شاب يبلغ من العمر 39 عاماَ أحدث زلزالاً هائلاً في المشهد السياسي الفرنسي، شاب لا يزال »فتي العود» سياسياً، كما يقول خصومه وحتي أنصاره، وهو ما كان يثير الشكوك حول قدرته علي الإطاحة بمنافسيه، لكن ها هو ذا قد فعلها وبتر يمين فرنسا ويسارها، ليصبح أصغر من حكم البلاد عبر تاريخها، بعد نابليون بونابرت الذي تقلد السلطة عام 1848 في سن الأربعين وبضعة أشهر.. إنه الشاب الوسطي المستقل إيمانويل ماكرون، الذي أطاح بمنافسته اليمينية المتطرفة، مارين لوبان، في الدور الثاني لانتخابات الرئاسة الفرنسية التي جرت الأحد الماضي في كامل أرجاء البلاد. وبحسب النتائج النهائية الرسمية بعد الخروج من مكاتب الاقتراع، حصل ماكرون علي 61.7٪ مقابل 38.3 ٪ لزعيمة حزب الجبهة الوطنية الفرنسية "مارين لوبان". وكانت أولي كلمات الرئيس الفرنسي الجديد عقب الفوز "سأدافع عن فرنسا وعن مصالحها الحيوية وعن صورتها أمام العالم". وليتأكد للجميع أن لفرنسا طريقا ثالثا يمكن أن تسير فيه. كان ماكرون يقف دوماً في منتصف الطريق، فلا هو ابن يمين الجنرال شارل ديجول، ولم يعد ذا صلة بيسار فرانسوا ميتران، رغم أن الكثيرين يقولون إنه يميني أكثر من اليمينيين أنفسهم، وأنه "المرشّح المقنّع" لهذا التيار. قبل ثلاثة أعوام مضت لم يكن أحد في فرنسا يعرف من هو إيمانويل ماكرون، ولكن في أبريل من عام 2016 عندما أسس ماكرون حركته "إلي الأمام" ثم أعلن في 16 نوفمبر من العام نفسه ترشحه للرئاسة الفرنسية، أقام الدنيا ولم يقعدها، وجذب الأضواء من كل التيارات، وبدأ خطابه منفصلا عن التصنيفات السياسية. توجّه إلي المسنّين، المصابين بخيبة أمل من الطبقة السياسية الفرنسية، وإلي الشباب صاحب الأفكار المستقبلية، وإلي اليمين واليسار، فكان تارة ليبرالياً مدّثراً بنهج الرئيس المنتهية ولايته فرنسوا أولاند، وطورا محافظا ومعاديا لنهج معلّمه، حتي بدا وكأنه يريد كسب الودّ السياسي من الجميع. يبرع ماكرون في شئون المالية والاقتصاد، حيث تخرّج في "المدرسة الفرنسية للإدارة" في 2004، قبل أن يعمل مصرفيا لصالح بنك الأعمال الأمريكي الشهير روتشيلد. وانخرط في "الحزب الاشتراكي" بين عامي 2006 و2009، قبل أن يعيّن في 2012 نائبا للأمين العام لمكتب رئيس الجمهورية، ثم وزيرا مكلفا بالاقتصاد العام 2014 في حكومة مانويل فالس الثانية. مرشّح "زئبقي" بامتياز.. هكذا اتفق العديد من وسائل الإعلام الفرنسية علي وصفه، لأنه كلما ضاق عليه الخناق عقب تصريح أو موقف ما، وجد سريعا منفذا للهروب أو للمواجهة، حتي أن الكثيرين يتهمونه ب"الازدواجية"، وذات يوم وصفه أحد مساعدي مارين لوبان علي صفحات جريدة النوفل أوبسرفاتور بال"الانتهازي القميء"، فيما يقول هو مدافعا عن نفسه بأنه "براجماتي حر". يعتبر ماكرون أن عدم كسر حاجز الصمت هو ما يراكم الأحقاد لدي ضفتي البحر المتوسط، غير أن وصفه استعمار بلاده للجزائر، خلال زيارة قام بها لبلد المليون شهيد في 15 فبراير الماضي، ب"الجرائم ضد الإنسانية"، صدم قطاعاً ليس بالقليل من الفرنسيين، حيث إن خصومه السياسيين وحتي البعض من أنصاره عابوا عليه ما اعتبروه "سوء تقدير للمكان والزمان والمصطلحات"، علماً بأن تصريحه ذاك لاقي ترحيبا كبيرا من الجزائريين الذين لايزالون بانتظار اعتذار رسمي من فرنسا علي جرائمها خلال أكثر من 132 عاما من الاستعمار. في 20 مارس الماضي، فاجأ ماكرون الجميع، خلال أول مناظرة تليفزيونية بين أبرز مرشّحي الرئاسة (فرانسوا فيون مرشح اليمين، وبنوا آمون مرشح اليسار، وجان لوك ميلونشون مرشح اليسار الراديكالي)، حيث أظهر تأييده لهذا الموقف وذاك التحليل أو الإجراء. وفي بداية الشهر نفسه، طرح ماكرون برنامجا انتخابيا قال إنه "يقترح تغييرا شاملا في الساحة السياسية والاجتماعية بفرنسا، تحت شعار لا يمين لا يسار". بدا من الواضح أن الرجل يسعي لاستمالة ناخبي التيارين، حتي أنه لم يتوان عن كسر "مقدسات" عائلته اليسارية التي ترعرع فيها، ومن أبرز تلك المقدسات إلغاء فكرة التعيين الحكومي مدي الحياة، ليطرح مقاربة تجمع من هذا التيار ومن ذاك.. خليط غير متجانس بحسب ما يقوله مناوئوه؛ إذ عاب عليه الكثير من قادة التيارين المزج بين قطبين متناقضين، معتبرين أن النتيجة الحتمية ستكون سلبية، حتي أنها قد تلغي القيمة السياسية للبرنامج والاعتبارية الذاتية للمرشح. برامج البرنامج الاقتصادي لماكرون يجمع بين التقشف والاستثمار، ويقترح تمييزا إيجابيا لتوظيف سكان الضواحي، مع إنشاء 10 آلاف وظيفة جديدة في الشرطة والدرك لتعزيز الأمن، بالإضافة إلي توفير 15 ألف مكان إضافي في السجون. أما الضريبة علي المسكن، فيري ماكرون أنها تشكل عبئا كبيرا علي الفرنسيين، ووعد بالعمل علي تخفيضها. وبالنسبة للمساعدات البديلة عن البطالة، قال ماكرون إنه سيمنعها عن العاطلين عن العمل في حال رفضوا وظيفتين متتاليتين. وسياسيا، فإن لديه قواعد أخلاقية يضع بموجبها حدا للمفاضلة، لمنع النواب خصوصا من توظيف أقاربهم في وظائف هامة أو وهمية. أما في المسائل ذات الصبغة الاجتماعية، فيظهر برنامجه تقاربا مع اليسار؛ فهو يساند "الزواج للجميع"، ويدعو إلي الاعتراف بالأطفال المولودين لأمّ حاملة للجنين خارج البلاد، ويعارض تجريم استهلاك الحشيش. في التعليم أيضا، يظهر ماكرون حوارا أيديولوجيا واضحا مع اليمين، حيث يقترح منح الأولوية للمرحلة الابتدائية وبالتراجع عن هيكلة المرحلة الإعدادية. من الواضح إذاً أن برنامج ماكرون أظهر تداخلا بين تيارين احتكرا لقرون من الزمن المعركة السياسية في فرنسا، حتي بات من الصعب علي الناخبين تبيُّن ملامح الرجل السياسية، وربما كانت تلك الميزة هي ما منحه الأسبقية في صناديق الاقتراع الأحد الماضي، ومكّنه من بلوغ الإليزيه رئيساً، وهو الذي كان يدخله حتي وقت دون أن يعرفه موظفوه. وعلي صعيد الملفات الدولية والإقليمية فلماكرون، مواقف مختلفة يمكن أن نرصدها في السطور التالية: الاتحاد الأوربي: يري ماكرون ضرورة توحيد الميزانية والبرلمان ووزير المالية في منطقة اليورو وإنشاء قوة حرس حدود أوروبية تعد 5000 عنصر وحصر الدخول إلي الأسواق العامة الأوروبية للشركات التي تحصل علي نصف إنتاجها علي الأقل في أوروبا. المساعدات لأفريقيا: يحرص ماكرون علي زيادة ميزانية فرنسا المخصصة للمساعدات الخارجية، وسوف يراجع القواعد العسكرية الفرنسية المتمركزة في أفريقيا، ويحرص أيضا علي مساعدة الدول الأفريقية للوقوف علي قدميها بشأن قضايا الدفاع. العلاقة مع روسيا: يعارض ماكرون أي تقارب مع روسيا ويؤيد فرض عقوبات علي موسكو في ظل عدم احترام اتفاقات مينسك (المتعلقة بتسوية الأزمة الأوكرانية). ووصف السياسة الخارجية الروسية بأنها "خطيرة" و"لا تتردد في انتهاك القانون الدولي". وكانت حملة ماكرون قد تعرضت لاختراق إلكتروني من جانب بعض القراصنة في روسيا. سوريا رؤية ماكرون في الملف السوري هو أنه ينبغي للرئيس السوري بشار الأسد أن يمثل أمام محكمة دولية لاستجوابه بشأن ما اقترفه من جرائم، علي حد وصف الرئيس الفرنسي الجديد. خارج المألوف بعد فوز زوجها إيمانويل ماكرون 39 عاما بالرئاسة في فرنسا، أصبحت بريجيت، 64 عاما، سيدة فرنسا الأولي ليكونا بذلك أول ثنائي خارج إطار المألوف يدخل الإليزيه بفارق السن الكبير بينهما الذي أثار فضول الصحافة في فرنسا وخارجها علي مدي الحملة الانتخابية. بات إيمانويل ماكرون وزوجته بريجيت النجمين الجديدين لصحافة المشاهير فبعد أن اعتاد الفرنسيون علي الزوجين اللذين غالبا ما يتصدران مجلات المشاهير، صارت الصحافة الدولية أيضا تبدي فضولا كبيرا حيال هذين الزوجين البعيدين عن الأنماط التقليدية اللذين وصلا إلي الإليزيه. قصة حب ماكرون وبريجيت بدأت بين تلميذ ومدرسته، فقد كان إيمانويل فتي في الخامسة عشرة من العمر حين التحق عام 1993 بدروس المسرح في مدرسته في أميان، المدينة الهادئة شمال فرنسا. هناك كان ينتظره لقاء قلب حياته رأسا علي عقب، إذ أُغرم بمعلمة المسرح بريجيت، وكانت متزوجة وأم لثلاثة أولاد، وتكبره ب24 عاما. في العام التالي، كان في الصف الثاني الثانوي، حين تحدي المحرمات وأعلن لها عن حبه. تروي زوجته المنحدرة من سلالة من صانعي الحلويات تحظي بالاحترام في أميان، "في السابعة عشرة من عمره، أعلن لي إيمانويل - مهما فعلت، سوف أتزوجك-!". وتشرح أيضا في وثائقي صور مؤخرا عن زوجها "لم يكن كسائر الشباب، لم يكن فتي عادياً كنت مفتونة تماما بذكاء ذلك الشاب" وتضيف "شيئا فشيئا، هزم »قاومتي». ارتأت عائلة الشاب أن ترسله إلي باريس سعيا منها لإخماد نار تلك العلاقة، فباشر دراسة جامعية ناجحة. لكن إيمانويل لم يبدل رأيه، وقال في كتابه ثورة: "كان يتملكني هاجس، فكرة ثابتة: أن أحيا الحياة التي اخترت مع المرأة التي أحببت. أن أبذل كل ما بوسعي لتحقيق ذلك"، ويكمل: "كان لها ثلاثة أولاد وزوج. وكنت تلميذا، لا غير. لم تحبني من أجل ما كنت أملك. من أجل وضع اجتماعي. من أجل الرفاه أو الأمان الذي كنت أقدمه لها. بل تخلت عن كل ذلك من أجلي". توضح كانديس نيديليك رئيسة قسم السياسة في مجلة "جالا" الخاصة بأخبار المشاهير، التي ساه مت في تأليف كتاب "الزوجان ماكرون" عن علاقتهما، كافح الزوجان للدفاع عن حبهما. وهما يشعران بالاعتزاز إذ يصلان اليد باليد إلي أعلي عتبات السلطة، وكأنهما ينتقمان لعلاقتهما. وتمكن من تحقيق هدفه في أكتوبر 2007، فتزوج حبيبته. وكتب مشيدا بشجاعة زوجته "كان ذلك التكريس الرسمي لحب بدأ سرا، وغالبا ما كان خفيا، غير مفهوم من الكثيرين، قبل أن يفرض نفسه علي الجميع". اهتمام دولي وعند إعلان ترشحه للدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية، اعتلي المرشح المستقل البالغ 39 عاما المسرح أمام الناشطين المؤيدين له، ممسكا بيد زوجته، شقراء أنيقة ممشوقة القوام ذات عينين زرقاوين، عمرها 64 عاما. وقد احتلت صورة الزوجين بريجيت ترونيو وإيمانويل ماكرون أربع مرات غلاف مجلة باري ماتش، وتصدرت عشر مرات صفحات من مجلة في إس دي الفرنسية، وعلي غرار الصحافة الفرنسية صارت الصحافة الدولية من جانبها أيضا تبدي فضولا كبيرا حيالهما. تقول ميليسا بيل مراسلة شبكة سي إن إن في باريس إن "ما يثير شغف الأمريكيين هو قصة الحب". ورأت صحيفة ديلي ميل الشعبية البريطانية أنها "قصة حب القرن". في المقابل، تساءلت صحيفة تايمز البريطانية بنبرة أقل لباقة "صيادة شباب في الإليزيه؟"، فيما عنونت صحيفة بيلد الألمانية "تكبره ب24 عاما! كيف ينجح مثل هذا الزواج؟". يخفي هذا الفارق الشاسع في العمر، الذي يكاد يساوي الفرق بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب -70 عاما وزوجته ميلانيا -47 عاما - قصة حب غير تقليدية تضفي علي الزوجين ماكرون هالة مناهضة للأعراف. فشل آخر في المعسكر الآخر، فإن خسارة مارين لوبان في انتخابات الرئاسة الفرنسية تُعد فشلا جديدا لليمين المتطرف، وذلك بعد أن فشل والدها سابقا في انتخابات الرئاسة في عام 2002. وكانت لوبان (48 عاما) تأمل في أن تكون أول رئيسة لفرنسا، لتنفذ أهدافها في غلق الحدود وتشديد الأمن وتعليق الهجرة بكل أشكالها، وحماية العمال مما تصفه بالعولمة المتوحشة وسياسات الاتحاد الأوروبي. وُلدت لوبان في 5 أغسطس1968، وهي أصغر بنات جان ماري لوبان من زوجته الأولي بيريت لالان، وعند بلوغها الثامنة من عمرها، وتحديدا في 2 من نوفمبر 1976، أي بعد 4 سنوات تقريبا من تأسيس والدها لحزبه (الجبهة الوطنية)، عايشت لوبان تفجيرا استهدف منزل عائلتها الباريسي، من قبل بعض أعدائه. ومع أن الحادثة لم تخلّف خسائر بشرية، إلا أنها تركت في نفس الطفلة أثرا لم يُمحَ بعد ذلك، وجعلتها تستوعب حجم المخاطر والتحديات التي يواجهها والدها بسبب مواقفه المتطرِّفة، فورثت عنه جرعات الكراهية ذاتها للمسلمين والمهاجرين، ونفس العداء للآخر ولليبرالية بأنواعها، تماما كما ورثت عنه حزب الجبهة الوطنية الذي أسّسه في 1972. المحطة الثانية الفارقة في حياتها كانت طلاق والديها في 1984 بينما كانت لا تزال مراهقة في ال 17 من عمرها، إذ كان ذلك بمثابة ضربة قاصمة أدخلتها الحياة السياسية مبكّرا، حيث بدأت بحضور اجتماعات والدها، وأدخلتها أيضا في علاقة مع المكلّف بالاتصالات ل "الجبهة الوطنية"، لوران دي سان أفريك. احتكاكها المبكّر بالسياسيين أظهر مواهبها في فن الخطابة، وهو ما دفعها لدراسة القانون، فكان أن حصلت في العام 1992، علي الماجستير في القانون الجنائي من جامعة باريس، ثم بدأت العمل كمحامية، ومن بعده مستشارة قانونية لحزب والدها. تزوجت في 1997 من عضو بالحزب يُدعي فرانك شوفروي، وأنجبت 3 أطفال قبل أن ينفصلا لاحقا عام 2000، وتتزوج بعد عامين من مسؤول بحزب والدها يدعي إريك لوريو، غير أنها انفصلت عنه أيضا، لتدخل في علاقة مع نائب رئيس الحزب لويس إليوت. وفي 2004، انتخبت عضوا في البرلمان الأوروبي، ثم أعيد انتخابها في 2009. ترأست حزب والدها منذ 16 يناير 2011، ومنذ ذلك الحين تعزف لوبان علي وتر تعديل الصورة النمطية لحزبها، والابتعاد قدر الإمكان عن السياسة اليمينية المتطرفة والمعادية للسامية، غير أنها حافظت علي نقاط تقاطع عديدة مع سياسة والدها، ومن ذلك معاداتها للإسلام والمهاجرين والاتحاد الأوروبي.