جلست السيدة "حنة بنت فاقوذ" زوجة "عمران بن ماثان"من ذرية سليمان بن داود عليهم السلام تحت شجرة وارفة الظل تتأمل وتتفكر في خلق السموات والأرض، وفي قدرة الله المطلقة، جلست تحت ذلك الظل وقد خط الشيب رأسها ، وبينما هي غارقة في أفكارها لفت انتباهها طائر علي الشجرة يطعم فرخه الصغير ويغذيه بحنان بالغ، فثار الحنين في قلبها وتمنت لو ترزق بطفل ، وانطلقت الكلمات من قلبها تدعو الله أن يرزقها بطفل علي أن تنذره لخدمة الله في بيت المقدس، همست "حنة"بدعائها ولم يسمعها إلا الله . تقبل الله دعاء حنة ، وحقق أملها بعد اليأس وفوات الشباب ، وبعد أشهر شعرت بالحمل، وفرحت هي وزوجها بهبة الله لهما ، ولكن ما إن مضت عدة شهور علي حمل "حنة"حتي مات زوجها عمران ، فقدر لهذا الجنين أن يولد يتيما، وقد رجت حنة أن يكون المولود ذكرا ليقوم مقام أبيه في خدمة بيت المقدس ، وكانت تناجي ربها وتعلن أنها نذرت ما تحمله في بطنها لعبادة الله، ووضحت حملها فجاء فتاة ، فخاطبت ربها وقالت معتذرة (رب إني وضعتها أنثي) وقالت "حنة"هذا لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكور، وأخبرت "حنة"ربها بالاسم الذي اختارته لابنتها: (وإني سميتها مريم"ومعني مريم في لغة قومها "العابدة خادمة الرب" وبرت "حنة"بنذرها، فوهبت ابنتها مريم لبيت المقدس، فحملتها وسلمتها للأحبار من أبناء هارون وهم خدام بيت المقدس وقالت لهم"هذه هي النذيرة" فتنافس الأحبار في كفالة الرضيعة مريم لأنها كانت بنت إمامهم، فقال لهم نبي الله زكريا "أنا أحق بها منكم ، لأن زوجتي إلياصابات هي خالتها" ولكن الأحبار رفضوا طلبه ، ثم استقر رأيهم علي ان يقترعوا ، فتكون مريم في كفالة الذي تخرج القرعة له، وهكذا انطلقوا إلي نهر الأردن، لتجري القرعة فيه، وكانوا تسعة عشر حبرا وحين وصلوا إلي النهر وزكريا معهم، أخرجوا أقلامهم التي يكتبون بها التوراة وألقوها في الماء ، وانتظروا ولم يطل بهم الانتظار ، فسرعان ما ارتفع قلم زكريا فوق سطح الماء، في حين غاصت أقلام بقية الأحبار ورسبت في قاع النهر، وهكذا تحققت مشيئة الله في مريم وكفلها زكريا كما جاء في قول الله تعالي(يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم). وعاد زكريا وهو كبير الأحبار إلي بيته يحمل "مريم" وسلمها إلي خالتها "إلياصابات" ومرت السنون ومريم تحظي بالرعاية، فنشأت علي الطهارة والرحمة والحنان ، ثم بني لها زكريا عليه السلام محرابا في المسجد يرقي إليه بسلم ، وكان هذا المحراب مكانا شريفا لا يدخله أحد سواها ، فكانت تتعبد لله فيه، وتقوم بالعبادة ليلها ونهارها، حتي صارت يضرب المثل بعبادتها في بني إسرائيل، وكان لايدخل عليها في محرابها إلا زكريا وحده ، فكان يحمل لها الطعام والشراب فيجد عندها في حجرتها ومكان عبادتها طعاما غريبا لم ير له من قبل مثيلا، فيري عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء بالصيف فسألها عن مصدر الرزق كما جاء في القرآن الكريم (يا مريم أني لك هذا) فتجيبه مريم (هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) وأدرك زكريا أن الله يرعي مريم رعاية خاصة وأن طعامها من المعجزات التي تدل علي قدرة الله ، وامتلأ قلب زكريا بالخشوع وهو يشهد معجزة إلهية أمامه فدعا ربه أن يرزقه ولدا يرث منه العلم والنبوة، بعد أن أصبح عمره مائة وعشرين عاما، وكان خائفا من بني عمه وعشيرته من أن يضيعوا الدين ولا يحسنوا وراثة العلم والنبوة، فاستجاب ربه لدعائه ورزقه "يحيي"من زوجته إلياصابات وكان عمرها ثمانية وتسعين عاما. وامتلا محراب مريم العذراء بالنور بعد أن كانت الملائكة تأتيها لتخبرها أن الله اصطفاها من بين نساء العالمين ليخصها بالكرامات وطهرها من الأدناس وكانت الملائكة تحثها علي العبادة والاجتهاد فتقول لها كما جاء في قول الله(يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك علي نساء العالمين. يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) واستمرت مريم في العبادة وخدمة بيت المقدس وكان يعاونها في ذلك ابن عمها "يوسف بن يعقوب بن ماثان"وكان يوسف يعمل نجارا فيأكل ويتصدق من عمل يده ويعمل مع مريم لخدمة بيت المقدس وكان يوسف قد خطب مريم لنفسه ، وفي أحد الأيام تنحت مريم واعتزلت وصعدت إلي ربوة في مكان يقع شرقي بيت المقدس لتتفرغ للعبادة بكل أفكارها خاشعة لله سبحانه وتعالي ، وبينما هي في عبادتها لمحت شابا وسيما ، يتسلق الربوة ويتخذ طريقه متجها إليها ، فذهلت مريم لهذه المفاجأة ، وأوجست من هذا الشاب خيفة ، ففزعت وخشيت أن يكون يريد بها سوءا، ولم يكن ذلك الشاب الوسيم سوي جبريل عليه السلام وقد أرسله الله إلي مريم علي هيئة بشر وقال يطمئنها ويذهب عنها خوفها ، وأكد لها أنه ليس ببشر بل ملك بعثه الله إليها (إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا) ففزعت مريم واشتد خوفها فكيف سيكون لها ولد وهي لم تتزوج ولم تكن بغيا فقالت للملك الكريم (أني يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا) طمأنها جبريل عليه السلام وأبلغها رسالة الله بأنه سبحانه هو الذي أمر أن يأتي الغلام الزكي منها وإن لم تكن ذات زوج فقال لها(كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا). وأدركت مريم أنها مقبلة علي أيام عصيبة، وأن كثيرا من الأمور ستتغير بعد أن بشرها جبريل بالغلام الزكي وأخبرها بأن اسمه "عيسي"(اسمه المسيح عيسي بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين.ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين)وأخبرها جبريل أيضا: (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل). بشرت مريم بأن ابنها سيكون رحمة من الله لعباده، إذ جعله سبيل الخلاص مما هم فيه من ضلال وخروج علي طاعة الله بعد أن تجاوزوا حدود الله ولم يراعوا كتابه، فأحلوا حرامه وحرموا حلاله، فجاء لهدايتهم وردهم عن ضلالهم. ورغم الخوف الشديد الذي تملك مريم من الحدث الذي ستقبل عليه إلا أنها اطمأنت إلي جبريل عليه السلام بأمر ربها، فاقترب منها ونفخ في قميصها وصور الله سبحانه وتعالي ما حدث في قوله (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا) وحملت مريم من فورها وشعرت بالجنين يتحرك في بطنها، وظلت في مكانها وهي في حيرة تتملكها، وبينما هي كذلك اقترب منها يوسف النجار وكانت تفكر كيف تبلغه بما حدث معها فبادرها هو وقال لها أنا أعلم أنك حامل ، فدهشت مريم ، وأنهي هو حيرتها وأخبرها بأنه يعلم بأنها تحمل طفلا وأن جبريل أخبره بذلك، فحمدت مريم ربها إذ هيأ لها من يصدقها ويساندها ، ورغم ذلك عاد الخوف ليتملكها من مواجهة قومها خوفا من أن تنطلق ألسنة الناس بما يسبب لها فضيحة في قومها ، فما كان منها إلا أن تعتزل بحملها ، فاختارت مكانا بعيدا عن أهلها .فقد كانت تعلم أنها مقبلة علي مهمة مقدسة وأن أمامها الكثير لتتحمله من أجل طاعة الله وتحقيق رسالته الموعودة، وعندما شعرت بآلام الولادة اصطحبها يوسف ابن عمها قاصدا معها قرية بعيدة ليقوي عزيمتها ويشد من أزرها ، إلا أن آلام الولادة فاجأتها فاضطرت إلي أن تلجأ إلي جذع نخلة يابس في بيت لحم ، فجلست مريم تحتها وأسندت ظهرها إليها ، أما يوسف خطيبها فلم يجد أمامه ما يفعله سوي أن ينطلق إلي القرية ليجلب لها شيئا يساعدها علي الولادة وتركها في ذلك المكان المقفر، وتأوهت العذراء الطاهرة من آلام الولادة حتي أنها تمنت لو لم تخلق ، فقد عرفت أنها ستبتلي وتمتحن بذلك المولود ، ووسط شعورها بالألم والخوف والحيرة خرج من رحمها المولود الكريم المبارك الذي رافقت ظهوره علي الأرض معجزة ، فجذع النخلة اليابس دبت فيه الحياة وسقط علي مريم حبات من التمر الرطب لتأكل منها ، وفي اللحظة نفسها ضرب جبريل عليه السلام الأرض بقدمه ليتفجر أمامها جدولا رقراقا صغيرا يفيض بالماء العذب الزلال، وفي اللحظة نفسها سمعت مريم النداء الحبيب ، الصوت الذي أنساها كل آلامها وحزنها وخوفها ، سمعت وليدها يناديها ويطلب منها ألا تحزن، فأكلت مريم وشربت وقرت عينا وسكن قلبها الفرح والسرور بدلا من الحزن والخوف خاصة بعد أن طمأنها وليدها المبارك وطلب منها ألا تكلم أحدا عندما تصل به إلي قومها ، لفت مريم وليدها وانطلقت عائدة إلي قومها حاملة وليدها بين يديها وبرفقتها يوسف النجار، واستعدت لتنفيذ أمر الله. ويعلق العالم الإسلامي الدكتور أحمد محمد كريمة علي ما مرت به السيدة مريم من أحداث :أن حمل مريم ووضعها آية من آيات الله ، ففيه تتبدي القدرة الإلهية ، إلي جانب أنها انفردت من بين نساء العالمين كلهن بالحوار والمشاهدة مع أمين الوحي جبريل عليه السلام وتلك خاصية لم تتوافر لواحدة غيرها من نساء العالمين، فأم موسي عليه السلام أوحي إليها والسيدة آمنة أم الرسول عليه الصلاة والسلام رأت منامات بشارة أما السيدة العذراء فقد رأت رؤيا حقيقية وتمثل لها جبريل عليه السلام وجاءت بعد ذلك معجزة الميلاد وما صاحبها من معجزات أخري ليجئ الذكر والتخصيص بسورة تحمل اسمها في القرآن الكريم لتكون السيدة الوحيدة التي ذكر اسمها في كتاب الله الكريم.لتظل السيدة مريم عليها السلام في طلائع الماجدات من النساء الفضليات اللواتي كن مصابيح للهداية ، فلقد صمدت أمام جحافل الأباطيل فهي واثقة من شرفها وعفافها بعد أن اختصها الله تعالي ، فلم تنحن للمبطلين ولكنها مع رهافة حسها ورقة مشاعرها صمدت أمام العواصف التي واجهتها مع بني إسرائيل. فعند الظهيرة حملت مريم وليدها وعادت إلي قومها ومعها وليدها، الذين استقبلوها بالغضب الشديد وقالوا لها أن ابنها ثمرة للزني ، وتجرأت امرأة ورفعت يدها لتصفعها علي وجهها فشل الله يد المرأة ، واندفع رجل إليها يصيح ويتهمها بالزني فأخرس الله لسانه ، فوقف الجميع في حالة خوف ورعب مما حدث، وذكروها بأنها من نسل الصالحين ، ولم تتكلم مريم وأشارت لهم علي الطفل الوليد ، فتعجبوا وقالوا لها كيف نكلم الطفل الوليد الرضيع، وبينما هم كذلك أقبل زكريا عليه السلام وكان قد بلغه الخبر الغريب ، وتقدم إلي الطفل وقال له:" أنطق بحجتك إن كنت أمرت بها ، فأشار بسبابته اليمني وهو متكئ علي يساره متجها بوجهه إليهم فكلمهم وقال بصوت قوي (إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا. وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا. والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) قال عيسي تلك الكلمات ، ولم يتكلم بعدها حتي بلغ العمر الذي يتكلم فيه البشر، وشعر اليهود بالغيظ الشديد مما حدث وأدركوا أن هناك شيئا عظيما في انتظارهم وبلغ غيظهم أنهم أصروا علي اتهام مريم بالزني رغم كل المعجزات التي شاهدوها، وسمع "هيرودس"ملك اليهود بما حدث فطلب من رجاله البحث عن الطفل وقتله، وخافت مريم علي وليدها فلجأت إلي الله لتطلب منه العون ، وجاءها بطرقات علي الباب وصوت يوسف النجار يطلب منها أن تستعد للسفر، وانطلقت القافلة المقدسة متوجهين إلي مصر تحوطهم رعاية الله وتحرسهم بين الجبال وفي الصحاري ، وفي مصر مكثت مريم ويوسف النجار ووليدها المبارك سنوات قيل إنها ثلاث ، كانت مريم فيها تتعبد وتعمل وتربي وليدها الكريم وتنشئه علي الخلق القويم ، وعادت مريم إلي فلسطين بعد أن مات "هيرودس"، وكان اليهود قد انقسموا إلي فرق مبتعدين عن دين إبراهيم وموسي عليهما السلام، في ذلك الوقت وصل المسيح عيسي بن مريم إلي الناصرة وبدأ جهاده لإعادة بني إسرائيل إلي الدين الحق، وكبر وأصبح شابا فتيا وكان يحاور الأحبار ويحدثهم عن أسرار التوراة وعظاتها ويعلمهم الدين الحق، وكان عليه السلام يهاجم زعماء اليهود ويكشف مكرهم وألاعيبهم، فانكشفوا أمام الناس الذين سلبوهم أموالهم وتحكموا في حياتهم وخدعوهم ، وأيد الله عيسي بمعجزات من عنده فكان يصنع من الطين طيورا وينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله ويمسح بيده علي المرضي فيشفيهم ويبرئ من يولد أعمي ولا يجدوا له دواء ولا علاجا والأبرص ويحيي الموتي ، وينبئهم بما يدخرونه في بيوتهم وما يأكلونه، وآمن بعيسي عليه السلام كثيرون وأنكره اليهود واتهموه بالسحر، كل هذا والسيدة مريم تقف وراءه وتقوي من عزيمته وتمده بالقوة حتي يتحمل مكائد اليهود ودسائسهم ، وكان نصيب عيسي من البلاء عظيما ، وكان قمة في الزهد والعفة والصدق والإخلاص، ومقابل كل هذا الإيمان والزهد والحب والنقاء كان يري النفاق والخداع واللؤم ويجاهد من أجل إحلال الحب والسلام علي الأرض. وكانت بصمات التربية السليمة من أمه المباركة واضحة في دعوته كما يقول الدكتور أحمد محمد كريمة، فقد أيدته وآزرته وناصرته وكان للتشجيع المعنوي وتضحياتها الجسيمة أثره ، بالإضافة إلي ما عانته في تربيتها له ، فلا أب ينفق عليه ، وآثرت مع قلة مواردها أن يعيش حياة طيبة معتمدة علي كدها وكفاحها ، حتي كبر وأطلق دعوته تحت رعايتها وحبها وعطفها الذي ملأ الدنيا كلها بالسلام عليها وعلي وليدها المبارك.