسها.