قبل مائة يوم من ثورة 52 يناير حظيت جماعة من مثقفي ومفكري مصر بشرف حضور لقاء مغلق مع الرئيس السابق مبارك بعد أربع سنوات من آخر لقاء له بالمثقفين ، اللقاء استمر لأكثر من أربع ساعات حول الفتنة الطائفية وخرج الجميع منه بابتسامات عريضة ولم يتطرقوا إلي مادار فيه سوي أنه تعرض لأزمة الأسعار وخاصة الطماطم آنذاك وقضايا أخري لم يعلنوا عن فحواها، لكنهم قالوا إن اللقاء كان مثمرا (بمناسبة الطماطم) وغير بروتوكولي وفي جو من الصراحة والود علي طريقة البيانات في الزيارات الرسمية بتطابق وجهات النظر بين البلدين دون أن نعرف ماهية القضايا التي تم التوافق عليها إلا من خلال عناوين لاتسمن ولاتغني من جوع ؟! ملف المثقفين والسلطة في مصر حافل بالكثير من الوقائع التي ربما تكشف عن طبيعة هذه العلاقة علي امتداد 06 عاما وصولا للثورة وماتلاها من أحداث ومواقف ، المثقفون من المعارضين للنظام نالهم الكثير في عهد عبد الناصر والسادات وفي بداية عهد مبارك، لكن سرعان ماعرفوا الطريق لمراكز النفوذ وربما نالهم الكثير من التعب من سنوات النضال الطويلة فآثروا السلامة وقرروا الدخول تحت مظلة السلطة والتمتع بثمار قربهم منها ، اختار بعضهم جنة وزارة الثقافة التي تولاها وزير مكث 32 عاما راعيا للمثقفين الذين نالوا رضا السلطة وحظوا بالطلعة البهية للرئيس في افتتاح معرض الكتاب كل عام، وهو اللقاء الذي خيب آمال المصريين في أن تتحدث الصفوة المفكرة والمثقفة عن آمال وطموحات ومعاناة الجماهير، لكن غضب ساكن قصر العروبة كان كفيلا بإسكات هذه الأصوات باستثناء لحظات فريدة من الصراحة والمكاشفة التي سرعان ماكانت تتواري عند أول تقطيبة جبين لمبارك وهمهمة في القاعة، وهو ماحدث للمفكر والباحث الراحل الدكتور محمد السيد سعيد عندما واجه مبارك عام 5002 بحقائق الوضع المتدهور في مصر سياسيا واقتصاديا وأن لديه مشروعا إصلاحيا مكتوبا فقال له ضع هذه الورقة وقال لفظا خارجا !! ووصفه بالمتطرف ومنع من إكمال حديثه وحرم من المشاركة في ندوات المعرض في ذلك العام، وقرر مبارك بعد ذلك التدقيق فيمن يختارون لحضور اللقاء ثم أحجم عن حضوره لأنه كان يكره وجود رأي آخر يخالف رأيه ولأنه لم يكن ممن يقرأون ويتعلمون من دروس التاريخ وهذا من أهم أسباب سقوطه !! ويجب ألا نغفل عن نماذج أخري مشرقة كانت تحمل لقب المثقف الحقيقي الذي كان يجاهر برأيه ويطرح فكره دون أن يخشي عواقب ذلك، ومنهم المؤرخ والباحث الموسوعي الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي لم يقف عند حدود كتبه ودراساته العميقة إنما نزل إلي الشارع قبل الثورة ليشارك في المظاهرات رغم آلام مرضه الأخير وما تعرض له من مضايقات أمنية وصلت لاعتقاله وإلقائه هو وزوجته في الصحراء وكذلك محمود عوض ومحمود السعدني وفهمي هويدي وعادل حسين وغيرهم أما المناضلون علي كل الموائد من مثقفي النخبة من كتاب وصحفيين ومفكرين وناشرين وسياسيين خاصة من التيارين الليبرالي واليساري الذين يدعون البطولات الآن وأنهم كانوا من معارضي النظام السابق فيبدو أنهم مصابون بداء الألزهايمر فهم ينسون أن الكثير منهم كانوا من مثقفي السلطة من المستفيدين بثمار التعاون مع الوزير المقرب لأسرة مبارك ومن ثم تدجينهم في حظيرة النظام وشملت عضوية ورئاسة اللجان وخاصة المجلس الأعلي للثقافة والسفريات والبدلات ومنح التفرغ والمهرجانات والندوات والحصول علي الجوائز والوظائف وعوائد الكتب التي كانت تنشر لهم وخاصة مطبوعات مكتبة الأسرة وهيئة الكتاب وقصور الثقافة وتولي بعضهم رئاسة تحرير الصحف والمطبوعات التابعة للوزارة والظهور بشكل مكثف في وسائل الإعلام الرسمية وعضوية المجالس التشريعية بالتعيين !! إن قائمة المتحولين أي الذين انتقلوا من خانة تأييد النظام السابق إلي ركوب موجة الثورة لاتقتصر فقط علي الإعلاميين والفنانين وإنما تضم أيضا الكثير من مثقفي السلطة التي اشترت صمتهم وعادوا للظهور علي شاشات الفضائيات والصحف ليذكروا مواقف لهم في مواجهة ممارسات النظام ولايدركون أن للشعب ذاكرة لم تصب بعد بداء النسيان ، فأين كانوا من الفساد الذي استشري والاستبداد الذي لم يتصدوا له باعتبارهم الصفوة المثقفة والذين يصنعون ويشكلون وجدان الشعب ووعيه ، كانوا يبحثون عن مصالحهم الشخصية علي حساب مصالح الشعب والتزلف للنظام للبقاء في دائرة الأمان بينما غيرهم من المعارضين خاصة من التيار الإسلامي يعانون من حملات الاعتقال وتشريد أسرهم ، كما كان الشعب يعاني من الكوارث التي توالت في ذلك العهد من غرق العبارات واحتراق القطارات وقصر ثقافة بني سويف وانهيار العمارات فوق رؤوس ساكنيها وانهيار الأوضاع الاقتصادية، ومع كل ذلك لم نر دورا لهؤلاء المثقفين إلا ماندر في الوقوف للدفاع عن حقوق الشعب المشروعة في الحياة الكريمة ويأتون الآن ليرتدوا أثواب البطولة وأقنعة الدفاع عن المظلومين علي طريقة عفا الله عما سلف !! المثقف الحقيقي هو من يحمل راية التغيير ويكون قاطرة لنهضة الأمم لا أن يلتحق بركب الحكم كما يتلازم موقفه السياسي مع التزامه الأخلاقي ويتحمل عواقب آرائه ومواقفه وهذا مالم يفعله الكثيرون من مثقفي مصر الذين يجب أن يتواروا خجلا مما فعلوه دعما لاستمرارهذا النظام وما لم يقدموه من أجل بلدهم وشعبهم !! كلمة أخيرة من يأبي اليوم قبول النصيحة التي لاتكلف شيئا.. سوف يضطر في الغد إلي شراء الأسف بأغلي سعر ! (أفلاطون)