تصوير: خالد عبدالوهاب قد تكون "العزبي" أغرب جزيرة في مصر، تقع في المنتصف بين دمياط والدقهلية وعلي بعد 45 كيلو مترًا، من قرية غيط النصاري، يعيش مواطنون مصريون منفصلون عن العالم بكل همومه بعد أن أثقلتهم الحياة بأخري تحتاج التفرغ لها. يحكي الأهالي هناك عن جدهم الأكبر (أحمد العزبي) الذي استوطن فيها رغماً عنه، وبنيت له مقبرة متواضعة، والذي كان لا يدري إطلاقا أنه سوف يدفن بها، وذلك بعد استشهاده أثناء مقاومة أهالي دمياط بقيادة حسن طوبار لجنود نابليون »قائد الحملة الفرنسية« وعندما أراد ابنه نقل رفاته دله الجنود علي موقع الدفن، فوجد ذئبا يحاول نبش المقبرة .. فلم يقترب منه .. ووجده يموت بوضع غريب دون أن يقتله أحد، ولأنهم لم يشاهدوا هذا الوضع من قبل فاعتبروا هذا الشهيد المدفون (وليا من أولياء الله الصالحين). وانتقل العزبي الابن إلي الجزيرة للإقامة بجوار مقام والده ومع زوجته ثم انضمت إليه أخته (مسريه) التي تزوجها (محمد بك شاهين)، وتعاقبت الأجيال، فمنهم من ترك الجزيرة ورحل، والبعض الآخر استقر بها ليصل عددهم حتي الآن إلي أكثر من 2500 نسمة يعيشون علي فطرتهم التي لم تلوثها الحضارة. الطريق إلي هناك لا يشعرك بالملل، فقطعنا المسافة باللنش الطائر في أكثر من ساعة ونصف بعد تجهيزات استمرت أسبوعاً كاملاً، وبعد عشر دقائق من الانطلاق اختفت البيوت من حولنا، لنجد أنفسنا وسط طرقات البحيرة التي تحددها أعواد (الهيش) ذات السيقان الطويلة، مُحلقة فوق رؤوسنا أشهر طيور البحيرة من (بلبول، عجاج، السفرجل، الشرشير، خضاري، حُمر، زُرق، دبوكة، شواعر) التي يصطادها سكان الجزيرة عندما يقل موسم السمك. تخدعك ابتسامة الصيادين فتظن أن حياتهم تسير بشكل طبيعي لكن إذا اقتربت منهم ستسمع أنين المراكب قبل أن تبحر لتثبت فزاعات لصيد أسماك يتوهمون بوجودها، فالبحيرة لم تعد صالحة للحياة بسبب التلوث الذي جعل أهالي الجزيرة (علي باب الله)، فلم يعد أمامهم سوي الترحيب بأي عابر أمامهم. تبدو الجزيرة من بعيد كقطعة منعزلة عن العالم، فتشعر أنك هبطت علي كوكب آخر، أو ذهبت إلي مكان يعيدك بالزمن إلي الوراء، فالبيوت متناثرة كعلب كرتونية وتتكون من غرفة أو غرفتين علي الأكثر، والطرقات ضيقة للغاية تكفي لاستراحة البهائم بها، والمراكب مبعثرة علي الشاطئ يجلس فوقها الرجال يشكون البطالة، ونساء يقعدن أمام بيوتهن في انتظار الفرج، وأطفال سكنت البلهارسيا أكبادهم نتيجة لاستحمامهم في مياه الجزيرة الملوثة حيث تصب المنازل صرفها الصحي علي الشواطئ. وأثناء حديثنا إليهم لاحظنا صغر السن بين الرجال ويزيد عند النساء قليلا، وعرفنا أن جميع الرجال مصابون بالفشل الكلوي وتضخم في الطحال، مما يعرضهم للوفاة لصعوبة إسعافهم وعلاجهم؛ فلا توجد مستشفي أو وحدة صحية تنقذ الأهالي، كما لا يستطيع أحدهم الاتصال بطبيب في دمياط، فجميعهم أميون فلا توجد مدرسة أو مركز لمحو الأمية يمنحهم قليلاً من العلم. "اتولدنا لقينا نفسنا ضايعين" هكذا بدأت كريمة العزبي وصف الحياة بالجزيرة التي لم تمنحهم سوي ثلاثية الفقر والجهل والمرض التي تنعكس علي وجه كل امرأة هناك، فلا واحدة منهن تعرف عمرها وأحيانا لا تنادي إلا باسم أبنائها، وعندما يذهبن للتسوق بدمياط، لا يستطعن قراءة الأسعار علي الخضراوات والفاكهة، فلم يتعلم أحد بالجزيرة ليعلم الآخرين، الجميع هناك يعيشون علي فطرة الخالق. تروي علي عجل حكاية الجزيرة التي تعود لفترة طويلة من الزمن لم تستطع تحديدها، لكنها مازالت تذكر الأربع عائلات الذين هبطوا عليها مع جدهم العزبي ليتركوهم منعزلين عن الحياة؛ لا مياه فيشترون جراكن بعشرين جنيهاً تأتيهم عبر اللنشات، ولا كهرباء فيضيئون لياليهم ب "اللمبة الجاز"، ولا مستشفيات فيموتون من المرض ليلاً، ولا أسواق فيذهبون إلي دمياط لشراء احتياجاتهم، ولا مساجد فيصلون علي حصائر تُفرش في الأزقة والممرات، ولاتوجد مقابر فيدفنون موتاهم بغير أراضيهم، هناك فقط يتوقف بك الزمن لتعود إلي عصور القرون الوسطي، لتري بعينك أناسا لا يملكون سوي ابتسامة صافية وعين باكية وقلب مرتبك علي مستقبل صغارهم. مُتابعة كريمة للتليفزيون الذي دخل الجزيرة منذ خمس سنوات فقط عرفتها علي ثورة 25 يناير التي لم تصل منها سوي اسمها، تقول: "مقدرين المشاكل اللي بتمر بيها مصر لكن ذنبنا إيه نندفن بالحيا؟!". وفجأة تقتحم الحوار نوال سلامة بنبرة تعكس ثورة أخري غير التي نراها بميدان التحرير! تلقائيتها في الحديث كشفت عن حجم مأساة يعيشها الأطفال التي وصفتهم ب (العدمانين)، تقول: "العيال كلهم مصابين بالبلهارسيا .. وبيغرقوا في البحيرة لأنها وسيلة الترفيه الوحيدة لهم .. فهم محرومون من كل شئ". مايوجعها هجرة رجال الجزيرة، وعندما سألتها إلي أين؟، أخبرتني: "إلي بلاد بعيدة .. فيه اللي سافر الغردقة واللي سافر بورسعيد! .. علشان يشتغلوا ويصرفوا علينا .. ويا عالم هيرجعوا ولا لا .. والرجالة اللي موجودين قاعدين في البيوت .. مش بيدخلوا علينا بجنيه في اليوم .. وبنموت من الجوع .. والسمك كله مات لأن البحيرة جفت من أربعة شهور بسبب الغاز اللي بيطلع من شعلة دمياط الجديدة .. وفي الآخر يتهمونا إننا بنحط سم في مصدر رزقنا الوحيد!" وعندما يأتي الليل يعم الظلام كل بيت في الجزيرة، ويذهبون إلي مضاجعهم بعد المغرب فلا شئ يفعلونه سوي النوم، وتضيف: "جالنا واحد من الجمالية التابعة للدقهلية وطلب من كل عائلة دفع الف جنيه لتوصيل الكهرباء .. لكن هنجيبله منين؟! فمازال أغلبنا يعيش علي لمبة الجاز، وهناك من لديه ماكينة نور".. ولم تجد نساء الجزيرة سوي حرفة نسيج (السدة) ليشغلن بها أوقات فراغهن وكي يساعدن أزواجهن في مصاريف البيت، فتصحبنا سهير العزبي إلي بيتها التي حولت مدخله إلي ورشة لهذا النسيج المصنوع من البوص وتعرش به البيوت وتباع السدة الصغيرة منها بخمسة جنيهات، والكبيرة بثمانية جنيهات. وتحكي عن المأساة التي يعيشونها عندما يقترب موعد وضع إحدي السيدات، فتقول: "تعلن الجزيرة حالة الطوارئ، فيتم تجهيز المراكب، وتوفير البنزين الكافي، حتي يتم نقل الحامل إلي المستشفي بدمياط، لكن للأسف الكثيرات منا يتعرضن للموت".. وتستطرد: "لا توجد مقابر لنا بالجزيرة، ونقوم بدفن أهالينا إما في الجمالية او دمياط، وتشيع الجنازة بموكب كبير في البحيرة"، أما عن مقام جدهم العزبي الذي يقع أول الجزيرة وسط الحشائش، تخبرنا أنهم يقومون بالاحتفال بمولده في شهر سبعة، وعندما زارهم وفد من الإخوان كفروا مايفعلونه لأنه (بدعة) دون أن يقدموا لهم أي خدمات. مطاردة المسطحات المائية للصيادين أكثر ما يثير سكان الجزيرة نتيجة لعدم استخراجهم رخص للمراكب، فيشكو الحاج صبري العزبي من البلطجية التابعين للدقهلية والذين يعتدون عليهم ب (السنج والمطاوي) ويسرقون المواتير والبنزين والغزالات التي يتم بها اصطياد السمك، ولأننا غلابة المسطحات بتصدق شكواهم، ويقومون بالتضييق علينا حتي المراكب التي تحمل إلينا المياه، مضيفا: إحنا بلد نضيفة لا فينا حد بلطجي ولا بنأكل ولادنا حرام.. ويستكمل: "لم نصطد سمكة واحدة أكثر من خمسة أشهر بسبب تلوث البحيرة لذلك أصبح من الصعب مزاولة المهنة.. والنتيجة مفيش ولا بريزة في جيوبنا".. يأخذنا محروس البليسي إلي الضفة الأخري من الجزيرة لنكتشف محطة لتكرير المياه الجوفية علي عمق 35 مترا والتي عكف عليها المهندس مصطفي البساطي الذي وصفه: (اتعلم وماخدش حقه من الدولة) لأكثر من أربعة أشهر، ويضيف: "تعمل المواسير علي استخراج المياه الجوفية لتمر علي طلمبات تقوم بتكريرها، فتنتج مياها نظيفة يستخدمها الأهالي في الغسيل والاستحمام، ويتم بيع الجردل بجنيه واحد".. ويستكمل: "كُلفت المحطة أكثر من نصف مليون جنيه تحملها المهندس بمفرده، وأخبرت المحافظ أننا علي استعداد أن نتبرع بأحد البيوت لتحويلها إلي مدرسة أو مستشفي، لكن لم يستجب إلينا أحد".