لدّي إيمان وثقة بأن شفاء البدن ليس بالوصفات الطبية ، إنما بسحر تحفيز القوة الكامنة للإنسان ، بجرعات الحب والرعاية المنشطة ، التي تدفئ القلب فتشعل إرادة الحياة ، وتوقظ جيوش ولواءات الخلايا لرد الهجوم والقتال ، فتنتصر ويتجدد كالنسر شبابك .. هذه الجرعات المحيية يرسلها لك الله - الطبيب الأعظم - علي يد طبيب اختاره رسولا لحمل رسائل الحب والشفاء وإرشادنا لرؤية وجه الله المشرق بالرحمة ..وهذا الرسول أسعدني زماني بلقائه من ثلاثين عاما وأنا أحمل بذرة تكوين إنسان داخل أحشائي ، ومعها آلاف الأسئلة والمخاوف .. تلقفني الأستاذ د. شريف جوهر وقادني لبر الأمان النفسي والبدني مرتين .. وأهداني الله علي يديه زهرتين .. وبالأمس لم تثق ابنتي إلا به طبيبا وراعيا ، فتكررت العطايا والحمد لله .. ومع استعادة المشهد بحذافيره ، تابعت الدكتور شريف وهو يدير مستشفاه العريق ، الذي أقامه والده وهو بعد تلميذ في ابتدائي ، وأصبح شامخا مثله .. يقود فريق العمل بكفاءة القائد ومحبة الوالد وحكمة المعلم .. لكن الأهم في نظري ، هو درس أن تكون طبيبا .. الذي يبدأ بإشراقة وجهه لحظة إعلان خبر تأكيد الحمل للأبوين .. مجسدا معني "حادث سعيد " !!.. ويبدأ بنفس الصبر والاهتمام في قيادة كل أبوين لرحلة الحادث السعيد .. بتفاصيله العلمية ومخاطره ومفاجآته وأفراحه .. يتحول إلي طبيب نفسي وصديق ، وديكتاتور تركي لن يقبل أي مخاطرة أو إهمال للتعليمات ..فهو مسئول عن سلامة الأسرة القادمة .. هذه أخلاق الأساتذة التي يعلمها لفريق العمل المحظوظ منذ كان رئيسا لقسم النسا بمستشفي العجوزة . أما عشقه للولادة الطبيعية فيحتاج صفحات .. يدعي أنها عملية فنية بالدرجة الأولي تعلن براعة الطبيب .. لكني أعتقد أنه يستمتع بالمشاركة في آخر جزء في معجزة الخلق المذهلة التي يمنحه الله شرف أولوية استقبالها ، ويبارك في رعايته لها .. كم ألف معجزة تلقاها الدكتور شريف جوهر علي يديه وحررها من رحم الأم بسلام .. هل هناك لحظة فرح في الحياة تعادل خروج مولود جديد صغير نقي مغمض العينين ، ذراعاه الصغيرتان جناحان يرفرفان بقوة في فضاء واسع .. حنجرته تطلق الصرخة المفرحة ، أنا جئت أقتحم العالم !.. والعجيب هو تلقي د. شريف لهذه اللحظة المقدسة في صمت وفرح خاشع وكأنها نادرة ، وكأنها تحدث لأول مرة كل مرة طوال خمسين عاما !.. ولا يزال د. شريف حريصا علي إعلان الأهل بنفسه ببشري الميلاد.. كأنه فرحه الخاص .. كم بشري منحها هذا الأستاذ العظيم في علمه وتواضعه .. وماذا يجني والكل يحمل طفله ويبتعد تماما فلا يميزهم أطفالا أو رجالا ؟.. الإجابة جاءت وقت الثورة وانسحاب الشرطة وهجوم بلطجية الأمن للانتقام منا بالسلب والترويع ..فوجئ د. شريف بلجان المنيل الشعبية تتناوب حراسة مداخل المستشفي دون طلبه .. عرفانا بالجميل لأنهم أولاده ، أجيالا ولدت علي يديه بلا تمييز ، لأن المستشفي ليس مشروعا استثماريا ، إنما هو دار آمن وأمين ، يرعاه ويرويه لأنه هو بيته وموضع راحته .. كنوز حياته وسجله محفور علي جدرانه وأثاثه وممراته كمعابد ملوك الفراعنة ، رغم التحديث .. المستشفي شجرة راسخة الجذور مثمرة ، كثيفة الأغصان متشعبة الأفرع .. تظلل علي النيل والنيل يرويها ويروي لها ، ويمنحها فيضه وهدوء سريانه لأنهما شريكان في منظومة الحياة ، الطبيب يستقبل والنيل يروي .. والأسرة تشارك في احتفالية الحياة .. سامية جوهر ، الزوجة المتوهجة تدعم الصرح ، وتضخ فيض حماسها في شرايين العمل التطوعي ومشروعات الأنرويل للعبور بالعاجزين إلي الحياة الكريمة .. والابن د. حسين موجود لكن مستقل ومنافس تركي الجذور عنيد ، يدير ويطور.. والحفيد الصغير حسين ، الأقدام الصغيرة الوحيدة المنطلقة بمرح بالمستشفي .. حامل الجينات ، وربما حامل الراية القادم لهذا الدار الذي يسبح الله مع كل صرخة مولود .. وسبحانك أيها الخالق العظيم .. كيف أبدعت في مخلوقاتك الصغيرة .. كيف شكلت هذا التكوين .. هذه الأصابع الصغيرة التي تتكلم بفصاحة وبلاغة مذهلة ، تقبض علي طرف إصبعك بقوة لتراك وتراها .. وهذه الأقدام اللينة التي ترفس الهواء أخيرا بلا قيود.. وهذه العيون المغمضة التي تري حبك بوضوح .. وتستكين في حضنك بوداعة ، تمنحك من المشاعر أضعاف ما تأخذ منك ، حتي تدق طبول الجوع في الأمعاء .. وتدوي صفارات الإنذار سارينة لن يغلقها إلا شربة لبن متواضعة تسكن وترخي الأعصاب .. وتمنحك مكافأة تسحرك ، ابتسامة تجبرك علي مواصلة خدمة العبيد التي يحتاجها المولود. احتفل د. شريف مؤخرا مع دفعة طب قصر العيني باليوبيل الذهبي .. أخبرني أنهم كانوا 002 طبيب ، والأساتذة يصرخون من كثافة الطلاب التي تعوق دقة تعليمهم وتأهيلهم لعلاج ورعاية المرضي!!.. فعادت ترن في أذني كلمات مريرة علي الهواء لأحد المعتصمين في إضراب الأطباء الحالي ، صرخ " احنا لا دكاترة ولا اتعلمنا طب ، ولا لينا كرامة ، وبنشحت عشان احنا والعيانين نعيش.. لا أمن ولا علاج في مستشفيات الحكومة .. اقفلوها أحسن ". وتصورت أن غضبهم أصاب الحكومة ، أو حتي الوزير ولو بشظية ، وانتظرت ثورة تأييد من الوزير والمرضي .. لكن الوزير لا ثار ولا استقال ولا حتي أخد علي خاطره !! .. يمكن مستني جمعة إنقاذ الصحة في التحرير !.