وجوهٌ سمراء تُطالعك في شوارع القاهرة، خطواتهم سريعة ومنضبطة، نظراتهم التي تبدو متوجّسة تطمئن إذا ابتسمت في وجه أحدهم، ليُقابلك بابتسامةٍ لا تخلو من الألم. فوراء كل ابتسامة قصة كفاح ومعاناة عاشها هؤلاء في رحلة لجوئهم من بلادهم إلي هنا، هربًا من الحروب والنزاعات الدامية. ورغم أن وضع اللاجئين الأفارقة يعدُّ الأصعب والأكثر تعقيدًا علي مستوي العالم، في ظل وقوع البعض فريسةً لعصابات الاتجار بالبشر، والأزمات السياسية المُترتبة علي اتخاذ بعضهم دولاً معينة، كمحطة ترانزيت للهروب إلي إسرائيل. إلا أن عشرات الآلاف منهم وجدوا في مصر مأوي وملاذاً، ليؤسسوا حياة جديدة بمناطق عدة. وهو ما يتحقق في ظل السياسة الوطنية التي ترفض إقامة معسكرات ومخيمات للاجئين، وتعمل علي دمج اللاجئ في المجتمع. "آخرساعة" ترصد في هذا التحقيق حكايات اللاجئين الأفارقة في مصر. لا يوجد إحصاءٌ دقيق بعدد اللاجئين الأفارقة في مصر، الذين ينتمون إلي دولٍ عدّة في القارة السوداء. فرغم أن بيانات مفوضية الأممالمتحدة لشؤون اللاجئين في مصر، تقدِّر أعداد مُلتمسي اللجوء والمُسجلين لديها بما يقرب من 75 ألف لاجئ أفريقي، إلا أن العدد الفعلي من غير المُسجلين يتجاوز عشرات الآلاف، وهم الذين نزحوا إلي مصر بسبب الصراعات السياسية والدينية والعرقية، التي نشبت بمناطق عدّة في أفريقيا خلال العقود الأخيرة ومازالت مستمرة حتي الآن. مجتمعات أفريقية كاملة أقامها اللاجئون بعدّة مناطق في القاهرة، منها عين شمس والمعادي وأرض اللواء والحي العاشر بمدينة نصر، وغيرها من المناطق التي استقر فيها الآلاف منهم، ليؤسسوا أيضًا عشرات المدارس والمراكز التعليمية والثقافية التي تخدم أبناء الجاليات الأفريقية. يمكنك أن تلاحظ تغيُّر المكوِّن السُكاني باقترابك من منطقة حدائق المعادي. ندخل إلي شارع الصفا والمروة الذي تحوّل إلي ما يُشبه مُستعمرة أفريقية، تطالعنا لافتات المحال التجارية التي تُعلن عن منتجات أفريقية، تتنوع مابين البخور ومنتجات العطارة، ومستلزمات تصفيف الشعر والعناية بالبشرة للسيدات. علي بُعد أمتار قليلة تقع ورشة خاصة بتفصيل الأزياء الأفريقية. بابتسامةٍ حميمة يستقبلنا الهادي داود داخل محله الصغير. "أنا أقدم أفريقي في المنطقة، بيسموني الترزي السوداني".. يقول الهادي الذي جاء إلي مصر قبل عشر سنوات نازحًا من إقليم دارفور بشمال السودان، حيث كان هو الناجي الوحيد من عائلته التي قُتلت علي يد مُقاتلي الحركات الانفصالية، مُتابعًا: الظروف التي مررنا بها مأساوية، دارفور عبارة عن قري صغيرة مُتجاورة، الانفصاليون كانوا يحرقون قري كاملةً بسكانها ومنها كانت قريتي. تمكنت من الهرب آنذاك إلي مصر ولم أكن أتخيّل أننّي يُمكن أن أبدأ من جديد. لم أشعر بغربة منذ جئت إلي هنا، سجلت في مفوضية اللاجئين وعملت بأحد مصانع الملابس لعدة سنوات، أحببتُ هذا المجال رغم أني لم أكن أعرف شيئًا عنه. فكرت أن أتخصص في تفصيل الملابس الأفريقية، وبالفعل استأجرت هذا المحل منذ عام. أغلب الزبائن الذين يترددون علي الورشة هم من اللاجئين، إلا أن بعض المصريين بدأوا يقبلون علي الأزياء الأفريقية كما يخبرني الهادي، " الأقمشة الأفريقية تأتي من جنوب السودان ونيجيريا والكونغو وتنزانيا وأوغندا وغيرها من الدول. هذه الورشة فتحت باب رزق لثلاثة أفراد أيضًا يعملون معي أي ثلاث أُسر، ولا تمثل لي مصدر رزق فقط لكنها كانت سببًا في لقائي بزوجتي. بالطبع نواجه هنا بعض المشكلات فيما يتعلق بالصحة، لكن المصريين يعاملوننا بحفاوة وتقدير، يكفي أني أدفع لصاحب المحل 500 جنيه شهريًا للإيجار، ولم يأخذ مني أكثر من ذلك رغم ارتفاع رسوم الإيجار بالمنطقة. في شقة صغيرة ومتواضعة ببنايةٍ مُجاورة تستقبلنا بدرية محمدين، التي أتت من جنوب السودان برفقة بناتها منذ ستة أشهر، هربًا من الاضطهاد الذي يعانيه المسلمون هُناك. بمرارةٍ تحكي: أنا أنتمي لقبيلة مُسلمة تُسمي "جورشول" من مدينة "واو" بولاية غرب بحر الغزال. فقدت الكثير من أفراد عائلتي قبل أن آتي إلي هنا وحتي الآن لا أعرف مصير زوجي، آخر مرة رأيته عندما اقتاده أفراد مسلحون وهددونا بالقتل إذا لم نترك البيت. وهذا ضمن حملات الاضطهاد والتهجير التي مازال يتعرض لها المسلمون. ما اضطرني إلي الفرار مع بناتي عن طريق مُهربين، لألحق بأختي ووالدتي اللتين سبقتاني إلي مصر. أسبوع كامل قضته بدرية في رحلة الهروب التي لم تكن أقل قسوة مما عاشته. طرق برية وعرة وعربات مكدّسة بعشرات اللاجئين، الذين يتكوّمون علي بعضهم خوفًا من ملاحظتهم والقبض عليهم. تتابع: تعرضنا لاستغلال المهربين وأنفقت عشرة آلاف جنيه سوداني لإتمام هذه العملية. "لا شيء يُعادل الأمان الذي نعيشه هنا" تقول مُتابعة: منذ جئت إلي مصر حاولت العثور علي عمل، وأعمل حاليًا في منزل بمنطقة التجمع الخامس، فليس لديّ حرفة يُمكن أن أعمل بها هنا، لأنني من الصغر كنت أعمل في الزراعة فقط. مفوضية اللاجئين تمدنا بمعونات غذائية، وحصلت علي البطاقة الصفراء المؤقتة من المفوضية تمهيدًا لتسجيلي بشكلٍ دائم. الأهم أن بناتي يدرسن حاليًا بإحدي المدارس السودانية هنا، ولا أتطلع لشيء غير تأمين مستقبل أفضل لهم. لم يتخيّل سيلفاتور جونا كيت المُغني الثلاثيني - الذي هرب من جحيم التمييز والاضطهاد العرقي والديني بإحدي دول أفريقيا - أن يتمكن من استئناف حياته ونشاطه الفني بأرضٍ جديدة، بعدما تعرّف علي إحدي الفرق الفنية الأفريقية في القاهرة لينضم إليهم. "كنت أدرس في كلية التجارة في بلدي لكني تركتها وجئت إلي مصر عام 2010، بعدما تعرضت للاعتقال والتعذيب لمدة شهر حتي أُغير ديانتي.. منذ صغري التحقت بفرق غنائية كثيرة، كنت أشعر أن الفن هو ما يجعل الحياة مُحتملة بالنسبة إليّ، وكنت أحلم بتوحيد القبائل وتبديد الصراعات من خلال الفن. يضيف: عندما جئت إلي هنا كنت أحمل رغبتي في توثيق التراث والفلكلور الخاص ببلادي، وإيصاله إلي الجمهور في كل مكان، دفعني ذلك حفظ وتقديم الأغاني والرقصات الخاصة بالقبائل. في بلادي 64 قبيلة لكل منها لهجتها الخاصة بينما اللغة السائدة هي لغة عربية بسيطة. حيث لكل قبيلة رقصة وأغنية معينة تبعًا للهجتها، وهذا يعكس الثراء الإنساني والفني لدينا. التحقت في مصر بإحدي الفرق التي تُشارك في مشروع "أفريكايرو" - وهو مشروع فني يعمل علي تقديم الفلكور الفني الأفريقي - ونقدم حفلات مجانية للاجئين، وأخري في مهرجانات متنوعة. ننتقل إلي منطقة أرض اللواء التي تضم تجمعاتٍ كبيرة لآلاف اللاجئين الأفارقة. حيث تنتشر العديد من المقاهي والمحال التجارية والمطاعم الأفريقية بشوارع المنطقة. تسمعُ لهجاتٍ ولغات عدّة وأنت تتجوّل هنا، أغلب الأفارقة يتحدثون الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية وبعضهم يُجيد اللغة العربية. حيث تنتشر الجاليات الأفريقية المختلفة. لم تستسلم روتّا قنديد ذات العشرين عامًا للظروف التي مرت بها، الفتاة التي هاجرت لمصر قادمة من بلدها الأفريقي برفقة عائلتها، بدأت تبحث عن عمل منذ أول يومٍ لها في مصر. لتجد مركزًا أفريقيًا للتجميل وتصفيف الشعر، تقول لي وهي تنهمك في عمل الضفائر الأفريقية لإحدي الزبونات: نحن متخصصون في تسريحات الشعر والضفائر الأفريقية و"الراستا"، أغلب زبائننا من الأفارقة لكن كثيرا من المصريين بدأوا يُقبلون عليها لأننا نُجيدها بالطبع، وهي عملية مُرهقة إلا أننا اعتدنا عليها. فالزبونة الواحدة تتطلب وقتًا يصل إلي ساعتين أو ثلاث ساعات حسب كثافة الشعر.