حالة الفوضي والانفلات التي يعاني منها المجتمع الآن لم يسلم منها مجال الدعوة .. كل من هب ودب أصبح داعية لا يشق له غبار .. هكذا بقدرة قادر دون أدني اكتراث.. معظمهم غير مؤهل وبالتالي لا يعبأ لا بالوقت المناسب ولا المكان المناسب والأهم من ذلك عدم مراعاة وسطية الدين وزرع التشدد وبذور الفتنة في المجتمع.. لم يعد غريبا أن تفاجأ بأحد من يدعون القدرة علي الدعوة لله يصعد وسائل المواصلات العامة ويحولها إلي معول هدم.. لا يهم لدي دعاة "التيك أواي" الموضوع أو حتي العلم بأصول الدين وكل المطلوب وجه كالح يستغل طيبة وبساطة المصريين بغض النظر عن إمكانية حدوث فتن وقلاقل وكأن المساجد ودور العبادة ضاقت بروادها فتجاوزناها إلي المواصلات العامة لضرب قيم المجتمع.. المهم هو توصيل أفكار بعينها دون حسيب أو رقيب والتحدث باسم الدين دون التفكير في مشاعر من ينتمون لأديان أخري والأدهي من ذلك الحديث في أمور خلافية أنشأنا من أجل تجنبها بيت العيلة وغيره من المؤسسات.. هذه الممارسات الضارة بالمجتمع جديرة بالرقابة والمنع حتي لا تمتد الفتنة ويصعب حصارها.. " آخر ساعة " ناقشت القضية مع المختصين. الزمان.. هذه الأيام مع حالة الفوضي والانفلات التي يعيشها المجتمع في ظل تظاهرات واشتباكات هنا وهناك.. أما المكان فلا يهم وسيلة مواصلات عامة أو قهوة بلدي أو حتي ناصية حارة هناك أشخاص متطوعون ينصبون أنفسهم للوعظ والخطب بل تجاوز الأمر إلي الفتوي أيضا.. أكثرهم من الملتحين من الرجال والمنقبات من النساء.. لا تستغرب أو حتي تعبر عن امتعاضك إذا ركبت مترو الأنفاق وهو الوسيلة الأأمن والأسرع هذه الأيام ووجدت رجلا بلحية كثيفة جدا وطويلة ليس مهما اسمه أو هويته أو جهة انتمائه أو مؤهله العلمي فلن يعطيك الفرصة لتسأله أو حتي مناقشته.. ستجده صاعدا فوق أحد مقاعد المترو يخطب في الناس مناشدا إياهم أن كل من يعرف مسيحيا يجب عليه أن يدعوه للإسلام وأننا كلنا مطالبون بذلك.. ولا مانع من التمادي في الخطأ ويحكي أمام الناس حكاية أخيه الذي جعل زميله المسيحي يدخل الإسلام عن طريق السماع المتكرر للقرآن الكريم حتي تذوق حلاوته ورونقه ورق قلبه للإسلام فدخله وبات مسلما بفضل الله تعالي.. ما أحلي استغلال البساطة والطيبة ولأنه يتحدث في الدين فلا صوت يعلو فوق صوته حتي إذا صدع المرضي وشغل الناس فهناك من مستمعيه البسطاء يتحينون الفرصة للجهاد حتي في المترو.. تجاوب معه جانب كبير من الركاب ونصحه نفر آخرون بالالتزام بالمكان المناسب للدعوة وكان نصيبهم صراخا من المتشددين كاد يتحول إلي معركة.. هب الجميع في وجه من يعارض من يدعي المشيخة ثائرين عليه متهمين إياه بالكفر وعدم الإيمان وطلبوا منه السكوت أفضل من ارتكاب إثم بهذا الشكل أو ترك المترو والبحث عن تاكسي قد لا يوجد فيه داعية لكن بالقطع ستجد شريطا لمتشددين من نوع آخر.. كادت تحدث مجزرة بين المسلمين والمسلمين فما بالنا إن تدخل مسيحي بين الركاب وعارض ما يحدث. هذا الموقف الذي يتكرر كثيرا هذه الأيام يفتح بابا لتساؤلات عديدة وخطيرة .. أولا: هل تصح الدعوة في وسائل المواصلات.. وهل هذا مكان مناسب لها أم لها أماكنها المخصصة.. ثانيا : هل نحن مطالبون بدعوة المسيحي للإسلام خاصة أن مثل هذه الأمور سوف تزيد الأمور اشتعالا وتثير الفتن والقلاقل وتسبب الوقيعة بين عنصري الأمة؟ وثالثا : هل من حق أي شخص أن يخطب ويدعو ويفتي سواء كان مؤهلا لذلك أم لا ؟ يقول د. أحمد كريمة الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف وعضو لجنة الفتوي : إن الدعوة إلي الله عز وجل في الإسلام تقوم علي حسن فهم هذا الدين وحسن عرضه وقوامها قول الله عز وجل : " ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " والإسلام الآن في وقت تيسرت فيه وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية واضح في مقاصده وإذا كان لابد من دعوة الغير إلي الخير فهذا ليس لعوام الناس وانما للمتخصصين.. والأصل فيه قول الله تعالي " ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " فهذا عمل العلماء الراسخين في العلم.. وأما العوام فيفتقدون إلي آلية الدعوة ومناهجها ووسائلها وأهدافها. ويضيف د. كريمة قائلا : إن الأصل في الإسلام تعايش الناس دون إكراه الآخر علي ترك معتقده " فالأصل القرآني لا إكراه في الدين " وكذلك " أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين " .. أما ما يتعلق بوسائل المواصلات فهي ليست مواطن للدعوة وما يفعله دخلاء وأدعياء يدخلهم في الهوس المنسوب إلي الدين وكذلك من يدخل علي الركاب ويقرأ الأدعية الجماعية ومن تردد علي الركاب دعاء السفر فهل هذا يعد سفرا في الإسلام بمجرد بضع محطات مترو أو مشوار أتوبيس.. فلكل مقام مقال فالدعوة لها رجالها المتخصصون وآلياتها السليمة في المؤسسات الدعوية والتعليمية وليست من بينها مطلقا وسائل المواصلات.. أما ما يفعله أمثال هؤلاء فيسبب فتنا ودرء المفاسد مقدم علي جلب المنافع وبالتالي لا يجوز أحداث الفتن والمفاسد في المجتمع. ويوافقه في الرأي الشيخ حمدي سلامة الداعية بمسجد السيدة نفيسة قائلا: إننا غير مطالبين بدعوة المسيحي إلي الإسلام لأنه لا إكراه في الدين وكذلك قوله تعالي : " من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " وأن هذه المسائل تؤدي إلي فتنة وإثارة القلاقل وإلي مفسدة كبيرة بالإضافة لشيء آخر وهو من يصلح للدعوة ؟ فليس من شأن أي شخص أن يقف ويدعو الناس هكذا ويتوقع أن يقبل منه أي شيء وإذا سئل هذا الشخص عن الفتوي فهل يفتي وقتها بغير علم ؟ غير أن وسائل المواصلات ليست مكانا للدعوة فلا يعقل أن نقف في مكان مزدحم والناس متعبة ومرهقة وتحارب في وسائل المواصلات من أجل الذهاب لمصالحها ثم أقف وأدعو وأخطب في هذه الظروف وهذا الجو غير الملائم.. فالدعوة مكانها المساجد والندوات الثقافية.. أما مسألة الدعوة في وسائل المواصلات فهو شيء جديد علي الأمة .. ويضيف الشيخ حمدي سلامة قائلا : إن العبرة ليست باللحية ولا النقاب ولكن العبرة بالشخص المؤهل وهم رجال الدين المتخصصون وليست المسألة لعامة الناس.. كما يجب الابتعاد عن المسائل الخلافية مثل فرض النقاب واللحية وكذلك المسائل التي تثير فتنا وقلاقل لأن الدين لا يفرض علي أحد. والآن قد يثور تساؤل لا يقل أهمية: هل هناك شروط في الداعية المنشود؟ والإجابة تأتي هنا بالتذكير بما جاء علي لسان الشيخ محمد الغزالي رحمه الله فعندما سئل عن ذلك قال: الدعوة إلي الله لا يصلح لها بداهة أي شخص . . الداعية المسلم يجب أن يكون ذا ثروة طائلة من الثقافة الإسلامية والإنسانية، بمعني أن يكون عارفا للكتاب والسنة والفقه الإسلامي والحضارة الإسلامية.. وفي الوقت نفسه يجب أن يكون ملما بالتاريخ الإنساني وعلوم الكون والحياة والثقافات الإنسانية المعاصرة التي تتصل بشتي المذاهب والفلسفات. ويجب علي من يدعو إلي الله أن يتجرد لرسالته التي يؤديها فتكون شغله الشاغل، وعليه أن يعامل الناس بقلب مفتوح فلا يكون أنانيا ولا حاقدا، ولا تحركه النزوات العابرة، ولا ينحصر داخل تفكيره الخاص، فهو يخاطب الآخرين وينبغي أن يلتمس الأعذار للمخطئين، وألا يتربص بهم بل يأخذ بأيديهم إذا تعثروا . ويتابع الشيخ الغزالي: لاحظت أن هناك أصنافا من الناس في ميدان الدعوة تسيء إلي الإسلام أشد الإساءة، منهم الذي يشتغل بالتحريم المستمر فلا تسمع منه إلا أن الدين يرفض كذا وكذا، دون أن يكلف نفسه أي عناء لتقديم البديل الذي يحتاج إليه الناس وكأن مهمته اعتراض السائرين في الطريق ليقفوا مكانهم دون أن يوجههم إلي طريق آخر أرشد وأصوب .. وهناك دعاة يعيشون في الماضي البعيد، وكأن الإسلام دين تاريخي، وليس حاضرا ومستقبلا.. وهناك دعاة آخرون لا يفرقون بين الشكل والموضوع أو بين الأصل والفرع، أو بين الجزء والكل، فهم يستميتون في الإنكار بأي شكل من الأشكال و يبددون قواهم كلها في محاربة هذا الشكل، أما الموضوع فهم لا يدرون ماذا يصنعون إزاءه، ولهؤلاء عقلية لا تتماسك فيها صور الأشياء بنسب مضبوطة، ولذلك قد يهجمون شرقا علي عدو موهوم ويتركون غربا عدوا ظاهرا، بل ربما حاربوا في غير عدو .. وهؤلاء وأولئك عبء علي الدعوة الإسلامية يجب إصلاحهم، كما يجب إصلاح الذين يدخلون ميدان الدعوة بنية العمل لأنفسهم لا لمبادئهم، فإن العمل الذي يستهدف القيم الإسلامية غير العمل الذي يدور حول المآرب الشخصية. تري ماذا سيكون رد الشيخ محمد الغزالي يرحمه الله إذا سئل عمن يقومون بالدعوة في المواصلات العامة أي علي قارعة الطريق.. خاصة في ظل هذه الأوضاع الحرجة والدقيقة التي يمر بها الوطن.