كنت معجبا بالأستاذ إبراهيم سعده في منتصف سبعينيات القرن الماضي. وكنت زميلا له بصحيفة "أخبار اليوم" قبل انتقالي ل"آخر ساعة". وظل عالقا بذهني أنه كان مراسلا شهيرا بسويسرا، وهي ذات الدولة التي استمتعت بجمال المعيشة فيها أحد عشر شهرا أثناء دراستي الجامعية، وكنت أقدر أنه الصحفي الوحيد بالمؤسسة الذي يكتب مقاله علي الآلة الكاتبة، وقد تعلمت الكتابة بالكمبيوتر مبكرا في الثمانينيات بالسعودية اقتداء به.. لكنني فجعت في الأستاذ سعده لأول مرة خلال انتخابات لمجلس إدارة مؤسستنا في التسعينيات، عندما وزع أحد المرشحين ضمن دعايته صورة لعقد بيع أرض المؤسسة علي كورنيش النيل بتوقيع الأستاذ سعده كرئيس لمجلس الإدارة، وقد أقيم عليها "مول أركاديا" الشهير الذي تصادف، ياسبحان الله، أن يكون المول الكبير الوحيد تقريبا الذي يحترق أثناء ثورة يناير المعجزة وكان واضحا أن سعر بيع الأرض "فضيحة" وأن هناك التفافات كثيرة بالعقد لإخفاء شيء ما.. أما فجيعتي الثانية في الأستاذ سعده فوقعت بمكتب أحد المحامين، وقد ذهبت إليه لبحث اللجوء للقضاء لحماية حقوق المؤسسة في هذه الصفقة المريبة، وكان معي زملائي الأربعة الذين حملوا مستقبلهم علي أكفهم من أجل حماية مؤسستهم ومصدر رزقهم الوحيد، وهم الأساتذة زكي محمد زكي، مجدي كامل، محمد أبو ذكري والسيدة سمر صلاح الدين.. التقينا عند المحامي بشاب عربي قال إنه لاجئ سياسي بمصر، وفي اللحظة التي ذكرنا اسم إبراهيم سعده أمامه أصيب بانزعاج شديد، ونصحنا علي الفور بالابتعاد عن هذه القضية.. وحمل سؤالنا دهشتنا: لماذا؟ فكانت الإجابة بلا مراوغة: إنه أقوي رجال الدولة العميقة، وإنه يأمر فيطاع، وأن مايبدو أمامنا من قوة وارتفاع صوت الأستاذ سمير رجب وثقل وزن الأهرام والأستاذ إبراهيم نافع ما هو إلا أمر مخادع للحقيقة.. فسعده الانعزالي الصامت هو الذي يكلف بالرد الصاروخي علي أي دولة كبري أو كاتب عالمي(روبرت فيسك مثلا) عندما يشنون هجوما علي مبارك، وكانت الدولة العميقة تضع بين يدي سعده أكثر الملفات سرية، وأندر المعلومات الخفية التي لا تذهب لغيره.. (1) لم تكن لفتة الضيف العربي هي الوحيدة المحذرة من خطورة الدخول إلي عش الدبابير أو بالأحري قفص الأسود الجائعة، لكنني علي أي حال كنت معتادا علي التدقيق في المعلومات والمستندات والأدلة لدرجة أنني قد أصبر سنوات للحصول علي مستند سليم، حتي أكون مطمئنا ولا أظلم أحدا.. وعلي ذلك كنت أذهب إلي موقع الحدث وأتحري الواقع بجانب الوثائق الورقية، وقد سمعت مبكرا أن "الغول" كان المستفيد الرئيسي من عملية "أركاديا"، وأن صبور وسعده الموقعين كمشتر وبائع ما هما سوي واجهة وقائمين بعملية الغسيل مقابل بعض الفكة والرضا من الغول "المفتري" الذي تسبب في موت أحد الضباط الأحرار، رجل الأعمال وجيه أباظة حسرة وألما.. ولم يكن لفظ الغول سوي كناية عن رعب أهالي منطقة رملة بولاق من ذكر اسم علاء مبارك، الذي كان معتادا السهر بأركاديا مع مجموعة من الشباب الذين قتل أحدهم وهو ابن لضابط كبير نديمه رجل الأعمال الشاب "روحي" في المول المشئوم، الذي كان يربط بينه وبين أسفل كازينو الشجرة المقابل علي النيل نفق خاص يصل بالمياه مباشرة، حيث ينتظر لنش سريع، لتهريب الغول أو ابن الرئيس المخلوع في حالات الطوارئ.. (2) عندما ذهبنا لأعضاء نقابة الصحفيين لشرح الأمر وكسب دعمهم لموقفنا في مواجهة فساد وافتراء إبراهيم سعده الذي فصلنا نحن الخمسة التقينا برئيس تحرير إحدي مجلات مؤسسة الأهرام الشقيقة، وكان علي صلة وثيقة بالرئيس المخلوع وبالمؤسسة العسكرية، فأبدي إشفاقه علينا ونصحنا بالتعقل قائلا " أنتم تخبطون في سقف البلد"! وفي مبني النقابة انتحي بي زميل دفعتي في التخرج الأستاذ أسامة سرايا »وكان رئيسا لتحرير الأهرام العربي« جانبا وسألني هل تعرف الشخص الذي تعادونه بموقفكم؟ قلت: إبراهيم سعده. قال: وهل تعرف من هو سعده؟ قلت رئيس أخبار اليوم ورجل جهاز سيادي كبير طبقا لوثائق الدولة المعلنة. سألني: وهل تعرف من المستفيد من العملية أجبت بالنفي، فإذا به ينصحني كصديق وزميل أن أبتعد علي الفور لأنه "علاء مبارك"، وكان سؤالي المباغت له: وهل أنت متأكد أنه علاء؟ فقال متوجسا:لا.. وهنا رددت وأنا لم أسمع شيئا!.. (3) ظللنا علي موقفنا، لم يخفنا اسم علاء مبارك ولا لقب الغول ولا الدولة العميقة التي كان يحكم بها مبارك وولداه بشكل مطلق، إذ لم يفكروا في أي حلول لكل مشاكل مصر المحلية والخارجية علي السواء خارج الإطار الأمني، الذي لايعرف سوي لغة القوة بوجهيها السري الناعم والعلني الخشن.. ورغم ذلك المناخ المرعب كانت ظهورنا للحائط ولا نستند علي شيء سوي يد الله الحنونة.. كنا نأمل بالطبع لو أن أبناء مؤسستنا جميعا درسوا الموقف حينها بهدوء واطلعوا علي المستندات الدامغة، ولم يرهبهم التهديد بالبطش ولا الصوت العالي، ولم تغر بعضهم الترقيات المفاجئة مع أنها حقهم ولا يجب أن يكون مقابلها الصمت أو إغماض العين عن الخطأ والفساد، وعلي جانب آخر لو دافع أهل رملة بولاق بالشكل الكافي عن أرضهم، ولم يخشوا الغول ولاغيره، ولو وقفت معنا النقابة بجدية كافية، وساندنا كل من طلبنا دعمه للحق لما وصل الفساد للركب ثم للأعناق، علي رأي رهين المحبسين (القصور والزنازين) د. زكريا عزمي.. (4) أدرك الجميع أن السبيل لرضا مبارك وولديه ونظامهم يمر عبر بوابات الأمن وال"ديرتي بزنس" والرشاوي والإتاوات (شغل مافيا صحيح!).. البزنس والرشاوي لها بعض رجالها الذين يعرفون طريقهم بإمكانياتهم، لكن الغالبية العظمي من الشعب المعدم، والمستضعف لا سبيل أمامهم سوي بوابة الأمن فحسب.. من هنا كان الإقبال علي التعاون مع الأجهزة السرية هو شهادة الضمان المؤكدة للنجاح وللحصول علي الوظائف والمناصب، وتراجعت بذلك الكفاءة والنزاهة والاستقامة.. ولا أنسي ذلك اليوم الذي جاء فيه رئيس التحرير الشاب يصرخ مذعورا: فقدت حافظة أوراقي. ليس المهم كارنيه "أمن الدولة".. الأخطر هو كارنيه "المخابرات"، وكانت أول مرة نتأكد أن هناك علاقات رسمية وعضوية بين مثل هذه الأجهزة السرية والعاملين بالمهن الحيوية كالصحافة والإعلام والجامعة وما يضارعها.. وهو الأمر الذي يشي بأن الدولة البوليسية العسكرية في عهد الرئيس الفاسد المخلوع كانت تزرع رجالها وتجند المتعاونين معها مبكرا في مفاصل المجتمع الحيوية، ويظلون بمثابة الخلايا النائمة التي تنشط وقت الحاجة إليها فورا.. وهو ما يؤكد أيضا خطورة هذه الدولة العميقة النشطة للغاية حاليا ضد ثورتنا المجيدة، حماها الله. (5) أتفهم وأحترم أي إنسان يكون عمله ومصدر رزقه الشريف بالمخابرات أو أمن الدولة أو أي جهاز آخر، مثلما يؤدي أي منا عمله بمؤسسته أو شركته، بكل إخلاص وتفان في خدمة الوطن والشعب... أما أن يكون لأحد عمل إضافي سري بهذه الأجهزة ضد مهنته ومجتمعه وخدمة لمصلحة الحاكم وحاشيته، وبصفة خاصة إذا كانوا ظلمة وفاسدين ويقهرون شعبهم ولايقدمون له الخدمة الواجبة ولا العدل ولاالحرية ولا الحياة الكريمة، مثلما كان يفعل، غير المأسوف علي خلعه، مبارك وأسرته ونظامه.. فإنه لا احترام ولا تقدير لمثل هذا الإنسان الذي لايكتفي ببيع ضميره الشخصي وإنما يحاول تطويع ودفع مرؤوسيه و زملائه لبيع ضمائرهم والتدني بنفوسهم هم أيضا مقابل مال فاسد أو منصب غير مستحق.. البعض فهم عملية شراء إحدي الصحف المستقلة المعارضة في حينها، وبعد الثورة أدركت الأغلبية المغزي الكامل بوضوح بعد أن أصبحت نشرة يومية للدولة العميقة تتبع نفس طريقة صفوت الشريف، التي غيرت مفهوم الإعلام المؤيد والمنافق للنظام من الاقتصار علي بعض العاملين بالصحف القومية ليشمل الكثيرين ممن يحملون لواء المعارضة بألسنتهم، بينما هم عملاء سريون للأجهزة الأمنية التي يقسم رؤساؤها علي الولاء للرئيس، وكما اتضح هذا الأسبوع، لأول مرة منذ عام1972. (6) الخوف من البطش ومن زوار الفجر والخوف علي الرزق ظل يحكم الغالبية الساحقة من المصريين لعقود طويلة.. لكن الكثيرين رغم ذلك قاوموا وقدموا تضحيات جمة عن طيب خاطر، وللأسف لم تكلل جهودهم بالنجاح الكامل لأنها كانت فردية أو لجماعات صغيرة أمام آلة بوليسية، عسكرية وإعلامية جبارة، لكنها كانت الأساس الذي بني عليه جيل يناير الطاهر ثورته، عندما حمل روحه علي إحدي كفيه وشجاعته علي الكف الأخري، وأظهر عبقرية في الاتصال والحشد ومناورات الكر والفر السلميين.. فلم تستطع أن تجاريه القوة الغاشمة الغبية، فسقط جسدها العملاق أمام شجاعة جيل جديد لم تعد ترهبه كلمة "بخ" ولا حتي القتل أو قنص العيون.. وفوق كل ذلك أبهر العالم أجمع بنظام دقيق وجهد جماعي منظم لتنظيف بلده وتطهير جروحه من الجراثيم، مع الرغبة في بنائه علي أساس علمي متين.. وقد أصبح هذا الشباب معلما وهاديا حتي للآباء، خاصة البسطاء منهم والمعتادين علي الخنوع للظلم ولقلة الحيلة.. وأعطي الشباب درسين لنا جميعا: الأول أن الخوف يدمر عندما يشجع الظالم والمفتري علي ظلمه من جهة ويشل ويهدر قدرات الأمة وجهودها الإيجابية من الجهة الأخري.. أما الدرس الثاني فيؤكد أن الشجاعة والجهد والإخلاص لاغني عنها أبدا لبناء الدول العملاقة. (7) آخر ما يمكن ذكره عن مجندي الدولة العميقة، الذين مازالوا يحشدون كل جهودهم وملياراتهم لوأد الثورةلا قدر الله هذه القصة السريعة التي كتب السيناريو لها الأستاذ إبراهيم سعده الهارب منذ خمسة عشر شهرا بمكان "عميق" بسويسرا.. كان المكافحون للفساد بصفة عامة وجبهة إنقاذ أخبار اليوم بصفة خاصة طلبوا من رئيس مجلس الإدارة السابق الأستاذ محمد الهواري بحث أوجه الفساد بشركة أخبار اليوم للاستثمار التي تعد كمغارة علي بابا التي أسسها الأستاذ سعده لاستنزاف أموال المؤسسة الأم والعمل كمغسلة خفية للأراضي والأموال التي تصل في النهاية لعلاء وجمال مبارك وأصدقاء والدهما من أمثال جمال عمر الهارب أيضا.. شكل الأستاذ الهواري لجنة لفحص ميزانيات الشركة، وكان كاتب هذه السطور عضوا بتلك اللجنة باعتباره مقدم البلاغات والدارس لكل خبايا الشركة المسجلة علي الورق والشفهية التي كشفتها الثورة النبيلة.. وقد خلص تقريرنا إلي حتمية تصفية الشركة لوقف النزيف المستمر لموارد وإعلانات المؤسسة، لكننا لا ندري للآن لماذا لم ينفذ الهواري مطلب اللجنة حتي تاريخ تغييره.. (8) و بمجرد علم سعده بمهربه بسويسرا بتشكيل تلك اللجنة حتي أصيب بالذعر، وهو الهارب أساسا بعد فشل كل محاولاته معي بالترهيب والترغيب والمناصب.. الغريب أنه لم يتصل برئيس مجلس الإدارة مباشرة، بل اتصل بتلميذه وعضو الدولة العميقة الصغير الذي كانوا يعدونه لوراثة مؤسسة أخبار اليوم ولكنه خرج رغم الجهود الجبارة والاستقالات والآلة الإعلامية الرهيبة التي ظلت تحذر من انهيار أخبار اليوم لو تركها هذا "المعجزة".. وبحكم خبرته لم يتحدث في الأمر تليفونيا، بل أرسل للأستاذ الهواري وسيطا يبلغه بغضب سعده العارم، ولم يتنبه خبير الدولة العميقة الصغير أن أحد الموجودين بمكتب رئيس المؤسسة عضو باللجنة وكان يملك الشجاعة لأن يذكر ما حدث علنا أمامنا جميعا.. كاشفا ذعر الهارب الكبير بسويسرا!