بدأ الشعب يحس لأول مرة ببداية أزمة مارس 4591 يوم 52 فبراير سنة 4591.. فقد استيقظ الشعب في ذلك الصباح علي أصوات باعة الصحف تنادي »استقالة محمد نجيب«.. »عبدالناصر رئيس الوزارة«.. وبلغت مبيعات الصحف في ذلك اليوم أرقاما خيالية. لقد نشرت الصحف بيان مجلس قيادة الثورة وتضمن قبول الاستقالة المقدمة من محمد نجيب من رئاسة الجمهورية ورياسة الوزارة ومن جميع الوظائف التي يشغلها.. وهي الاستقالة التي بعث بها للمجلس يوم 32 فبراير.. وجاء في البيان »أن مجلس قيادة الثورة قرر أن يستمر بقيادة البكباشي جمال عبدالناصر ر ئيسا لمجلس الوزراء علي أن يبقي منصب رئيس الجمهورية شاغرا إلي أن يتم شغله بالانتخاب بعد عودة الحياة النيابية. ذكر البيان أن اللواء محمد نجيب طلب أن يكون له حق الاعتراض علي أي قرار يجمع عليه أعضاء مجلس الثورة، وطلب أن يباشر سلطة تعيين الوزراء وعزلهم، وسلطة الموافقة علي ترقية الضباط.. أي أنه طالب بسلطة فردية مطلقة، وأن المجلس حاول بكافة الطرق الممكنة طوال الشهور العشر الماضية إقناعه بالرجوع عن طلبه ولكنه عجز عن إقناعه عجزا تاما، وتوالت اعتكافاته بين وقت وآخر حتي يجبر المجلس علي الموافقة علي طلباته إلي أن وضع المجلس منذ أيام ثلاثة أمام أمر واقع مقدما استقالته. تحديد إقامة نجيب وفي اليوم التالي تم تحديد إقامة محمد نجيب في منزله بالزيتون، وعقد صلاح سالم مؤتمرا صحفيا أعلن فيه أن أعضاء مجلس الثورة كانوا قد قرروا الانسحاب من الحكم وتركه لنجيب، وأنهم أرسلوا إلي وحدات الجيش هذا القرار، إلا أن الضباط ما إن علموا بهذا القرار حتي أرسلوا مبعوثين مصريين علي أن يحيد أعضاء المجلس عن هذا القرار. وبدأت تصريحات متتالية كل يوم تقريبا للصاغ صلاح سالم تبرر أسباب قبول المجلس استقالة نجيب.. أخذ يردد في كل مجال وعلي صفحات الصحف ما يشير إلي أن محمد نجيب أراد أن يحكم البلاد بمفرده عن طريق السيطرة الكاملة علي مجلس الثورة.. وكان يضرب أمثلة علي ذلك منها أنه طلب ألا يقابل أي فرد منا سفيرا من سفراء الدول الأجنبية، ولما ناقشناه في ذلك رفض المناقشة ثم تقدم بحل وسط وهو أن يمتنع عن مقابلة أي سفير ونمتنع نحن بدورنا عن مقابلاتهم ونترك هذه المهمة لوزير الخارجية.. ورفضنا اقتراحه.. ومن الأمثلة التي كان يسوقها صلاح سالم للتشهير بنجيب أنه كان يستدعي رجال الإذاعة ويأمرهم بتكرار إذاعة خطبه مرات ومرات، حتي نشرة الاخبار لم يكن يسمح بقراءتها إلا بعد أن يدون بنفسه أخبار اتصالاته وزياراته ومقابلاته وما يريد ويحذف مالا يريد من أخبار. صلاح سالم يكذب! ونشر صلاح سالم أنه اضطر إزاء تصرفات نجيب مع الإذاعة وتضارب أوامره مع ماكان يصدره لموظفي الإذاعة بصفته مديرا للإذاعة خلال شهري أكتوبر ونوفمبر سنة 3591 إلي أن يتوجه إلي السجن الحربي وكان مقره وقتئذ في ميدان باب الحديد رمسيس حاليا وأدخل نفسه زنزانة حتي جاءه حسين ذو الفقار صبري وبعض زملائه وأخرجوه من السجن لمعاودته مباشرة نشاطه. وقال صلاح سالم إن ضباط الجيش حضروا إليهم في مجلس الثورة وهددوهم بقتل نجيب وإعادتهم لمباشرة سلطاتهم في حكم البلاد.. ولذلك فهم بين أمرين: إما الخضوع لرغبات نجيب وترك الحكم له، أو الخضوع لرغبات ضباط الجيش.. وكان هذا أخطر ماقاله صلاح سالم.. فقد كان يعني قيام حرب أهلية طرفاها الشعب الذي خرج في مظاهرات صاخبة عنيفة تطالب ببقاء نجيب.. والجيش الذي ادعي صلاح سالم أن ضباطه هددوا بقتل نجيب.. واستمرت المظاهرات يومين.. وفي الساعة السادسة والنصف من مساء يوم 72 فبراير سنة 4591 أذيع بيان من مجلس الثورة نصه: حفظا علي وحدة الأمة يعلن مجلس قيادة الثورة عودة الرئيس اللواء محمد نجيب رئيسا للجمهورية، وقد وافق سيادته علي ذلك. وفي اليوم التالي خرجت المظاهرات العنيفة التي هددت بتكرار حادث حريق القاهرة تعلن ابتهاجها بعودة نجيب، ورغم استخدام قوات الأمن الرصاص في تفريق المتظاهرين إلا إنهم استمروا في مسيرتهم حتي ميدان عابدين يحملون قمصانا ملوثة بالدماء انتزعوها من فوق أجسام ضحايا البوليس ولم يتفرقوا إلا بعد أن ألقي فيهم محمد نجيب كلمة تطمئنهم إلي عودة الحياة النيابية. وكانت خلال تلك اليومين قد جرت اجتماعات مستمرة ومحاولات لإعادة محمد نجيب حتي يعود الهدوء إلي البلاد.. ثم تم الاتفاق أن يعود نجيب رئيسا للجمهورية ويبقي عبدالناصر رئيسا لمجلس الثورة ومجلس الوزراء. مظاهرات تأييد لنجيب ولكن الحالة في البلاد لم تهدأ.. فقد استمرت المظاهرات تؤيد محمد نجيب، وحدثت اشتباكات بين المتظاهرين ورجال الأمن وسقط عدد من الجرحي وقبض علي عدد قيل إنهم مدبرو هذه المظاهرات.. وسافر نجيب إلي السودان يوم أول مارس وعاد بعد 42 ساعة ليذيع بيانا محاولا تهدئة النفوس معلنا أنه ومجلس الثورة قلب واحد ويد واحدة. وساد الهدوء أياما قليلة لا تتجاوز الأسبوع.. ولكن داخل النفوس كانت هناك ثورة.. محمد نجيب أحس بحب الشعب له وتمسكه به.. أحس بعودته أنه أصبح بعيدا عن الحكم وأن كل السلطات في يد عبدالناصر.. وبدأ بأزمة أخري.. وباستقالة أخري.. كان يصر علي تحديد سلطات رئيس الجمهورية وسلطات مجلس الثورة.. وتقرر بحث الموضوع في مؤتمر يحضره أعضاء مجلس الثورة وأعضاء مجلس الوزراء ويرأسه نجيب.. وتحدد موعد الاجتماع يوم الاثنين 8 مارس. واجتمع أعضاء المجلسين ولم يحضر محمد نجيب.. واتصل به سليمان حافظ في منزله يبلغه بانتظار الجميع وصوله.. وقال له إنه سيحضر.. ووصل نجيب، وصافح الجميع.. وسادت فترة من الصمت.. وفجأة قال جمال عبدالناصر: أنا متنازل عن كل شيء في سبيل وحدة الوطن.. لقد ضحينا بحياتنا من أجل بلادنا في وقت من الأوقات لتنجح الثورة وأن من واجبي لهذه الثورة أن أتنازل عن أي سلطة أُسندت إليَّ.. ولهذا فأنا أعلن تنازلي عن رئاسة الوزارة ورياسة الثورة للواء محمد نجيب.. وقام نجيب وعانق عبدالناصر، وتقرر أن تعود الأوضاع إلي ماكانت عليه قبل أزمة استقالة نجيب. جمعية تأسيسية للدستور وبدأ الحديث عن إقامة جمعية تأسيسية تضع الدستور وتجري الانتخابات النيابية لتشكيل البرلمان الذي ينتخب أعضاؤه رئيس الجمهورية علي أن يتم كل ذلك في يوليو في نفس العام.. وبدأ الإعلان عن التفكير في إقامة الحزب الاشتراكي الجمهوري وأن يرأسه نجيب ويكون سكرتيره عبدالناصر وسيدخل أعضاء الحزب الانتخابات البرلمانية.. وتمهيدا لكل ذلك تم رفع الرقابة عن الصحف، إلا أنها أعيدت بعد 42 ساعة من رفعها علي جريدة القاهرة المسائية لنشرها خبرا غير صادق تضمن الإفراج عن رشاد مهنا، وكان قد حوكم لاتهامه بتدبير مؤامرة ضد محمد نجيب. واستعدت البلاد كلها لعودة الحياة النيابية والأحزاب.. وفجأة.. في يوم 22 مارس أعلن مجلس قيادة الثورة عدوله نهائيا عن فكرة إنشاء »الحزب الجمهوري« وأعلن محمد نجيب أن الجمعية التأسيسية سيتم قيامها قبل 32 يوليو وأن الأحكام العرفية ستلغي قبل 81 يوليو وأنه سيتم الإفراج عن المعتقلين إلا من صدرت ضدهم أحكام قضائية. وأثارت تصريحات نجيب أزمة جديدة.. وفي 42 مارس بدأت بوادرها تظهر.. فقد امتنع جمال عبدالناصر وصلاح سالم عن حضور اجتماع مجلس الوزراء وتقرر عقد مؤتمر لأعضاء مجلس الثورة ومجلس الوزراء في اليوم التالي. 6 قرارات مهمة وفي يوم 52 مارس اجتمع مجلس الثورة.. ودارت مناقشات عنيفة، وانتهي المجلس إلي اتخاذ 6 قرارات هي: السماح بقيام أحزاب. المجلس لا يؤلف حزبا. عدم حرمان أي مواطن من الحقوق السياسية حتي لايكون هناك تأثير علي حرية الانتخابات. يجري انتخاب الجمعية التأسيسية انتخابا حرا ومباشرا دون أن يعين أي فرد، وتكون لها سلطة القيادة والسيادة وسلطة البرلمان كاملة. حل مجلس قيادة الثورة يوم 42 يوليو باعتبار أن الثورة انتهت وتسلم لممثلي الأمة الشرعيين. تنتخب الجمعية التأسيسية رئيسا للجمهورية بمجرد انعقادها.. وكان هذا مايريده محمد نجيب.. واعتكف عبدالناصر في منزله، وبدأت الأزمة تنفجر وتوقفت الحياة تماما في مدينة القاهرة يوم 72 مارس بعد أن قام عمال النقل بإضرابهم مطالبين باستمرار مجلس الثورة في مباشرة سلطاته وعدم السماح بقيام أحزاب، ومعارضة إجراء أي انتخاب حتي جلاء المستعمر.. كما قامت مظاهرات صاخبة تعترض علي تلك القرارات وتطالب ببقاء المجلس وكانت تردد هتافات موحدة: »لا تتخلي عنا ياجمال إلي القتال ياجمال لاحزبية ولا انتخابات«. واستمرت الفوضي تعم البلاد ثلاثة أيام، وكان آخر ماقام به المتظاهرون هو الهجوم علي مجلس الدولة والاعتداء علي الدكتور عبدالرازق السنهوري رئيس المجلس علي أساس أنه هو الذي أعد قرارات الانتخابات وتشكيل الجمعية التأسيسية وسيتولي رئاسة الوزارة.. وفي يوم 92 مارس اجتمع مجلس الثورة وقرر العدول عن قراراته السابقة.. والبقاء في الحكم حتي يتم جلاء الانجليز. وانتصر عبدالناصر علي نجيب في هذه المرة.. وكان ثمن انتصاره أربعة آلاف جنيه دفعها إلي صاوي أحمد صاوي رئيس اتحاد عمال النقل!