هذه المقدمة هدفها وصف غناء فيروز بالتراتيل والابتهال.. فهي عندما تقف شامخة لتغني تسحبنا معها للمعبد، نصلي ونترنم ونتطهر معها في كل أغنية وأنشودة، نحارب أعداء الوطن ونمجد الشهداء، ونقاتل الطغاة أعداء الإنسان والخير والحب التراتيل في الكنيسة القبطية ارتبطت بالصلاة كجزء متتم لها.. والتراتيل هي حالة متصاعدة من طرح المعاناة همسا مع الاعتراف بالضعف، ثم الاغتسال بدموع الندم، بعدها طلب المعونة بقوة وإلحاح. وفي نهاية الترتيل يتولد إحساس بسرعة سريان قوة الشفاء في النفس والروح والجسد .. وينفجر إحساس رائع بالحرية .. والتحرر من الخوف الذي هو سر الداء والبلاء وجوهر الضعف الإنساني.. لذلك تبدأ التراتيل هادئة بعذوبة وخشوع وتذلل للخالق وهي تعرض مشكلة البشر.. ثم يتلون الصوت ويتدرج مع الاعتراف والندم والغضب والرجاء في رحمة رب الكون.. وفي آخر مقطع يتحرر الشاكي من عبء مشكلته ومن ضعفه.. معلنا العهد الجديد لحياته كإنسان حر ليس عبدا إلا لإله واحد هو الرب الرحيم الغفور الجبار الذي لايغفل ولا ينام، إنما يمهل ولا يهمل، يشدد الضعيف وينتقم من الظالم.. والخلاصة أن الترنم حالة متممة للشفاء في عيادة الله المجانية لمن يطلبها. الرحبة الأمينة المخلصة لوعودها. وهذه المقدمة هدفها وصف غناء فيروز بالتراتيل والابتهال.. فهي عندما تقف شامخة لتغني تسحبنا معها للمعبد، نصلي ونترنم ونتطهر معها في كل أغنية وأنشودة، نحارب أعداء الوطن ونمجد الشهداء، ونقاتل الطغاة أعداء الإنسان والخير والحب.. وكأن الله اصطفاها ومنحها حنجرة عبقرية تقود عقلها وقلبها ببراعة وقوة لتطلق رسائله المحيية، الرسائل التي سلمها للعائلة الرحبانية، يكتبها زياد ويلحنها عاصي ثم إلياس وتطلقها الفيروزة أسهما تخترق القلوب المتعبة، وتشدد الركب المخلعة.. وكأنها كيوبيد حامل سهام محبة الله للبشر .. يشتد الظلم فتقود بترانيمها المظاهرات الاحتجاجية، وتفضح الطغاة، تهدد وترهب وتنتصر ونحن معها .. يشتد الحزن ويطل اليأس فيخترق صوتها السحب مبشرا بالأمل والرجاء بالله .. وتسحبنا لسماء رحبة مشرقة تضيء حقولا كل محاصيلها زهور وكل سكانها طيور .. فنعود أطفالا مبتهجين ننشر بحماس رسائل فيروزالعلاجية لإنقاذ أصحابنا. وقد وصلتني أول رسالة فيروزية من صديقي طبيب القلوب د. شارل بشري مجلي أثناء حزني علي دخول ثورة يناير العناية المركزة وعلي تربص العصابات المنظمة بها .. سحبني للصلاة في معبد جارة القمر كما يسميها، والسباحة في سمواتها ..وأهداني تاريخ ومناسبة ومفاتيح كنوز كل أغنية كمؤرخ متفرغ وعاشق .. وأدخلني إلي مغارة الرحبانية لأنهل من دهب ومرجان وياقوت الكلمات بعدما أسهب في شرحها وتشريحها وتوثيقها، فأزال غربة اللغة واللهجة، ومهد الهضاب والجبال ليسري صوتها ومفعولها بسلاسة.. يشفي القلب ويغني الروح ويشحن إرادة المقاومة والصمود والتحدي، وينثر زهور الضوء علي الكون حولي فأنتعش أنا، ويخسر هو زبائن كان قلبهم يئن حزنا علي شهداء الثورة، و شرايينهم تنسد غضبا من بلادة وتناحة وتبلد القتلة والفاسدين والمرتزقة. د.شارل أستاذ واستشاري أمراض القلب والأوعية الدموية بمعهد القلب القومي.. دق قلبه لفيروز والرحبانية واستدعاهم في ليالي مذاكرة الثانوية العامة الكئيبة، ولم ينفصلوا، ساندوه كل مشوار عذاب المذاكرة حتي تسلم الدكتوراه من قصر العيني.. وأرسلوا له مكافأته عاشقة فيروزية لتشاركه الحياة .. منحه الله ابنا أسماه شادي ليغني طول العمر دون حرج .. ومنذ سنوات صنع صوبة علي الكمبيوتر يجمع فيها النوادر من عتيق ذخائر الفيروزة، ويرسلها جرعات شافية لأصحابه من عشاقها فقط ليتبادلوا الحكي عنها، والاستشفاء في حجرة إنعاشها .. وأفسح لها وقتا مستقطعا ثابتا في حياته كأي عاشق مخلص .. يحكي أن تراتيل الثلاثي العبقري تصاحبه في كل عملية ومحاضرة وكشف، وتضاعف إصراره علي الحفاظ علي سلامة قلب كل مريض ليستمتع بالكنوز التي أودعها الخالق في قلبه وعقله ليحيا بسلام ويحتفل بالكون ويبتهج بمخلوقات الله .. يعتبر فيروز والرحبانية مشروعا حضاريا لنشر طاقة الحب والخير والسلام، وأننا محظوظين لأننا عاصرناها، وأن تأثيرها سيمتد زمنا لأنها نفذت ببراعة وسلاسة لجوهر الإنسان وعرضت كنوزه وغنتها.. فأعادت للحياة صفاءها الطبيعي الفطري. آخر اكتشافاته الموثقة هي أغنية "وطني" التي يصفها بالأيقونة، غنتها في مسرحية (جبال الصوان) عام 96 في إطار ملحمي يجسد كفاح شعب القرية ضد المحتلين الرومان.. يغازل بها طبيب القلوب حال ثورتنا المستمرة ويذكر المتصارعين والمتحولين بأن الأوطان لا تبقي ولا تعيش إلا بتضحية أبنائها والتاريخ لن يذكر إلا من عمروها.. تقول.. وطني ياجبل الغيم الأزرق / ياقمر الندي والزئبق / يابيوت اللي بيحبونا / ياتراب اللي سبقونا / ياصغير ووسع الدني / ياوطني / يادهب الزمان اللي ضايع / من برق القصايد طالع / أنا علي بابك قصيدة / كتبتها الريح العنيدة / جيراني بالقنطرة تذكروني / وبلابل القمر يندهوني / شجر أراضيك سواعد أهلي اللي شجروا / وأحجار حفافيك وجوه جدودي اللي عمروا / وعاشوا فيك مية سني .. من ألف سني.. من أول الدني .. وطني وحياتك وحياة المحبة / شو بقي .. عم أكبر وتكبر بقلبي/ وأيامي اللي جاية جاية / فيها الشمس مخباية / أنت القوي.. أنت الغني.. وأنت الدني .. يا وطني. د. شارل بشري يعالج القلوب من الخوف علي الوطن بالغنا الفيروزي .. كما سبقه أطباء بالعلاج بالأدب مثل يوسف إدريس ومصطفي محمود . والحقيقة العلاج بالغنا في حكم العسكر أظرف وأبهج وأسرع .. وربنا يبارك بلادي.