مع كل خطوة تخطوها مصر في المرحلة الجديدة من تاريخها بعد ثورة 52 يناير تسلط الأضواء علي أهمية البحث العلمي ووضعه في أولوية هذه المرحلة.. إن النظر في هذه الأوضاع المتراجعة ثم إعادة النظر في أوضاع العالم من حولنا يرتب علينا رفضا قاطعاً لا لبس فيه لاستمرار حالة التراجع والجمود التي تسيطر علي أوضاعنا الراهنة ثم يرتب ثانياً وهو الأهم إنجاز تصور وطني طموح لاستشراف المستقبل بخصوص التطوير التكنولوجي. ولعل أهم التحديات التي تواجه البحث العلمي في مصر كما يقول"الدكتور مجدي زعبل.. أستاذ المناعة الوراثية بالمركز القومي للبحوث في الدراسة التي أعدها وحملة عنوان(الطريق الي دولة البحث العلمي)":هو تحدي الإدارة فالمنظومة البحثية في مصر تعاني من خلل إداري عقيم يتمثل في تناثر وحدات البحث العلمي بين الجامعات ومراكز الإنتاج والخدمات ومراكز البحوث وأصبحت كل هذه المؤسسات تحبس باحثيها خلف عوائق إدارية ولوائح فاسدة.. ومن ثم يبقي الهدف لتجاوز هذا التحدي هو تحرير البحث العلمي من القيود العقيمة الخانقة التي شلت قدرته وعطلت طاقاته..وتحقيق التكامل والتآلف العضوي (أو البحثي) أو العضوي والبحثي إذا لزم الأمر بين وحدات البحث العلمي كلها.. وفي إطار التخطيط لتحدي المعوقات الإدارية يلزم التأكيد علي استخدام أساليب الإدارة الحديثة..وعلي سبيل المثال إدارة التخطيط الشامل لكل وحدات البحث العلمي كأنها منظومة واحدة.. والتطور التكنولوجي يتحقق إذا توفرت عدة شروط من بينها بناء قدرة تكنولوجية تعتمد أولاً علي رصيد رأس المال (أدوات إنتاج – معدات) وثانياً علي المكون البشري ممثلا في قاعدة العلماء – المهندسين – والعمال المهرة..و الاستفادة من تدفق المعلومات العلمية التكنولوجية العالمية وتوظيفها لبناء ودعم القدرات الوطنية..و تنشيط الإبداع المحلي لتخليق تكنولوجيات ملائمة للبيئة المصرية لتطوير مجالات بعينها مستفيدة من ما يسمي بالمزايا النسبية للموقع الجغرافي وطبيعة الإنسان.. وفي هذا الإطار ينبغي التأكيد علي أن التكنولوجيا يجب أن تكون في خدمة الأهداف الوطنية التي يصوغها عقول وطنية وعدم التسليم الأعمي بما يسمي "سيطرة التكنولوجيا علي الحضارة والثقافة" والتحدي هنا هو تطويع التكنولوجيا لقيم ثقافية وحضارية ننتمي إليها وتشبهنا تماماً. وعندما تتوفر الاشتراطات السابقة ينبغي علينا التركيز علي أن التكنولوجيا الحديثة تمتاز بحاجاتها إلي مشروعات كبيرة جداً لتحقيق مزايا الإنتاج الكبير لان زيادة حجم المشروعات يعني زيادة في الإنتاج أكبر من الزيادة النسبية في عناصر الإنتاج المستخدمة وهو بالتحديد النمط الذي تحتاجه مصر الآن وهي علي أبواب عصر النهضة المحتمل . وتبقي قضية التمويل هي إحدي العقبات الكبري التي تواجه البحث العلمي فالميزانية المتاحة هزيلة ولا تفي بأي معيار مستهدفات طموحة للبحث والتطوير.. والتحدي يبقي في التخطيط الكفء لتوفير ميزانية تتراوح من 3 5٪ من الدخل القومي تزداد بنسبة محددة كل 5 سنوات وتكون مرتبطة بخطة تنمية مستدامة بحيث تأتي عوائد الإنتاج بعد فترة محددة لتدخل في منظومة البحث والتطوير. ويقترح "الدكتور مجدي زعبل" تكوين صندوق "الرعاية العلمية" يمول من زيادة الضرائب علي السلع الكمالية ومظاهر الاستهلاك الترفي وحصيلة بيع أراضي الدولة وكذلك تقديم كافة الحوافز التمويلية والإعفاءات الضريبية والجمركية لمشروعات التطوير البحث ونقل التكنولوجيا والمعلومات. وتعاني الجامعات المصرية – ضمن ما تعاني – تراجعا حقيقيا في مجالات نشاطها الحيوي في توليد المعارف وتطويرها واستخدام المعرفة لتطوير المجتمع وقياداته حيث إن دور الجامعة المباشر ينحصر في ثلاثة محاور هي(إعداد وتهيئة الكوادر العلمية ودفعها لمسارات المجتمع-البحث العلمي والتطوير التكنولوجي- خدمة المجتمع وهي حصيلة وهدف مباشر للبندين السابقين)..وبالنظر إلي المحاور السابقة قياساً بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السائدة تبدو المفارقة غاية في التخلف فلا الكوادر جيدة التعلم ولا هي مناسبة لسوق العمل ولا ميزانية البحث العلمي قادرة علي الوفاء بأهدافه ولا المجتمع في النهاية قادر علي قطف أي ثمار. وخطة العبور بالبحث العلمي تنقسم إلي مرحلتين وكل مرحلة لها هدف محدد ومجموعة آليات (سياسات) لتحقيق الهدف..فمرحلة التحول (ثلاث سنوات) هدفها"عبور الفجوة وامتلاك معالم الطريق" وهو(هدف عاجل)..أما مرحلة الانطلاق العظيم ومدتها (01 سنوات) فتتشكل ملامحها في المرحلة الأولي وهدفها بناء المجتمع العلمي..وهذا لن يتحقق إلا من خلال الدعوة إلي تشكيل "المجلس الوطني للعلوم والتكنولوجيا " و يضم أبرز علماء مصر المهمومين والمهتمين بالتخطيط الاستراتيجي يعاونهم علماء مصر في الخارج ويكون هذا المجلس هو المرجعية الأساسية والمستقلة لمنظومة البحث والتطوير ويقوم علي وضع خطط التطوير ومتابعتها..واختيار قيادات الجامعات ومراكز البحوث عبر تقييم موضوعي وعلمي..وإدارة العلاقة بين وحدات البحث العلمي في الداخل ونظرائها في الخارج بهدف سرعة تجسير الفجوة العلمية والتكنولوجية..وتقييم المشروعات البحثية من حيث الجدوي وارتباطها بخطط التنمية الطموحة (مركزياً)..وإعادة هيكلة (أكاديمية البحث العلمي والمركز القومي للبحوث ووحدات الإنتاج والخدمات في الوزارات المختلفة) بشكل يسمح بتطوير نظامها الإداري والبحثي ليرتبط بمهام محددة لخطة التنمية القومية. وهنا يبرز دور تعظيم قيمة الإبداع والابتكار بالتشجيع والتطوير والرعاية للمؤسسات الحاضنة لهذه المشاريع..مع الإبقاء في المرحلة الانتقالية علي ضم وزارتي التعليم العالي والبحث العلمي لخدمة هدف التخطيط المشترك علي أساس أن الإدارة الإستراتيجية لأنشطة البحث العلمي والتكنولوجي لابد أن تكون علي المستوي القومي وحيث إن الجامعات تشتمل علي القوة الضاربة للعاملين بالبحث العلمي فليس من الحكمة فصل التعليم العالي عن البحث العلمي علي الأقل في المرحلة الراهنة. ويمكن النظر في الأمر فيما بعد المرحلة الانتقالية خاصة إذا نجحنا في دفع النسبة الأكبر من العلماء والباحثين لخدمة عمليات البحث والتطوير في قطاعات الإنتاج والخدمات دون أن يؤثر ذلك علي تماسك هيكل الجامعة ودورها وضرورتها التعليمية.. ولا يمكن كذلك السماح باستمرار الفروق الهائلة بين ما تحصل عليه القيادات العليا في الإدارة (مرتبات ومكافآت) سواء في الجامعات أو مراكز البحوث وبين ما يحصل عليه زملاؤهم وأقرانهم بحيث لا يزيد الفرق بين أقل مرتب وأعلي مرتب علي ثلاثة أضعاف.. ويرتبط بذلك أيضا إعادة النظر في هيكلة ولوائح ما يسمي بالصناديق الخاصة ضماناً للشفافية وعدالة التوزيع بين الجميع.. ولا يمكن أن تمر المرحلة الانتقالية (3سنوات) قبل أن نتخلص من عار الأمية الأبجدية وأن نعتبر هذه المهمة المقدسة تابع "مقدس" من توابع ثورة 52 يناير وأن يقوم بها الشباب خاصة. أما الهدف البعيد فهو بناء المجتمع العلمي "مرحلة الانطلاق العظيم" وذلك بعد أن تكون المرحلة الانتقالية قد وفرت الأسس الصلبة لبناء مجتمع المستقبل "دولة العلم"..ودولة العلم هي دولة الديمقراطية والعدالة والتنمية الشاملة "القومية بالضرورة"..ويحكمها رئيس منتخب علي أساس دستور ديمقراطي صاغته جمعية وطنية . ويقول" الدكتور ماجد عثمان.. وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات": أن الاستثمار في البحث العلمي هو أمر استراتيجيي بالنسبة لمصر وبخاصة قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والذي يعد حلقة مشتركة بين البحث العلمي والتعليم لاسيما وأنه أحد مجالات التعاون المشترك بين وزارتي الاتصالات والتعليم العالمي وهو استثمار سيكون له مردود إيجابي علي الاقتصاد والتنمية بمصر.. وقد تطور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات سريعا ويجب علي البحث العلمي أن يواجه هذا التطور لاستخدام نتائج البحث العلمي في التطبيقات بالقطاع فضلا عن التسويق للمنتجات بصورة جيدة. ويؤكد "الدكتور عمرو عزت سلامة..وزير التعليم العالي والدولة لشئون البحث العلمي":أنه سيتم تصحيح جميع الأمور والمشاكل التي تعترض النهوض بالبحث العلمي وذلك من خلال وضع برامج بحثية زمنية..والهدف في المرحلة القادمة هو نقل نتاج البحث العلمي للمجتمع وذلك لخدمة الوطن والمواطن..فالبحث العلمي هو القاطرة للتنمية ليحقق لمصر التقدم والرفاهية..حيث إن العالم المتقدم اعتمد علي البحث العلمي كوسيلة أولي للتقدم.. وحتي تكون خطواتنا سليمة فإن المهمة الرئيسية الآن هي تحديد حال الوضع الراهن للبحث العلمي والتكنولوجيا في مصر وتقويمه. ويأتي في مقدمة الأهداف الإستراتيجية لمنظمة البحث العلمي والتكنولوجيا تقليص الفجوة العلمية والتكنولوجية بين مصر والعالم إضافة إلي توظيف البحث العلمي لدعم اتخاذ القرار وحل مشكلات المجتمع وذلك من خلال إقامة شراكات حقيقية مع مؤسسات الإنتاج والخدمات الحكومية والخاصة..مع بناء منظومة بحثية قومية متكاملة تطلق خريطة بحثية شاملة ومترابطة لمصر..ومن الضروري إعادة الهيكلة لقطاع البحث العلمي والوصول إلي إطلاق خريطة بحثية تضم وتنسق جهود الباحثين في كافة قطاعات البحث العلمي في الجامعات ومراكز البحوث.. وعلي المراكز والمعاهد البحثية وضع المشاكل الحقيقية للمجتمع المصري علي قمة اهتماماتهم في توظيف البحوث العلمية والمشروعات لحلها ومواجهتها بشكل حاسم.. ومن الضروري تنشيط دور مراكز البحوث الإقليمية ودور مراكز البحوث في الأقاليم وتم الاتفاق مع المحافظين علي التنسيق مع رؤساء الجامعات ورؤساء مراكز البحوث في الأقاليم الاقتصادية السبع لمصر بحيث يكون هناك تواصل دائم وربط بين خطط وبرامج مراكز ومعاهد البحوث وبرامج العمل التنفيذية في المحافظات..وبالفعل تم الاتفاق علي ربط كافة التفاصيل الخاصة بكل إقليم اقتصادي علي مستوي المحافظات مع الجامعات الإقليمية وذلك لوضع الخطط التنفيذية المطلوبة وبناء علي متطلبات التنمية فيه وسيتم وضع برنامج زمني بالتنسيق مع وزارة البحث العلمي بحيث يكون البحث العلمي في كل إقليم اقتصادي بناء علي الاحتياجات الفعلية له.