يعود المخرج" وودي آلان 81 سنة" بفيلمه مقهي المجتمع، إلي العالم الذي يهواه ويعشقه، ولا يمل الحديث عنه، وهو عالم السينما بكل مايحيط بها، من مشاريع ونجوم، وقصص نجاح وفشل وإحباط، وخداع وشهرة وثراء، وشائعات وفضائح إلخ، عالم هوليوود مصيدة الحالمين! تدور أحداث الفيلم الذي كتب له وودي آلان السيناريو أيضا، إلي سنوات الثلاثينيات من القرن المنصرم، في حالة نوستالجيا واضحة لعصر من مجد هوليوود ونجومها الكبار وأفلامها الضخمة التي أصبحت الآن من الكلاسيكيات! عرض فيلم "مقهي المجتمع" لأول مرة في مايو الماضي من خلال مهرجان كان السينمائي، ولكنه كالعادة كان خارج المسابقة حيث لايفضل "وودي آلان" أن يضع نفسه في حالة تسابق مع غيره من المخرجين، أو صناع السينما! إذا كنت من هواة متابعة أفلام المخرج العجوز، فسوف تدرك أن الحوار مادة أساسية في تكوين عالمه، من خلاله يعبر عن فلسفته، وآرائه في الحياة والمجتمع والدين، وهو رغم كونه يهودياً إلا أنه لا يتوقف عن السخرية من بعض العادات والأفكار المتوارثة لدي الأسر اليهودية، من خلال صوت الراوي نتعرف علي عائلة "بوبي" أو جيس أيزينبيرج، وهي مكونة من أم يهودية تقليدية شديدة التمسك بمعتقداتها، ووالده الذي يشاطرها نفس الأفكار،وشقيق أكبر يعمل في كل ما يخالف القانون، ويحتمي بعصابة تقتل وتسرق بكل بساطة، ولكنه ابن بار بعائلته، أما شقيقه "بوبي" فهي ربة منزل عادية، ومتزوجة من مثقف يساري، مسالم، يذهب بوبي لأول مرة إلي هوليوود بنصيحة من أمه، ليزور خاله "ستيف كاريل" الذي يعمل مديراً لأعمال كبار نجوم السينما في هوليوود، وهو رجل شديد الثراء وعملي، ومشغول دائما، حتي أنه لم يجد الوقت الكافي لمقابلة ابن شقيقته، إلا بعد عدة أسابيع قضاها الفتي في الذهاب والعودة من الفندق الحقير الذي كان ينزل فيه، إلي مكتب خاله شديد الفخامة، وأخيراً يجد الخال وقتا وسط جدوله المزدحم للقاء ابن شقيقته، ويخبره بوضوح أنه لايجد له عملا مناسبا في الوقت الحالي، ولكنه سوف يفكر في شيء ما يناسبه، ويعهد لسكرتيرته الشابة "فوني" أو كريستين ستيوارت، بمرافقة بوبي ومحاولة الترفيه عنه، بعمل جولة سياحية في هوليوود والفرجة علي الفيلات الفاخرة التي يسكنها النجوم في حي منهاتن، ويقع بوبي في حب سكرتيرة خاله من الوهلة الأولي، ويزداد هيامه بها مع كل لقاء، ولكنها تصارحه بأن هناك رجلا في حياتها، ولايعلم الشاب أن غريمه هو خاله "فيل" إلا بعد أن يكون قد وقع لأذنيه في غرام "فوني"، واتفق معها علي الزواج، وهنا يتدخل الخال لإغراء الفتاة بالزواج منه، بعد أن قام بالانفصال عن زوجته، وتنحاز "فوني" إلي الخال الثري، وتهجر الفتي الذي عشقها وأصبحت حلم حياته، ويتحمل فوني آلام الفراق ويحاول أن يجتهد في عمله، وخاصة بعد أن تعرف علي شخصيات بارزة ومؤثرة في هوليوود، وأصبح مديراً لمقهي المجتمع، الذي يرتاده أشهر رجال الأعمال والسياسة والنجوم، والعصابات أيضا، أما شقيق "بوبي " الذي يمارس الأعمال الإجرامية، فيتم القبض عليه لاتهامه بالقتل ويحكم عليه بالإعدام، ويقوم قبل تنفيذ الحكم عليه باعتناق المسيحية،لأن الدين اليهودي لايؤمن بالحياة بعد الموت، ورغم فضيحة إعدام شقيقه الأكبر إلا أن شهرة مقهي المجتمع لا تتغير بل تتزايد، حيث يعيش روادها علي النميمة والشائعات، وتبادل الحكايات والفضائح، ويصبح بوبي شخصية مؤثرة، ويتزوج من مطلقة حسناء "بلاك ليفلي" ولكن عشقه وحبه ل "فوني" لا يغادر مخيلته أبدا، بل يزداد تأججا وخاصة بعد أن جاءت مع زوجها "فيل" لقضاء سهرة في المقهي، وحديث يدور عن التغيرات الجذرية التي حدثت في شخصيتها، وشخصيته بالتالي، ولكن رغم كل ماحدث في حياة كل منهما فإنه لم يستطع أن يحلم بسواها، ولا هي استطاعت رغم الحياة الفاخرة التي تحياها أن تتوقف عن حلمها به، ويعبر المشهد الأخير عن تلك المشاعر التي يكنها كل منهما للآخر رغم بعد المسافة واستحالة اللقاء! أفلام وودي آلان ليس فيها صراعات صاخبة، ولا مطاردات ولا خيال علمي، ولا معارك حربية، أو ألغاز بوليسية، ولكن همه الأول هو الإنسان والمكان والزمان، وتلك المشاعر التي تلجم تصرفاته وتحدد أحلامه ورغباته، الانقلابات في الشخصيات واردة، أحيانا تصل إلي حدود الانفلات، ولكنها في هذا الفيلم تبدو وكأنها نار تحت رماد، استعاد وودي آلان زمن الثلاثينيات من خلال الملابس والماكياج وتسريحات الشعر، والديكورات والسيارات ، وحتي لون الكادر الذي يقترب من البني المحمر وكأنه صورة قديمة تعود إلي ثمانين عاما! من المرات القليلة التي أميل فيها للإعجاب بأداء "جيس إيزينبيرج"، أما كريستين ستيورات فهي مبهرة ببساطتها وأدائها العفوي،لا يزال الحوار هو أقوي عناصر الفيلم، يفوق الحكاية تأثيرا وقوة، ورغم أن السينما لغة صورة، إلا أنها عند وودي آلان لغة حوار وصورة ولا يقل أحدهما تأثيراً عن الآخر! في جدول المخرج العجوز عدة مشاريع فنية يعمل عليها منها فيلم يقوم بتصويره الآن من بطولة" كيت وينسليت" و"جاستين تيمبرلاك" فهو لايتوقف عن الإبداع والحركة وطرح أفكاره وآرائه وفلسفته عن تجربته أو تجارب الآخرين من خلال فن السينما الذي يعشقه!