التوتر بين تركيا وإسرائيل مرشح للتصاعد لاتبدو حالة التوتر التي تشهدها العلاقة التركية - الإسرائيلية مجرد سحابة صيف كما يحلو للبعض وصفها لكنها تعكس حقيقة أزمة بين البلدين تتصاعد حدتها يوما بعد يوم ومرشحة أيضا للمزيد من التصعيد. أزمة تكشف عن صراع واضح بين قوتين تسعي كل منها لانتزاع أكبر مكاسب ممكنة من الطرف الآخر، وإن كان كل طرف يحرص أيضا علي ألا يصل بحدة الصراع لحافة الهاوية. هكذا يتباري اللاعبان علي ساحة الشرق الأوسط بينما يغيب الصمت أصحاب القضية.. فبينما تعلو حدة الخلاف يكتفي العرب للأسف بمتابعة المشهد السياسي مكتفين بتشجيع صامت لتركيا أحيانا وناقد لها أحيانا أخري.. وكأنهم أوكلوها بعجزهم مهمة إدارة المعركة نيابة عنهم. لم يكن الاعتداء الإسرائيلي علي السفينة التركية مرمرة أكبر السفن المشاركة في أسطول الحرية هو بداية الأزمة ويبدو أنه لن يكون الأخير.. فقد شهدت السنوات القليلة الماضية العديد من الخلافات التي تضافرت جميعا لخلق حالة من التوتر وصلت إليها العلاقة بين تركيا وإسرائيل بعد عقود من العلاقات المتينة.. حيث تعد تركيا أول دولة مسلمة تعترف بإسرائيل وسعت بهذا الاعتراف إلي أن يكون مدخلها لتصبح واحدة من الدول الأوروبية، ويرصد المراقبون تطور هذه العلاقة التي بدأت في الخمسينيات حيث وقعت تركيا اتفاقا سريا لتبادل المعلومات الاستخباراتية مع إسرائيل واستمر في الستينيات، أما في السبعينيات فتم الاتفاق علي تعزيز التعاون الأمني بين البلدين كمراقبة الوضع في لبنان، وشهدت الثمانينيات زيارات لقادة عسكريين وأمنيين إسرائيليين لتركيا التي سمحت أيضا لرجال أعمال يهود بالسيطرة علي بعض وسائل الإعلام وبث دعايتهم ضد العرب ووصل التعاون لدرجة كبيرة جدا في التسعينيات حيث تم اعتماد اتفاق استراتيجي أمني يسمح للدولة العبرية باستخدام الأجواء والأراضي والمناطق التركية فضلا عن التنسيق الاستخباري بين البلدين خاصة فيما يتعلق بسوريا وإيران، كما يتضمن أيضا إزالة الحواجز الجمركية بين البلدين ليتضاعف حجم التبادل التجاري ويصل إلي 2 مليار خلال عام 2000. إلا أن مؤشر العلاقات بدأ في التذبذب تدريجيا مع وصول حزب العدالة والتنمية للحكم عام 2002.. حيث بدأت المواقف التركية تميل نحو الابتعاد عن إسرائيل مولية اهتماما وحرصا أكبر علي تنامي علاقاتها بالدول العربية. التحول التركي ظهر واضحا بعد العدوان الإسرائيلي علي غزة عام 2008 حيث انتهز رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان فرصة انعقاد مؤتمر دافوس ليعلن احتجاجه علي العدوان الإسرائيلي واستخدام الدولة العبرية للقوة المفرطة، انسحاب أردوغان من المؤتمر كان بمثابة أول مسمار دق في حائط العلاقات الصلد ليحدث شرخا واضحا، ازداد وضوحا بعد احتجاج إسرائيل علي مسلسل تليفزيوني تركي يدين جرائم الحرب التي ترتكبها تل أبيب ضد الفلسطينيين، جاء الاحتجاج بشكل مهين عندما استدعي نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني إيلون سفير تركيا لدي إسرائيل وتعمد تخصيص مقعد له أكثر انخفاضا من ذلك المخصص لإيلون وهو ما أثار غضب تركيا التي أصرت علي تقديم إسرائيل لاعتذار رسمي ففعلت وإن ترك ذلك أيضا آثاره علي العلاقة بين البلدين ليزيد معها الشرخ اتساعا، ثم جاء الاعتداء الإسرائيلي علي السفينة التركية ليصل بحدة الخلافات لقمتها، حيث وصفت تركيا الاعتداء بأنه دنيء ومافعلته الدولة العبرية بأنه إرهاب دولة وأصرت أنقرة علي إجراء تحقيق دولي شرطا لتطبيع العلاقات وهو مارفضته إسرائيل حتي الآن مكتفية بالموافقة علي إجراء تحقيق داخلي فقط وليس دوليا. وقابلت أنقرة تعنت تل أبيب بتعنت أكبر حيث جاءت كلمات رئيس الوزراء التركي حادة ملقيا في وجه القادة الإسرائيليين بقنبلة قوية عندما اعترف بحماس كحركة مقاومة وليست حركة إرهاب، إضافة إلي قيامها بالغاء ثلاث مناورات مشتركة، وصفقة شراء لطيارات بدون طيار، هكذا تتوالي المشاهد سريعا لتسير معها العلاقة بين أنقرة وتل أبيب من سييء إلي أسوأ.. ليبدو التوتر بينهما مرشحا للازدياد كما يرصد الدكتور إبراهيم البيومي غانم أستاذ العلوم السياسية بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والخبير المتخصص في الشئون التركية ويري أن الفجوة بين البلدين مستمرة بشكل منتظم ومتصاعد ولايوجد أي مؤشر لعودة العلاقات لما كانت عليه، ولايرجع السبب في ذلك فقط للعدوان الإسرائيلي علي أسطول الحرية وإنما في عوامل أخري أهمها اختلاف الإدراك السياسي المسيطر علي القيادة في كلا البلدين، فبينما لاتعطي إسرائيل أهمية للقيم والمبادئ ولاتري اهتماما بالشرعية الدولية وتواصل انتهاكاتها للقوانين والأعراف الدولية، نجد القيادة التركية ذات الخلفية الإسلامية ملتزمة بهذه القيم والمبادئ الإنسانية والقوانين الدولية. إضافة إلي ذلك بات كل طرف يري في الآخر عبئا عليه، فتركيا تري أن إسرائيل أصبحت تشكل عبئا عليها من منظور مصالحها مع دول المنطقة خاصة مع سوريا وإيران فضلا عن حركات المقاومة في كل من لبنان وفلسطين، وتري تركيا أن لها مصالح كثيرة في كل هذه القوي بينما لاتري إسرائيل ذلك بل وتسعي لتخريب العلاقة التركية معها.. علي جانب آخر أصبحت أنقرة عبئا علي تل أبيب بعدما تزايد حجم الانتقادات الموجهة لها وإصرارها علي تعرية مواقفها أمام العالم لتبدو الدولة العبرية بشكل واضح مخالفة لكل القوانين والأعراف الدولية. تفعل تركيا ذلك وهي غير عابئة باتفاق التعاون العسكري الذي يربطها بإسرائيل والذي بدأ وكأنه أفرغ من مضمونه بعد اتجاه أنقرة لتصحيح علاقاتها مع دول الجوار خاصة سوريا التي أبرم الاتفاق خاصة للضغط عليها ووضعها في موضع أقرب لفكي الرحي العسكرية، تغير الحال الآن وبعدما اتجهت العلاقة السورية / التركية نحو التعاون ليصل الأمر لإجراء مناورات عسكرية مشتركة بين البلدين في الوقت الذي تلغي فيه تركيا العديد من المناورات التي كان من المقرر إجراؤها بالاشتراك مع إسرائيل.. هكذا أصبح كلا البلدين عبئا علي الآخر وبدأ الانسلاخ التدريجي في العلاقات وبدأ كل طرف يتحرك مبتعدا عن الآخر ليصل المشهد إلي ذروته بعد حادثة أسطول الحرية.. حيث ردت تركيا علي الاعتداء الإسرائيلي علي سفينتها بسحب السفير والمطالبة بتحقيق دولي فضلا عن خطاب شديد اللهجة وجهه أردوغان لإسرائيل، إضافة إلي المطالبة بدفع تعويضات للضحايا وإطلاق جميع أسري أسطول الحرية. رد الفعل التركي بدأ في نظر البعض ضعيفا بينما لايراه الدكتور البيومي كذلك ويرد الاتهام علي أولئك الذين يصفونه بالضعف بينما يعانون أنفسهم منه ويريدون من تركيا أن تحارب معاركهم نيابة عنهم. مؤكدا أن رد الفعل التركي يتسم بالتعقل وسياسة النفس الطويل نسبيا الذي يتيح لها دراسة الأمر بدقة وعمل حسابات كثيرة ومعقدة حتي لايأتي الرد متسرعا متهورا وهذا هو منطق الدول الكبري الديمقراطية التي تسعي لاستخدام أكثر من أداة ليحقق أكثر من هدف ولاتستثير عداءات الدول الكبري المؤيدة لإسرائيل، لذلك لم تلجأ للحل العسكري لثقتها في أن هناك أكثر من أداة وحل آخر يحقق لها نفس الهدف. وتركيا من وجهة نظر أستاذ العلوم السياسية وضعت شروطا قوية لعودة العلاقات بينها وبين إسرائيل خاصة بالنسبة للجنة التحقيق الدولية وهي شروط يصعب علي الدولة العبرية قبولها. ومن ثم يصبح الاحتمال الوارد للخروج من هذه الأزمة وتجاوزها هو قبول حل وسط بأن تقبل تركيا تشكيل لجنة تحقيق دولية يشارك فيها الإسرائيليون. هذا فيما يتعلق باللجنة، أما بالنسبة لعودة السفير التركي ففي رأيه أن هذه الخطوة لن تقدم تركيا عليها إلا في حالة إجراء تعديل للوضع في غزة إما في اتجاه كسر الحصار أو رفعه تماما أو تخفيف القيود عليه أو بوضع غزة تحت مراقبة دولية أو أوروبية وإبعاد إسرائيل عن تحكمها بالمعابر. تمسك تركيا بهذه الشروط لن يضعفه بعض أوراق الضغط التي تلوح بها الدولة العبرية، أهمها إثارتها للقلاقل الداخلية التركية بدعمها لحزب العمال الكردستاني أو إثارة قضية إبادة الأرمن أو بالضغوط الاقتصادية علي تركيا. هذه الضغوط يراها الدكتور البيومي غير ذات أهمية كبيرة كما يتعامل معها البعض بشكل من التهويل والمبالغة، فبالنسبة لحزب العمال الكردستاني فإن اليد الإسرائيلية المتآمرة المستخدمة له في تحريك مصالحها وإحداث اضطرابات داخلية تركية لن يتوقف علي نوع العلاقة التركية/ الإسرائيلية سواء أكانت طيبة أم العكس فالدولة العبرية تستخدم الحزب في كل الأحوال. أما بالنسبة للعلاقات الاقتصادية التي تربط أنقرة بتل أبيب فتتعرض أيضا لقدر كبير من التهويل من قبل الجهلة علي حد وصفه الذين يتصورون أن نهاية تركيا ستأتي مع قطع هذه العلاقات، وهو أمر غير صحيح لعدة أسباب أهمها: أن حجم المبادلات الاقتصادية بين تركيا وإسرائيل يصل لحوالي 2.5 مليار دولار أي مالايزيد علي 1.2٪ من إجمالي حجم مبادلاتها مع العالم الخارجي، مع الأخذ في الاعتبار أن المستفيد الأكبر من هذه المبادلات هي شركات إسرائيلية تعمل في تركيا وليس العكس. علي جانب آخر نجد أن حجم المبادلات التجارية مع سوريا يصل إلي 3.5 مليار دولار، ومع مصر وصل عام 2010 إلي 3 مليارات و800 مليون دولار بعدما كان 500 مليون دولار فقط عام 2002. ومن المتوقع أن يقفز إلي 5 مليارات بنهاية 2010. وبشكل عام يمكن القول إن حجم المبادلات التجارية بين تركيا والعالم العربي ارتفع من 20 مليارا إلي 50 مليارا خلال السنوات الأخيرة وهو بذلك يفوق حجم تبادلها التجاري مع الدولة العبرية. تبقي أخيرا ورقة الضغط التي يتصورها البعض في يد إسرائيل وهي تلك المتعلقة برغبة تركيا بالانضمام للاتحاد الأوروبي تلك الرغبة التي يراها البعض لايمكن أن تتحقق إلا عبر البوابة الإسرائيلية، وهو مايرفضه تماما الدكتور البيومي واصفا مرة أخري من يروج لهذه النظرية بالجهل المحكم مؤكدا أن الطريقة الوحيدة لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي تتم من خلال التغيرات والإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية وتوسيع الحريات وحماية حقوق الأقليات وهي معايير كوبنهاجن الخاصة بعضوية الاتحاد الأوروبي. من هنا يرفض أستاذ العلوم السياسية التهويل من قوة الدولة العبرية وتضخيم مايزعمه البعض من امتلاكها لأوراق ضغط ضد تركيا، مؤكدا أن أنقرة بدورها لديها العديد من أوراق الضغط القوية، وهي تجيد اللعب بها الآن خاصة بعد تحسينها لعلاقاتها مع إيران وسوريا واعترافها بحماس كحركة مقاومة وهو ما التزمت إسرائيل بالصمت أمامه حتي لاتدفع أنقرة لمزيد من الضغط وإلي حدود أكبر من دعمها وتأييدها لحماس. الدور التركي إذن نجح في إرغام الدولة العبرية للتقهقر خطوات نحو الخلف.. مزيدا من الخطوات تحتاج لتضافر الجهود العربية لردع إسرائيل ووقف عدوانها وجرائمها الوحشية.