حالت ظروفي دون حضور العرض الخاص لفيلم الفاجومي، وفضلت أن أشاهده في إحدي دور العرض القريبة من منزلي، وكان عدد الحضور يزيد علي توقعاتي،وخاصة بعد موجات التخويف من البلطجية الذين يملأون الشوارع، وغياب الأمن، وغيرها من الأقاويل التي يرددها البعض ليبث الرعب في قلوب الناس، لمنعهم من مغادرة منازلهم إلا في أضيق الحدود، لكن علي مين، فالناس تملأ الشوارع وتذهب إلي حيث تريد، وكانت القاعة التي تضم أكثر من شاشة بها أعداد معقولة من الرواد، مع الوضع في الاعتبار أننا في عز موسم الامتحانات، ومعظم الأسر المصرية "ملهية"لشوشتها في الاستعداد للثانوية العامة، الذي يفوق استعدادنا جميعا للانتخابات القادمة! وطبعا يجب أن تتوقع أن جمهور فيلم الفاجومي له طبيعة خاصة، فهو جمهور لايبحث عن فيلم فيه كام إفيه بايخ، ولابطل يقفز من فوق أسطح المنازل دون أن تنكسر رقبته، ولاممثلة تقترب من الخمسين، وتحاول جذب الجماهير بخلع كل مايمكنها خلعه من ملابسها! إنه فيلم لجمهور يحب السينما ويحترمها،وقد ساقتني الظروف للجلوس جوار عائلة من خمسة أفراد، بين سن الثلاثين والستين، وكنت أستمع دون قصد مني لبعض تعليقاتهم التي تدل علي الدهشة الشديدة من التطابق بين مايحدث علي الشاشة ومايحدث في واقعنا المعاصر، رغم أن أحداث الفيلم تتحرك في سنوات الستينيات والسبعينيات وقليل من الثمانينيات، وتقفز دون أن ندري إلي الزمن الحالي فنشعر وكأن الزمن لم يتغير بنا خلال أكثر من أربعين سنة، فما كنا نعاني منه في الستينيات لايختلف كثيرا عما قاسيناه في التسعينيات وحتي لحظة خلع مبارك من حكم البلاد بعد ماظن أنه سوف يستمر جاثما علي صدورنا إلي أبد الدهر، وكمان كان في نيته توريثنا إلي إبنه وربما إلي حفيده أيضا! التاريخ يعيد نفسه، بتكرار وملل وسخافة أيضا، منذ أن ابتلانا الله بحكم العسكر وحتي يومنا هذا، وماكان يقاسيه المثقف المعارض لسياسة عبدالناصر، من اعتقال وضرب وسحل وإهانة، يتكرر في عصر السادات وفي عصر مبارك، وكأن المواطن المصري مكتوب عليه البهدلة ياولدي في كل العصور والأزمنة التي تمجد حكم الفرد! ورغم أن هذا البلد مر عليه الكثير من الشرفاء المعارضين الذين فضلوا مقاومة الظلم والفساد،عن التحالف مع قوي البغي ونيل المكاسب والمزايا، إلا أن أصواتهم كانت أضعف من أن تصل للحكام، وهرموا وماتوا قبل أن تتحقق غايتهم ، وهذا يدفعنا أو يجب أن يدفعنا إلي الإحساس بالفخر فعلا لأننا لأول مرة في تاريخنا المعاصر ننجح فعلا في إقصاء الحاكم الطاغية، ونخرجه من جنته هو وعائلته وعصابته، ونلقي بهم في السجون انتظارا لمحاكمات عادلة نرجو ألا يطول فترة انتظارنا لنتائجها! شعرت بسعادة شديدة وأنا أشاهد فيلم الفاجومي وأتابع جنازة عبدالناصر، التي شارك فيها الملايين الذين خرجوا لوداعه يبكونه ويبكون أنفسهم وأحلامهم التي ضاعت بعد نكسة يونيه، وعلينا أن نعترف أن حكم عبدالناصر كان له بعض المزايا، وقفز ذهني للجنازة العسكرية المهيبة للرئيس الأسبق أنور السادات، الذي اغتيل علي يد أعضاء من منظمات اتخذت من الدين شعارا، وسبب سعادتي الشديدة أنني أصبحت علي يقين أن ثورة يناير لم تفلح فقط في خلع مبارك من عرش مصر، بل حرمته من جنازة شعبية محتملة، لو أنه كان قد فارقنا بالمعروف وهو لايزال في السلطة! الآن أصبح الأمر كعشم إبليس في الجنة، ولو زاره الموت اليوم أو غداً أو بعد غد أو في أي يوم قادم فسوف يعامل مثل أي سجين مات، ولن يخرج في جنازته أقرب الناس إليه لأنهم جميعا في سجن طره، ولن يودعه إلا شعبه المنتصر ليس من باب الشماتة، لاسمح الله ولكن حتي يطمئنوا أنه قد دخل قبره ولن يخرج منه، إلا لحساب ربنا،الذي لم يفكر يوما في مواجهته! أعتذر لأني لم أدخل في موضوع فيلم الفاجومي ولكن ليس ذنبي أن أحداثه بتخبط وتتلاقي مع أحداث الحاضر، وخاصة وأن أشعار أحمد فؤاد نجم التي امتزجت بموسيقي الشيخ إمام بدت وكأنها تتحدث عن أناس نعرفهم وأحداث عاصرناها خلال الثلاثين عاما الماضية، رغم أنها في الحقيقة قد كتبت في زمن يسبق مانعيشه بربع قرن علي الأقل، وشعرت وكأن قصيدة جيفارا مات قد قيلت بعد استشهاد خالد سعيد، وغيره من شهداء يناير، وقصيدة يناير كأن نجم قالها في ميدان التحرير في يوم 52 يناير، فيلم الفاجومي أول فيلم مصري يحتفي بشاعر ويجعل كلماته أروع من أي حوار، من أهم شخصيات الفيلم خالد الصاوي الذي قدم الشخصية الرئيسية، الذي يجمع بين كل المتناقضات، فهو شاعر سياسي مهموم بقضايا وطنه، وفي نفس الوقت هو رجل يعشق مذاق الدنيا وخاصة النساء والحشيش ،ويعيش بلاقيود،رغم أنه قضي نصف سنوات شبابه في المعتقلات! عاصر حلم عبدالناصر وانكسر مع إنكسار هذا الحلم، وعاصر سنوات حكم السادات، وخرج في مظاهرات تطالب بالحسم وضرورة الحرب لرد الإهانة والعار الذي لحق بالجيش المصري بعد نكسة يونيه، وكان نتيجة ذلك رميه في المعتقل بعد تعذيبه وضربه،حاول نظام عبدالناصر أن يستقطبه ولما فشل حاربه هو ورفيق دربه الشيخ إمام، ومنعت أجهزة الاعلام الرسمية تداول أغنياته وحاربته في رزقه وقد ذاع سيطه وانتشرت أغنياته وتخطت حدود مصر إلي كافة الدول العربية! وسوف يكون الفاجومي درة أعمال خالد الصاوي لسنوات قادمة! قدمت جيهان فاضل دورا يؤكد موهبتها وشجاعتها فهي تقدم شخصية حورية"أم آمال" وهي سيدة شعبية مطلقة ،ترتبط بعلاقة خاصة مع الفاجومي، تحبه وهي تدرك أن علاقتها به مكتوب عليها الفشل، تتطور الشخصية بعد أن ترتدي ابنتها الحجاب في سنوات السبعينيات وتتزوج من شاب ينتمي إلي جماعات دينية، وهي مقدمة لاستسلام المجتمع المصري للتيارات الدينية المستوردة من الخليج علي الطريقة الوهابية! وهو مايدخلها في صدام مع الحكومات المتعاقبة! صلاح عبدالله في شخصية الشيخ إمام، المغني والمطرب الكفيف الذي استطاع بموسيقاه التي عانقت أشعار أحمد فؤاد نجم أن يحلق في سماء الشهرة والمجد، وهو الصديق اللدود الذي قد يندفع تجاه مصالحه الشخصية، طمعها في بعض المكاسب المادية فيصطدم بمبادئ نجم ويدب بينهما الخلاف، وسرعان ما يعود بينهما الوئام والمحبة والمصلحة أيضا! الفاجومي لايقدم حياة الشاعر أحمد فؤاد نجم فقط،ولكنه مسح واستعراض لأهم الأحداث التي مر بها المجتمع المصري خلال النصف قرن الأخيرة بداية من قيام ثورة يوليه، وحتي منتصف الثمانينيات، مع القفز إلي ثورة يناير التي كانت التطور الطبيعي لكل الانتفاضات الشعبية السابقة! صوت أحمد سعد وموسيقي شريف محروس ومونتاج معتز الكاتب وتصوير محمد شفيق وسيناريو عصام الشماع مع أداء خالد الصاوي وصلاح عبدالله وجيهان فاضل سيمفونية سينمائية بديعة في زمن شحت فيه الأفلام الجميلة! مع الفاجومي يبدأ عصام الشماع رحلته الحقيقية ليضع اسمه بين أهم مخرجي السينما المصرية في الوقت الحالي!