السم في العسل!.. أحيانا ما تكون أغاني حب الوطن مجرد ثرثرة ونفاق للحاكم الذي يتوحد جبريا معه، مثلما حدث في عهد البائد مبارك، حيث كانت مصر مبارك ومبارك مصر! هكذا يتسلل السم إلي العسل، إذ تنادي الأغاني الوطنية بالانتماء والفداء، ثم يداهمنا فيها اسم الحاكم.. وفي حالة مبارك، زادت جرعة السم عندما ظهرت ذات مناسبة وطنية أغنية فجة قررت بالنيابة عن الشعب أن يكون بقاؤه أبديا »قالت كلماتها المقززة: اخترناك لما شاء الله!!!«. هكذا استمع مبارك وصدق الرغبة الشعبية المزيفة »فرحرح« علي كرسي العرش حتي شاب وخاب واندثر قسرا بفعل ثورة 52 يناير الطاهرة. تفقد أغاني حب الوطن معناها ويتوه هدفها عندما يستأسد ويطغي ويتجبر الحكام، وينتزعون شرعيتهم الزائفة من بعض الشعراء الكذابين، هكذا غفت مصر حزينة في حضن الشجن طوال 03 سنة امتلأت بالفساد المتراكم حتي صار استئصاله بعد ثورة 52 يناير ضربا من العسر المستحيل! هلت علينا ذكري نصر أكتوبر 3791 كتاريخ عزيز من المجد البعيد، فسيناء تحترق بالاختراق والإرهاب.. والفقر يأكل أحفاد جيل هذه الحرب الشريفة.. باءت علاقة الحب المفترضة بين الوطن والمواطن بالفشل.. وأستدعي للضرورة الآن، رأيا صائبا للكاتب الكبير عادل حمودة في أحد البرامج حيث قال إن حب الوطن بدون مقابل ينمي هذا الحب ويعززه هو محض عبث.. وأكد أن الأغنية الشهيرة التي تقول كلماتها »منقولش إيه إدتنا مصر، ونقول حندي إيه لمصر« هي صناعة غنائية خيالية وإن تشدق أبواق السلطة بمحتواها طويلا، فليس من المنطقي »والكلام لعادل حمودة« أن أنتمي للوطن دون أن أعيش حياة سوية أحصل خلالها فيه علي حقوقي الإنسانية حتي أشعر بآدميتي. وفي رأيي أنا أن أي علاقة حب إن لم تكن متبادلة ومبنية علي الأخذ والعطاء، هي علاقة وهمية وفاشلة حتي لو كانت بين الإنسان والوطن الذي يؤويه.. ومن هذه العلاقة الصحية ينشأ حب المواطن للوطن وانتماؤه إليه.. هكذا مثلا يفر الشباب اليائس من مصر التي أهملتهم، وينتحرون غرقا في المراكب المهشمة في طريقهم البائس إلي الوطن البديل بحثا عن الرزق أثناء رحلات التسلل غير الشرعي إلي أوروبا! فالفقر ينفي إحساس الفقير بحب الوطن، وقد أخفقت الأغنيات المصنوعة لترميم هذه العلاقة المهلهلة واستعادتها، وأكرر هنا حكمة فلسفية لسيدنا علي بن أبي طالب ] قال فيها: »الفقر في الوطن غربة والمال في الغربة وطن«.. وهي حكمة عميقة علي بساطتها ووضوحها، وتؤكد ما ذكرته من قبل أن حضن الوطن يجب أن يكون فسيحا ومعطاء ورحيما وسخيا حتي ننتمي إليه ونفتديه بأرواحنا.. وأرض الله الواسعة وطن حنون لمن يجد الاحتواء والرزق في أي بقعة منها.. أما الوطن الأم، فحين تموت العلاقة الصحية بينه وبين المواطن، يصبح مجرد محل للميلاد في خانة بأوراق الهوية! وقد استطاع الكثير من المهاجرين المصريين اكتساب الاحترام والتقدير العالمي في أوطانهم البديلة التي منحتهم الرزق والأمان فنظروا لمصر نظرة عطف وشجن وحب (بأثر رجعي)، وحاولوا أن يردوا لها الجميل فأخفق أكثرهم لشيوع الفساد والبيروقراطية! هكذا لفظهم الوطن مرتين: الأولي عند الهجرة التي نجحوا فيها، والثانية عندما تحطمت آمالهم في تطويره بسبب تراكم الفساد وتحوله إلي منظومة رهيبة تتحكم في مفاصل الدولة الحيوية! يقول الشاعر العملاق صلاح جاهين في قصيدته الغنائية »المصريين أهُمه«: المصري في أي تاريخ ميلادي أو هجري/وف أي مكان وزمان هو هو المصري. هذا اعتراف من قطب الشعر العامي بأن أصالة المصري تحرسه وترفع شأنه في أي مكان وزمان، وليس بالضرورة علي أرض مصر، وهذا ما يعضد حكمة سيدنا علي بن أبي طالب ].. أما لماذا لا يتألق المصري داخل وطنه، فذلك لانعدام وتراجع برامج التنمية البشرية الجادة التي تتيح للفرد والجماعة حياة آدمية محترمة حتي لايشغله الدوران في ساقية البحث الدامي عن الرزق عن تطوير نفسه وإذكاء ملكاته، والتحليق بعبقريته المغيبة في آفاق التطور والإبداع.. وأذكر هنا أن المفكر الراحل د. محمد السيد سعيد طرح علي الرئيس البائد مبارك في لقاء فكري بمعرض الكتاب ضرورة الأخذ بتجارب الدول التي نجحت في تحقيق نهضة المجتمع بتفعيل جاد لبرامج التنمية البشرية، وهو ماكان يخالف وقتها رأي مبارك في التزايد السكاني الرهيب وإعلانه المتكرر عجز دولته الكسيحة عن مواجهته.. وقتها طرح د. سعيد تجارب الهند وماليزيا فضرب رأي مبارك في مقتل، فغضب الأخير عليه واعتبره من أعداء الوطن! وعلي الجانب الآخر، في البر الغربي من البحر المتوسط، يعيش جيراننا الأوروبيون أزمات اقتصادية تضرب العالم كله لكنها لاتضرب انتماءهم لأوطانهم التي نادرا ما يغنون لها »ربما السلام الوطني فقط« فهم لايضيعون الوقت والعمر في نفاق الوطن لأنهم شعوب عاملة ونشيطة، ومؤخرا صدر مايسمي بأطلس السعادة في ألمانيا، وقد أحصي فيه الخبراء أكثر المدن الألمانية سعادة وهي علي التوالي: هامبورج، ودوسلدورف، ودرسدن، وهي مدن جميلة شكلا وموضوعا، (وشديدة النظافة واللمعان وهذه وظيفة البلدية والحكومة)... وفي داخل البيوت تقام أمسيات موسيقية وأوبرالية ممتعة ومبكرة تنتهي في العاشرة مساء حتي لاينزعج الجيران... باختصار أطلس السعادة يساوي حبا متبادلا + أخذ وعطاء بين الوطن والمواطن، فإذا أنشد الألمان شعرا في حب ألمانيا فهذا حق وواجب لأن علاقتهم بوطنهم سوية... أما نحن فأمامنا أطلس التعاسة... نكتب فصوله المطولة ونستفيض!
نصف اليمنيين يعانون من الجوع... إحصائية موجعة من البرنامج العالمي للغذاء... الجوع يتصدر موائد السياسة... أمجاد ياعرب أمجاد!