لوحة تصور مبايعة الشعب فى مصر لتولى محمد على حكم البلاد الأديب الفرنسي الشهير »فيكتور هوجو« له مقولة شهيرة يقول فيها: »آسيا ليست مجردة من الرجال العظماء مثلما نعتقد.. فهي التي أنجبت العملاق الوحيد الذي يمكن أن يقارن ببونابرت.. إنه محمد علي باشا الذي يمكن مقارنته ببونابرت مثلما نقارن النمر بالأسد«.. محمد علي الذي يقصده »هوجو« هو من يحمل عن جدارة لقب »مؤسس مصر الحديثة«.. فكيف جاء محمد علي إلي مصر..وكيف خطط لحكمها.. وكيف صنع مجده وبني مصر الحديثة؟. عندما تولي محمد علي (وهو اسم مركب) ولاية مصر في 21 مايو عام 5081، كان عمره حينذاك يناهز الخمسة والثلاثين عاما.. وكان رجلا أميا، لايقرأ ولايكتب.. وبدأ في تعلم القراءة والكتابة بعد توليه حكم مصر بأثني عشر عاما.. أي وهو في سن السابعة والأربعين!.. يقول محمد علي: »لقد أتيت إلي مصر فوجدت البلاد يسكنها جماعة من المتبربرين ولم يكن بها أكثر من مائتي شخص يعرفون القراءة والكتابة باستثناء الكتبة ولم أجد بها سوي شخص واحد يصلح أن يكون سكرتيرا لي، فبذلت كل ما في وسعي لإدخال المدنية في البلاد.. إن الحظ لم يسعدني أن أتعلم القراءة والكتابة في صغري، لقد بدأت في تعلم القراءة والكتابة وأنا في السابعة والأربعين من عمري ولم يتح لي أن أري بلادا أرقي مدنية من بلادي، إن ما يفتقده الأتراك هو ما يتوافر لدي الانجليز، فلديهم »الرجال الذين يصلحون للحكم، ولكن الأتراك متكبرون جهلاء وسيؤدي بهم كبرهم، وأمنيتي أن يكون لدي مجلس شوري من الرجال الأمناء«. محمد علي.. »الباشا« لكن ماهي نشأة محمد علي.. وكيف أهل نفسه للحكم.. وكيف أتي إلي مصر؟ أغلب الروايات تذكر أن محمد علي ولد في عام 9671م. وعاش ثمانين عاما، فقد توفي 2 أغسطس عام 9481، وكان محمد علي ابنا لعصره، فقد كان مألوفا في ذلك العهد أن يكون الرجل مزواجا ولديه عدد كبير من الزوجات »المولدات« أو الجواري.. ويقال إن محمد علي تزوج مرتين.. أما جواريه أو ماكان يطلق عليهن مستولداته فبلغن72 مستولدة.. ويقال إن محمد علي أنجب 56 طفلا من عدة زوجات وجوار علي مدار عمره. ونعود إلي نشأة محمد علي.. فقد كانت الامبراطورية العثمانية تمتد عبر ثلاث قارات هي أوروبا وآسيا وأفريقيا.. وعلي الساحل الأوروبي لبحر إيجه كانت تقع قرية »قولة«، وهي تبعد عن مدينة سالونيك في الغرب بحوالي 08 كيلو مترا ومن ناحية الشرق تقع عاصمة الامبراطورية العثمانية الآستانة »استانبول« بحوالي 083 مترا.. وفي هذه القرية الصغيرة من قري اليونان الهادئة، تقع دار »جنتكمان« التي ولد فيها محمد علي.. وهذا البيت البسيط الهادئ تحيط به حديقة صغيرة أنيقة ويواجه مياه البحر بواجهتيه القبلية والغربية، وله ميدان فسيح به قاعدة تمثال محمد علي أقامه يونانيو مصر رمزا لولائهم لمصر التي اتخذوها وطنا ثانيا لهم. وكانت »قولة« مسقط رأس محمد علي تفتقر إلي الأمن، حيث كانت تثور في هذه المناطق بعض الانتفاضات علي فترات غير منتظمة ضد السلطان العثماني وولاته بسبب فرض الضرائب المستمرة والظلم الجائر، وأيضا بفعل حركات التطلع إلي الاستقلال، وخصوصا أن الثورة الفرنسية مازال يتردد صداها في أرجاء العالم وعلي مختلف الشعوب.. وفي ظل هذا المناخ الدائم الغليان انتشر قطاع الطرق في أماكن متفرقة من الامبراطورية، ومنها بالطبع منطقة البلقان، حيث العداء الطبيعي للحكم العثماني.. وفي هذه الفترة كان يقوم بأعمال حراسة الطرق لمنطقة قولة ومايجاورها شيخ معروف يدعي »إبراهيم أغا« كان رئيسا للحرس المنوط به حراسة الطرق، وقد رزق هذا الشيخ بسبعة عشر ولدا توفاهم الله إلا أصغرهم وكان يسمي محمد علي وهو اسم مركب. وعندما ولد محمد علي فرحت به أمه كثيرا بعد نبوءة عرافة أهل القرية.. وعن هذه النبوءة يقول »تشالز موريس« في الكتاب الذي وضعه عن محمد علي: إنه لما كانت أمه حاملا ذهبت إلي عرافة ذائعة الصيت في قولة فتنبأت للمولود بأنه سيرقي ذروة المجد والعظمة ويبلغ مرتبة الحكام والملوك.. فاغتبطت الأم بهذه النبوءة وظلت هذه النبوءة شعاع الأمل الذي يبدد شبح اليأس عن أمه.. وأطمأنت الأم علي وحيدها حين أمد الله في عمره وتجاوز أعمار أبنائها السابقين، فأغدقت عليه حبا وحنانا وأتبعته بدلال كان من الممكن أن يؤدي إلي إفساده وكان مدعاة لسخرية أقرانه.. ولكن نبوءة العرافة أحاطت محمد علي بسياج من الرعاية والحماية ضد الأخطار والأهوال، وشحنته بطموح جامح أنتقل إليه من خلال تفاؤل والدته.. وحين توفي والده وهو لم يتجاوز السابعة عشرة تولي أمره عمه »طوسون« وتدريجيا تخلي عن التدليل وعهد حياة التقويم، فأجاد ركوب الخيل وتصويب السهام.. وإذا كان البحر الهادئ لايصنع بحارا جيدا، فقد تهيأ له السباحة في خضم الأمواج الهادرة حين تسابق مع زملائه علي السباحة من الشاطئ إلي إحدي الجزر القريبة، وحين هبت العاصفة وغضب البحر.. ظل يجدف وحيدا بعد أن تراجع أصدقاؤه ووصل ظافرا إلي الجزيرة وقد تشققت يداه.. وفي هذا اليوم حمل لقب »الزعيم« من قبل أصدقائه ولم يتخل عنه مدي الحياة لتتأكد أول مواهبه وأعظمها شأنا متمثلة في المثابرة والجلد وبعد النظر وسعة الحيلة والحنكة والدهاء السياسي.. وعلي رأس هذه الصفات كان ذكاؤه الخارق هو جوهرة التاج في عرش صفاته. وكانت أول خطوة علي الطريق تبدأ بالمتاعب التي اشتهر بها عصره، فقد كلف من قبل حاكم »قولة« بالبحث عن القراصنة المنتشرين في بحر إيجة، ونجح في اعتقالهم أحياء.. وتقديرا لكفاءته تم تعيينه ضابطا برتبة ملازم تحت الاختبار في الاسطول العثماني.. وسرعان ماذاع صيته وظهرت قدراته المتميزة مرة أخري حين عرض المساهمة في التصدي لأهالي إحدي القري التي امتنعت عن دفع الضرائب ليبدأ حياته السياسية بالحيلة والدهاء اللذين لم يتخل عنهما طوال حياته ولم يعبأ كثيرا بقول إبن المقنع: »إن شر الملوك المخادع«.. ووصل إلي هذه القرية المتمردة، وأرسل جنوده لإحضار كبار التجار وأخبرهم أنه يود مقابلتهم في المسجد لأمر هام وبما أن المسجد مكان للعبادة فلم يساورهم الشك في أي نوايا أخري.. ولكنه قام باعتقالهم وشاهدهم أهالي القرية وهددهم بأنه سوف يقوم بإعدام هؤلاء التجار إذا لم يدفعوا الضرائب فارتعد الأهالي خوفا، ولم يجرؤ أحد من الأهالي عن الامتناع عن الدفع مرة أخري.. وصعد درجة وتم ترقيته ليصبح »قائد حرس حاكم قولة« وتتوطد صلته بحاكم قولة ويتزوج وهو في العشرين من عمره من سيدة مطلقة قوية تمت بصلة قرابة للحاكم وهي أم أبنائه الذين تولوا الحكم ومنهم »إبراهيم باشا وسعيد باشا«. وقد تهيأ لمحمد علي الاختلاط بالأوروبيين في صباه، وحين كان ضابطا في قولة اتصل بالتاجر الفرنسي »ليون« وأصبحا صديقين، وكان »ليون« هو صاحب الصفقات التجارية وبصفة خاصة تجارة الدخان التي جني منها محمد علي أموالا كثيرة فشعر بالأمن النفسي والاستقرار الاجتماعي اللذين ينشآن من وفرة المال في يد صاحبه.. وكان »ليون« صاحب الفضل الأول علي محمد علي في تعليم المبادئ الاساسية لعقد الصفقات التجارية.. ومن وقتها أصبح شغوفا بسماع أسرار التجارة العربية، وازداد شوقا بعد إطلاعه علي شعارات الثورة الفرنسية.. وكما كان يقول دائما عن نفسه: »ولدت وفي السماء كوكب سعيد« فقد ظل الحظ يحالفه من بداية حياته حتي مماته، علي أن ثلاثة أرباع هذا الحظ قد أتي بالفعل مع مولده لأنه ولد والظروف مواتية لظهوره وتكاد تكون في انتظاره شأن أي زعيم أو عظيم. محمد علي في مصر وتطورت الظروف لصالحه بسرعة رهيبة في الفترة من (1081 -5081) وهي الفترة التي أعقبت خروج الحملة الفرنسية من مصر، فلم يرض المشايخ والعلماء عن ولاية »خسرو باشا« فقاموا بالثورة عليه وأسقطوه، وأصبح »طاهر باشا قائمقام« أي نائب، وتولي محمد علي الذي قدم إلي مصر ضمن القوات الألبانية للمشاركة في الدفاع عن مصر ضد الحملة الفرنسية، قيادة الجنود الألبان بدلا من طاهر بك، ولم يكن محمد علي يتعدي الثلاثين عاما.. ومرة ثانية ثار الشعب علي »خورشيد باشا« علاوة علي انقسام المماليك بين جماعة المماليك الفرنسية (الموالية لفرنسا) بزعامة البرديسي بك الذي نجح محمد علي في مهادنته والتحايل علي العداوة الكامنة بينهما بالصداقة الظاهرة.. وقد جرح كل منهما نفسه وشرب من دم الآخر، بالإضافة لجماعة المماليك »الانجليزية« التي يتزعمها محمد الألفي بك وهو مملوك تم شراؤه بألف أردب من الغلال، لذلك سمي بالألفي.. وفي عام 4081 ساءت الأحوال وشح المال ولم يجد البرديسي ما يدفعه من رواتب للجنود الألبان ففرض ضرائب جديدة علي الأهالي ، فاشتاط غضبهم وخرجوا هاتفين: »أيش تأخد من تفليسي يابرديسي« والنساء يندبن ويصبغن أيدين بالنيلة. الأحلام تقترب من الواقع وأخيرا استشعر محمد علي أقتراب تحقيق أحلامه.. وكان رائدا في تحالفه مع الشيوخ والعلماء المصريين الذين تولوا القيادة الشعبية لإنهاء الفوضي وتوفير الأمن.. وقد استشعر زعماء المقاومة الشعبية وعلي رأسهم عمر مكرم نقيب الاشراف والشيخ الشرقاوي والسادات والدواخلي أن البيت الذي يبني وفقا لأذواق الجميع يبقي دائما بلا سقف، وقد وجدوه سقفا حاميا وحصنا منيعا لكل هذه الخلافات وخاصة أنه نجح في مهادنة جميع الجبهات وفي الإطاحة بخورشيد باشا وتولية محمد علي الذي وصل لمقاليد الحكم بفضل القيادات الشعبية والقوة الجماهيرية بعد أن أصبح أقوي رجل في مصر وسجل اسمه في التاريخ ليصبح أول حاكم يختاره الشعب المصري بالإجماع علي الرغم من كونه ليس مصريا وتلك فكرة جديدة وجريئة لم تكن مألوفة قبل عهده وهي تدل علي عبقريته ونبوغه ودهائه.. ومن العجيب أن عمر مكرم هو أول من اقترح تعيين محمد علي واليا علي مصر، ولم يشأ أن يختار نفسه، ولم يكن يطمع في سلطة أو يخطط لزعامة، وأحاط محمد علي بمشورته وسديد أرائه عن أحوال المصريين وساعده كثيرا.. وفي البدء كان محمد علي يرجع إلي المشايخ في كل صغيرة وكبيرة، وكانت أراؤهم بمثابة أوامر فحظي بمحبتهم الجارفة وتقديرهم العميق لشخصه، وقد انتقل هذا الشعور إلي الآستانة وصدر فرمان من الباب العالي الذي أذعن لإرادة الشعب بتولية محمد علي حكم مصر وعزل خورشيد باشا في يوليو 5081.. وكان لابد من اختيار حليف من الدول الأوروبية فاختار محمد علي حماية فرنسا (كحليف) وصديق يتوسط له لدي الباب العالي .. حيث بادرت فرنسا بتعيين مندوب تجاري لها هو المسيو »ماثيو ديلسبس« عام 3081 وهو والد »فردينان ديلسبس« وكانت تهدف لتأكيد إخلاصها وصداقتها لمن يتولي زمام ومقاليد الحكم في مصر. في الحلقة القادمة