لآلاف السنين ظلت وعاء يحفظ أسرار الحضارة الفرعونية التي أدهشت العالم بمفرداتها، لتجسد صناعة أوراق البردي عبقرية المصري القديم في ابتكار واحدة من أهم وسائل نقل المعرفة والعلوم عبر التاريخ. وهي الحرفة التي تقف اليوم وحيدةً في مواجهةٍ واقعٍ ينتهك بوحشةٍ قدسيتها، بعدما تراجع إنتاج قرية »القراموص» بمحافظة الشرقية لأوراق البردي، رغم أنها تعد القرية الوحيدة في العالم التي تتخصص في هذه الصناعة، فبعد أن ظلت لسنوات قبلة للسياح الذين كانوا يقصدونها للتعرف علي مراحل تصنيع أوراق البردي، تبدّل واقعها لتواجه أوضاعاً مأساوية تنذر بانهيار الصناعة التي تفرّدت بها، وهو ما رصدته »آخرساعة» في جولة لها داخل القرية. ساعتان ونصف الساعة هي المدة التي استغرقناها حتي نصل إلي القرية التابعة لمركز أبوكبير بمحافظة الشرقية، أعواد نبات البردي التي تستقبلنا علي مشارف القرية بطولها الشاهق تعكس مدي ارتباط المكان بهذه الحرفة. يفخر أهالي »القراموص» بكون قريتهم الوحيدة في العالم التي تتخصص في صناعة ورق البردي. يُرجعون الفضل في ذلك إلي الدكتور الراحل أنس مصطفي أستاذ الفنون الجميلة بجامعة حلوان، الذي جلب قبل أربعين عاماً شتلة من نبات البردي ليزرعها في القرية، مُعلناً بذلك تدشين حُلمه في تحويلها إلي مركز لصناعة وإنتاج البردي بعد أن امتدت هذه الزراعة إلي جميع أراضي القرية. بينما تتملكهم الحسرة علي ما وصلت إليه هذه الحرفة. نستشعر هذه الحسرة ونحن نبحث بين بيوت القرية المتواضعة عن بقايا الورش التي مازالت تُمارس هذه الصناعة. لندلف إلي ورشة محمد إسماعيل الذي خصص لها غرفتين بدائيتين بمنزله الصغير. في الداخل تنهمك مجموعة فتيات في رص شرائح نبات البردي لإتمام صناعته. » مش فاضل في القرية غير 10 ورش» يقولها بحسرة صاحب المكان متذكراً العصر الذهبي للقراموص: كانت الأفواج السياحية تتوافد علينا لِتُعايش عملية صناعة ورق البردي بكل مراحلها، وأصحاب البازارات والمعارض السياحية. لم يكن يخلو بيت في القرية من ورشة صغيرة لصنع البردي، وكانت الورش أشبه بخلية نحل لكثافة العمالة بها، حيث كان يعمل بهذه الحرفة نحو 20 ألف شخص، فالصناعة هنا ظلت لسنواتٍ طويلة جاذبة لجميع القري المجاورة لنا، لينزح إلينا كثير من سُكان قري الرحمانية وكفر النجار والخلوة وعزبة بشير وعزبة غانم وغيرها. أما الآن فللأسف غيّر معظم الأهالي نشاطهم ولم تعد هناك خبرات تُنقل إلي الأجيال الجديدة لأن أغلب الصُنّاع هجروا الحرفة، فالمعوقات التي تواجهها الصناعة أدت إلي تراجعها وتقلص مساحة الأراضي المخصصة لزراعة البردي بالقرية من 500 فدان إلي عشرة أفدنة. كما أن معدل إنتاج القرية كان يتراوح بين 20 و30 ألف ورقة بردي يومياً، بينما لا يتجاوز حالياً ألفي ورقة. يُخبرني محمد أن مرحلة الانهيار بدأت منذ قيام ثورة 25 يناير وما أعقبها من تراجع كبير في السياحة، ما أثر علي صناعة البردي لاعتمادها أساسا علي البازارات السياحية. متابعاً: انعدام المرافق وعدم وجود شبكة للصرف الصحي داخل القرية، يُعد من المعوقات التي أسهمت في تدمير الحرفة، لأننا نستهلك كميات كبيرة من المياه خلال مراحل التصنيع تحتاج إلي وسيلة لتصريفها، وحتي الآن مازلنا نعتمد علي »الطرنشات» في الصرف، فالكارثة أن تزايد المياه الناتجة عن الصناعة خلال سنواتٍ طويلة أسهم في زيادة منسوب المياة الجوفية، ما أصبح يشكل تهديداً علي البيوت وورش التصنيع بداخلها. غير أن هناك كثير من المشكلات الأخري التي تواجهها الحِرفة والتي تبدأ من مشكلات الزراعة المتمثلة في قلة مياة الري، ما يمثل لنا أكبر التحديات لأن نبات البردي يُعد نباتاً صيفياً نبدأ زراعته في شهري مارس وأبريل ويبقي في الأرض لسنواتٍ طويلة تصل إلي خمس سنوات، وهو ما يزيد من حاجته إلي كميات هائلة من المياه. بالقرب منه يُمسك سامي محمد أحد العاملين في الورشة مجموعة من أعواد البردي، موضحاً لنا مراحل التصنيع: بعد قيامنا بحصاد هذه الأعواد التي يتراوح طولها بين المتر والأربعة أمتار، نقوم بتقطيعها بمقاساتِ محددة حسب الطلب، وتبدأ هذه المقاسات غالباً من 30x40 وتصل إلي مترx مترين، ثم نبدأ بإزالة القشرة الخارجية لنحصل علي اللب الذي يُشكّل جوهر صناعة ورق البردي. وهناك طريقتان للتصنيع تختلف حسب الشكل النهائي للورق المُراد إنتاجه، فهناك نوع من البردي يتميز بدكانه لونه الذي يميل إلي اللون البني، والذي يُعطي إيحاء بالقِدم. وهذه الطريقة تتم عن طريق غلي لُب أعواد البردي، واستخدام مطارق خشبية لفردها ومن ثم تجفيفها. أما الطريقة الأكثر شيوعاً كما يشرح فتبدأ بمرحلة »التشريح» وفيها نستخدم خيوطاً بلاستيكية سميكة وحادة لتقطيع لب النبات إلي شرائح دقيقة، نضعها داخل أحواض ضخمة لتبدأ مرحلة »التخمير» أو التسوية، التي تعتمد علي معالجة لُب البردي بإضافة الصودا الكاوية حتي تصل الشرائح إلي درجة من المرونة، كما أن النبات به نسبة مرتفعة من الحديد يُمكن أن يتغير لونه بفعل عملية الأكسدة التي تحدث عند تعرضه للهواء، لذلك نقوم أيضاً بإضافة نسبة من الكلور حتي نُحافظ علي درجة اللون الأصفر الأقرب إلي لونه الطبيعي. بعد ذلك تبدأ مرحلة الرص والتي تتطلب دقة وحرفية شديدة لتنسيق الشرائح الطولية والعرضية بشكلٍ متقاطع بحيث يكتمل التكوين النهائي لورقة البردي. وهي العملية التي تُنفذ علي قطع من الكرتون مُغلّفة بالقماش تأخذ مقاس الورقة. لنقوم أخيراً بتجفيفه تحت أشعة الشمس، قبل أن نصل إلي المرحلة الأخيرة وفيها نضع أوراق البردي داخل مكابس حديدية لضغطها من أجل التخلص من نسبة الرطوبة الباقية، حتي تخرج الورقة في صورتها النهائية دون تقوّسٍ أو اعوجاج. »احنا بنشتغل بالخسارة» يقولها بحسرة سعيد طرخان رئيس جمعية مُنتجي البردي بقرية القراموص الذي بدأ العمل بهذه الصناعة منذ أواخر السبعينيات. يرفض سعيد أن يتخلي عن حِرفة يري أنها تحمل هويته المصرية وتعلمه الكثير من الصبر: هذه الحرفة شاقة ومُتعبة جداً فورقة البردي تحتاج إلي يوم كامل لتصنيعها، وتكمن القيمة الحقيقية في يدوية الحرفة المتأصلة جذورها في عمق تاريخنا وحضارتنا. يُخبرني أن تكلفة تصنيع الورقة تتجاوز جنيها ونصف الجنيه، بينما يصر التجار علي شرائها ب1.25 قرش. أي أن تكلفة الألف ورقة 1500 جنيه، في حين لا يتجاوز سعر بيعها 1250 جنيها. والأدهي من ذلك أن الوسطاء الذين يشترون منّا ورق البردي حالياً يستغلّون حاجتنا ويلجأون إلي تخفيض أسعار التوريد لتتضاعف خسارتنا. لم يكتفِ صُنّاع البردي بقرية القراموص بإنتاج الورق الخام. فبعد انتهاء مراحل التصنيع تبدأ مرحلة الطباعة والتلوين كما يُخبرني سعيد، والتي كانت تتم داخل مطابع صغيرة ظلت تُغلق أبوابها تِباعاً حتي بقي مرسمه وحيداً داخل القرية. يصحبنا سعيد إلي مرسمه الذي أسسه فوق سطح منزله قبل عشرين عاماً، وهناك تستقبلنا رائحة الألوان الطازجة التي تنبعث من باليتات وقوارير الألوان المتناثرة. أندهشُ من براعته في نقش التصميمات الفرعونية، يُشير سعيد إلي طاولة الطباعة التي تتوسط المرسم: تعلمنا تكوين الألوان ودرجاتها المختلفة علي يد أساتذة كليات الفنون الجميلة والفنون التطبيقية، الذين كانوا يأتون إلي القرية في نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات. وهو ما مكننا من طباعة مستنسخات الفن المصري القديم غير التصميمات اليونانية والإسلامية التي ننقلها إلي ورق البردي، من خلال الشبلونات التي تتكون من ألواح شفافة تحيطها أطر خشبية، ويتم عليها تصوير التصميم المراد طباعته بعد أن نقوم بنقشه يدوياً. يؤمن سعيد أن الحرفة التي ظل مخلصاً لها لن تندثر، لذلك لا يدخر جهداً في طرق أبواب المسؤولين لعرض مطالب صُنّاع البردي: طالبنا الصندوق الإجتماعي للتنمية بمنحنا منحة لإحياء مشروع صناعة البردي بالقرية، وتوجهت إلي اتحاد الصناعات ومركز تحديث الصناعة بمطالبنا ولكن لم يتم الاستجابة لها حتي الآن. للأسف لا نجد أي تقدير أو اهتمام من جانب الحكومة التي يُفترض أن ترعي هذه الحرفة. كثير من المسؤولين الذين لجأنا إليهم يتقاعسون عن مساندتنا بحجة أن أوضاع السياحة متردية وبالتالي لا يحق لنا المطالبة بالدعم، رغم أن هناك منافذ عديدة يمكن استغلالها لتسويق منتجنا محلياً. يتابع: قدمت بالفعل مقترحاتٍ عدة لمحافظ الشرقية الدكتور رضا عبدالسلام، لمخاطبة وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي، لاستخدام أوراق البردي في إنتاج الشهادات الجامعية وتلك الخاصة بالمراحل الدراسية المختلفة. لما تضفيه من شكل جمالي وما تثيره لدي الطالب من اعتزاز بتاريخه وحضارته وتجعل الطفل أكثر اتصالاً بالبعد التراثي الذي تعكسه الصناعة، وتُحفّز الحرفيين علي الاستمرار في الإنتاج وتضمن رواج أوراق البردي. كما يمكن استخدامه في إنتاج شهادات التقدير الخاصة بالوفود الأجنبية المُشاركة في مختلف الفاعليات الثقافية والفنية والرياضية بمصر، غير أننا يمكن أن ننتج منه بطاقات الأفراح والمناسبات المختلفة، ولكن نحتاج إلي جهة داعمة تسوّق منتجنا لدي الأسواق المحلية. ويصف الدكتور عزالدين نجيب رئيس »جمعية أصالة للحرف التراثية» ما لحق بحرفة البردي من انهيار بالكارثة، ملقياً المسؤولية علي الحكومة لعدم قيامها بأي دور في مساندة الحرفيين ومساعدتهم لفتح طرق بديلة لتسويق منتجهم من البردي، في ظل تراجع قطاع السياحة الثقافية الذي كانت تقوم عليه صناعة البردي بشكلٍ أساسي. وللأسف مازلنا نعتمد علي السياحة المُستقبِلة وأهملنا بشكلٍ كبير السياحة المُرسِلة التي تُمارس عن طريق إيصال منتجاتنا التراثية إلي الأسواق العالمية من خلال اتفاقات التصدير أو المعارض المختلفة، وهو ما التفتت إليه منذ سنوات طويلة العديد من الدول، فنجد المنتجات التقليدية الصينية والهندية في أسواقنا غير المعارض السورية التي تُقام باستمرار. غير أن أوراق البردي تشكل أوعية لحمل قيمة جمالية، ومن المهم أن نشجع الفنانين علي ابتكار تصميمات ومضامين فنية جديدة تحويها هذه الأوراق، مستغلين خشونة وتمويجات خام البردي في بعض أنواعه بما يمكن أن يخدم التصميم، لإنتاج لوحات فنية أو زخرفية أو لوحات بالخط العربي تكون في متناول قدرة المواطن العادي. كما نحتاج إلي بث الوعي الثقافي وتنمية المعرفة بالحرف التراثية، من خلال ورش عمل للطلاب في المدارس لإنتاج ورق البردي خلال حصص التربية الفنية بالاستعانة بالحرفيين، وهي تجربة محفزة لخيال الطفل وإبداعه. المشكلة الحقيقية في صناعة البردي كما يُشير نجيب تكمن في فردية الإنتاج، ما يجعل الصُناع يقفون وحدهم في مواجهة مخاطر كساد الأسواق، فيجب أن تتم إدارة هذه الصناعة من خلال كيان اقتصادي تُسهم في دعمه الدولة. إلا أن ما تتعرض له هذه الصناعة للأسف تُعاني منه أيضاً معظم الحرف التراثية التي تنتشر في جميع محافظات الجمهورية، وخطورة ذلك أنه سوف يحدث عملية عقم في توريث الحرف تؤدي إلي اندثارها. فهناك للأسف حالة كسل فادحة في الجهات المنوط بها الحفاظ علي التراث المصري، وزارة الثقافة أصبحت الآن خارج الخدمة ولم يعد هناك إلا عدد قليل من المراكز المعنية بالحفاظ علي الحرف وتنمية مهارات الحرفيين وأغلب هذه المراكز غير فاعلة. ما جعلني أُطالب منذ سنوات بإقامة مجلس أعلي للحرف التراثية، هذا المشروع طرحته علي أكثر من رئيس وزراء آخرهم المهندس إبراهيم محلب لكني لم أتلق أي دعوة لمناقشته حتي الآن. بينما يؤكد عثمان شعلان رئيس مركز ومدينة أبوكبير أن محافظة الشرقية تسعي لحل المشكلات التي تواجهها قرية »قراموص»، بما يسمح لها باستعادة مكانتها الفريدة في صناعة ورق البردي. متابعاً: نسعي إلي تحويل القرية إلي مزار سياحي وإقامة نماذج لمصانع البردي، بعد الانتهاء من تنمية البنية التحتية والمرافق الأساسية في المكان، وهي الخطوة التي سنبدأ بتنفيذها بوضع القرية علي رأس الخطة القادمة لمشروعات الصرف الصحي بالمحافظة، لمواجهة مشكلة ارتفاع منسوب المياه الجوفية التي تُهدد البيوت وورش إنتاج البردي. كما نسعي لحل مشكلة مياه الري اللازمة للزراعة مع الإدارة العامة للموارد المائية بالمحافظة، نحاول أن نزيد حصص القرية من مياه الري في ترعة الرحمانية، وهي المناوبات التي تُنظم الري الحقلي، كما خاطبنا المجلس الأعلي للجامعات للاستفادة من ورق البردي المُصنّع في القرية لإنتاج الشهادات الجامعية.